يصعب، في هذه اللحظة، رسم خريطة لحلم الوطن العربي. لقد تم تمزيق «الدول» في معظم أنحاء المشرق العربي، وفي بعض المغرب العربي أيضاً (حتى لا ننسى ليبيا)، وانفرطت في بعضها «الوحدة الوطنية» التي كانت تتبدى متينة وعميقة الجذور، فإذا في كل دولة «شعوب» لا شعب واحد، وطوائف عديدة ولا دين واحداً يجمعها، ولا وطنية تؤكد وحدتها. وهذا انطباع يراد، بل يجري، تأكيده بالدم، وإن كانت مبرراته سياسية ومردوده يصب في مصلحة العدو الإسرائيلي، خصوصاً أنه يهدد بمسخ الشخصية العربية.
وإذا كان لبنان «استثناء» بسبب من تركيبة «الكيان» الذي كانت الطائفية من دواعي استيلاده منفصلاً عن محيطه توكيداً للحرص ـ عربياً وإسلامياً ـ على موقع متميز للمسيحيين العرب، بالتحديد، فإن فائض الشعور القومي مع الخلاص من الاحتلال العثماني (التركي) باسم الإسلام، جعل «العروبة» عنواناً للتحرر على طريق الوحدة القومية الشاملة (ولو بالتمني).
أما سوريا فإن الحرب فيها وعليها قد شرخت وحدتها الوطنية وشعارات العروبة التي ظللت الحكم فيها، غالباً، نتيجة الأصل أو الجذر القومي العربي (البعثي) لشرعية السلطة. وهكذا فإن سوريا اليوم بعدد طوائفها، وضمن كل طائفة بعدد الأعراق فيها. لقد تبدل الزمان. و «الجمهورية العربية السورية» التي تولى منصب الرئاسة فيها متحدرون من أصول كردية وتركمانية فضلاً عن «العرب» نسبوا أنفسهم بقرار واعٍ إلى العروبة، بالمعنى السياسي لا العرقي، ومن أديان وطوائف مختلفة فيها المسلم السني أساساً والمسيحي أحياناً (فارس الخوري) والدرزي نادراً، والعلوي في العقود الأخيرة، ودائماً بالشراكة مع الطوائف الأخرى. هذه الجمهورية قد تشلّعت دولتها، الآن، وتم تظهير «السبب الطائفي» أو «المذهبي» للانقسام، الذي حوّله التدخل الخارجي إلى واحد من مبررات الحرب الدائرة فيها، منذ خمس سنوات أو يزيد، بعدما صُوّرت وكأنها تدور تحت عنوان «إعادة الحق إلى أصحابه»، بالمعنى الطائفي وليس بدافع الحرص على وحدة الدولة في الوطن الواحد.
كذلك العراق، المثخن الآن بالجراح: لا صوت فيه يعلو على أصوات «الحق الطائفي في السلطة» ـ سنة وشيعة ـ والأصوات العنصرية (عرب ـ أكراد ـ وقوميات أخرى). وهذه أخطر ثمار الاحتلال الأميركي للعراق، إذ إن هذه الواقعة كشفت المطموس أو المسكوت عنه من خلل في تكوين السلطة منذ «الاستقلال» ووقائع «ثورة العشرين». ففي هذه اللحظة يتبدى وكأن «الشيعة» يعوضون حرماناً من السلطة، أو رفضاً لها بذريعة أنها «صناعة استعمارية». ويرتد عليهم اتهامهم لشركائهم في الوطن ـ أهل السنة ـ من أنهم قد تواطأوا مع الاستعمار البريطاني ـ آنذاك ـ لاستبعاد الأكثرية الشيعية عن السلطة ومحاولة استرضائهم بتنصيب الملك فيصل الأول، ابن الشريف حسين، ملك الحجاز ومطلق الرصاصة الأولى إعلاناً للثورة العربية الكبرى ضد الاحتلال التركي.
ها هم الشيعة الآن متهمون بالتواطؤ مع الاحتلال الأميركي للهيمنة على السلطة، واستبعاد أهل السنة، بذريعة «إعادة الحق إلى أصحابه!»
ومع الاعتراف بأن الشيعة يشكلون أكثرية عددية في العراق، فإن «نهم» قياداتهم إلى السلطة فجر الصراع في ما بينهم، فأنهك «الطائفة» وقدمها بصورة مهينة لكرامتها ولحقوقها، وأخرجها من العروبة وعليها، خصوصاً أن من تصدروا السلطة في السنوات القليلة الماضية قدموا صورة كالحة عن الجشع المستولد الفساد، وعن الرغبة في الهيمنة بتجاوز الدستور والقوانين والتحالفات التي رعى المحتل الأميركي قيامها وظلت مفاتيحها بين يديه… بالشراكة الضمنية مع النفوذ الإيراني الذي اخترق السياسة بالطائفية.
في المقابل، فإن الأكراد يتبدون وكأنهم نجحوا في استقطاع كيانهم الخاص، أو مشروع «دولتهم»، مستفيدين من الدعم الخارجي، ومن انشغال «المركز»، أي بغداد، بهموم الانقسام الخطير بين السنة والشيعة. وهكذا فإن الصراع على السلطة بين مجموعات فاسدة، فضلاً عن تلوثها بالغرض الطائفي، يوشك أن يدمر عروبة العراق فضلاً عن دولته.
ولأن الطائفية مرض معدٍ، ولأن مستثمري هذه الآفة خليط من قوى الهيمنة الأجنبية، ومن الانتهازيين المحليين، فقد انفتحت أبواب جهنم أمام المشرق العربي جميعاً. وهكذا، فما إن تم تفجير الصراع في اليمن حتى انشطر هذا المشرق أقواماً وجماعات طائفية ومذهبية مقتتلة، على طول المساحة ما بين لبنان على شاطئ المتوسط حتى اليمن على البحر الأحمر وبحر العرب ـ صلة الوصل مع المحيطَين الأطلسي والهادئ.
السلطة هي الهدف، والطائفية هي السلاح الفتّاك، لاغي وحدة الشعوب، مدمر التطلعات إلى الاستقلال والوحدة والاشتراكية، والمتسبب في إسقاط فلسطين من موقعها في قلب النضال العربي من أجل التحرر، والمزين أسباب مهادنة العدو الإسرائيلي، ومبرر اللجوء إلى «الامبريالية» والاستعانة بها لمقاتلة الأشقاء في الوطن من أجل الوصول إلى السلطة أو احتكارها، بذريعة التعويض عن غبن تاريخي استطال زمانه أكثر مما يجب أو يجوز.
الصورة في المشرق العربي بائسة، تنذر بمخاطر جدية على الحاضر العربي وعلى المستقبل المتروك مصيره للقوى المؤهلة لإعادة صياغته، وأبرزها إسرائيل التي مكّنها السقوط العربي من الجمع بين تحالفها الذي يكاد يكون «وحدة مصير» مع الولايات المتحدة الأميركية، وعلاقة الشراكة المستجدة بينها وبين الاتحاد الروسي. والزيارة الأخيرة لرئيس وزراء العدو، نتنياهو، لموسكو، وأحاديثه الودية مع الرئيس بوتين تتأكد دلالاتها المستقبلية أكثر عبر «الهدية» التي قدمتها له روسيا ـ صديقة العرب الأولى في زمن مضى ـ تدشيناً للمستوى الممتاز للعلاقة بينهما في طورها الجديد: دبابة إسرائيلية كان الجيش السوري قد غنمها خلال معركة مجيدة في حرب رمضان ـ تشرين، ثم أهداها إلى حليفه الروسي ـ آنذاك ـ في مبادرة تتجاوز الشكر إلى توكيد نوع من التحالف في مواجهة «عدو مشترك».
الطريف أن «الطائفية» التي تتبدى في المشرق العربي سرطاناً يفتك بالوطنية والعروبة والمصير المشترك بين شعوب هذه الأرض العربية، قد وثّقت الأواصر بين روسيا بوتين وإسرائيل نتنياهو، وذلك بفضل المليون يهودي المتحدرين من أصول روسية والذين باتوا يشكلون نسبة الخمس من سكان دولة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين.. وقبل ذلك بسبب تهافت الموقف العربي المنقسم بانقسام أهله.
المفارقة مؤلمة: إسرائيل تعيد تهويد من كانوا قد غادروا هويتهم الدينية، وتأتي بهم كمستوطنين فيها، يصادرون ما تبقى من أراضي أصحابها الفلسطينيين ويقيمون مستوطناتهم فوقها، بينما العرب يقتتلون مستجيبين لدعاوى الفرقة الطائفية والمذهبية (سنة وشيعة)، فيخسرون دولهم الممزقة الآن بالحروب الأهلية رافعة الشعار الإسلامي («داعش» و «النصرة»)، ويأخذهم التيه من التحالف مع واشنطن إلى طلب النجدة من موسكو، وقد أسقطوا عنهم هويتهم الجامعة التي كانت ضمانة سلامة لكياناتهم.. في انتظار حلم الوحدة التي تتبدى اليوم وهماً غارقاً في دمائهم.
لقد ضربت رياح الفتنة الطائفية والمذهبية المشرق العربي من أدناه إلى أقصاه: من لبنان الذي يهتز ولا يسقط لأسباب تتجاوز قدرات أهله، إلى سوريا الغارقة في دماء أبنائها والتي تمزقت أرضها «دولاً» لعصابات تحمل الشعار الديني، أو أنها تستعيد من بطن التاريخ «هويات قومية» لم يكن لها مشكلة مع «الدولة الوطنية» التي ارتضاها الجميع كمرحلة على طريق الوحدة العربية الشاملة… فإلى العراق الذي استباحه «الخليفة أبو بكر البغدادي» ليقيم فيه «دولته» بالرؤوس المقطوعة لرعاياه.. إلى اليمن السعيد الذي يتم تمزيقه جهات وطوائف وأعراقاً من أجل منفذ للنفط إلى بحر العرب، يعفي من المرور في الخليج العربي، لضرب «الهيمنة» الإيرانية على هذا الخليج.
لقد أسقطت الهوية الجامعة لهذه الدول التي قد يرى فيها بعض أهلها، الآن، كيانات غير مؤهلة للحياة اصطنعها الغرض الاستعماري، بعد الحرب العالمية الأولى، وعبر معاهدة «سايكس ـ بيكو» 1916 التي شلّعت المشرق العربي وهيّأته ليمكن تنفيذ وعد بلفور، بعد عام واحد، أي 1917، بإقامة الكيان الصهيوني فوق أرض فلسطين.
بعد مئة عام من تلك «المعاهدة» التي مزّقت المشرق العربي أشتاتاً، وذلك «الوعد» الذي يعتبر الأساس الاستعماري لإقامة الكيان الصهيوني فوق أرض فلسطين، يبدو المشرق العربي مزقاً من الأرض تكاد تغرق في دماء أبنائها، وقد نسوا عدوهم القومي أو تناسوه، وذهبوا مستضعفين متكارهين إلى مستعمريهم القدامى يطلبون النجدة ضد بعضهم البعض، من دون أن يسقطوا احتمال الاستعانة بالعدو القومي لهم جميعاً: إسرائيل. ولقد كانت مصر واحدة من أهم ضمانات وحدة الهوية العربية لهذه الشعوب التي وزعها المستعمر على كيانات متباغضة ومتنازعة على حدودها.
وفي انتظار عودة مصر إلى دورها القومي سيظل المشرق بؤراً لحروب أهلية تمزق كياناته وتزرع الفتنة بين أبنائه وتقوده إلى مصير أشد بؤساً من الأحوال التي كان عليها قبل مئة عام، في ظل السلطنة العثمانية.. المقدسة!
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية