تحت شعار «العمل معاً في لحظة تغيير تاريخية» جاءت وزيرة الخارجية الاميركية إلى منطقتنا، وإلى دولتين تحديداً: مصر ما بعد ثورة الميدان وإنجاز الانتخابات الرئاسية فيها للقاء رئيس الجمهورية الجديد، المدني الأول والإخواني الأول، الذي يتسنم هذا المنصب الرفيع، الدكتور محمد مرسي… ثم إسرائيل التي عاشت قلقاً واضحاً وهي تتابع تداعيات الزلزال الشعبي الذي أطاح «عهد الطغيان» بقيادة الرئيس المخلوع حسني مبارك.
في خلفية ذهن الوزيرة كلينتون، التي جاءت إلى القاهرة في الأيام الأولى لما بعد مبارك، ونزلت إلى «ميدان الثورة» فالتقت بعض جماعاته، كما سمعت ما يُطئمنها من قادة المجلس العسكري, أن إدارتها صاحبة دور حاسم في «التغيير الثوري»، وأن «أمر اليوم» بتنحي مبارك قد صدر من واشنطن قبل أن يسقطه الميدان بالثورة… وأن إدارتها، بالذات، هي من ضبط حركة «المجلس العسكري» فجعلته يتخذ موقف الحُكم لا الحاكم، مفيداً من رصيد القوات المسلحة في ضمير الشعب المصري، بحيث يضمن دوره الفعال في «العهد الجديد» من دون الحاجة إلى التورط في انقلاب عسكري قد يضطره إلى مواجهة غير ضرورية مع «الميدان» بقواه المتعددة الاتجاه والولاء والهدف.
كانت السيدة كلينتون تعرف خريطة القوى السياسية في مصر وحركة الصراع في ما بينها.. ولقد فتحت أبواب الإدارة الاميركية، منذ زمن، أمام قياديي «حركة الإخوان المسلمين»، ومنهم الدكتور محمد مرسي، وإن ظل الطابع الأمني هو الغالب عليها. كذلك فإن هذه الإدارة تعرف حقيقة الوضع الاقتصادي في مصر، بالتفاصيل المملة، وتعرف رجال الصفقات المشبوهة ورموز الفساد، من أركان عهدي أنور السادات ثم حسني مبارك بالذات، وأبرزهم أولئك الذين عبّدوا طرق التعاون ذات الاتجاه الواحد مع إسرائيل، ويسّروا إمدادها بالنفط والغاز بأسعار «تشجيعية» لم تحظ بمثلها «دول شقيقة» مثل لبنان والأردن… وكان التبرير أن المهاودة في الأسعار تؤكد التزام مصر العميق بموجبات معاهدة الصلح المنفرد المعقود مع دولة «العدو السابق»، حتى لو رأى فيها الخبراء «اتفاق إذعان» أكثر منها تثبيتاً لعلاقات ندية بين دولتين سيدتين.
إذن، فقد جاءت السيدة كلينتون لكي تسمع من الرئيس محمد مرسي ما يؤكد مواصلة سياسة الصداقة والتعاون المفتوح مع واشنطن، التي كانت قائمة خلال «عهد الطغيان» توكيداً، لان التغيير استهدف «شخص الرئيس» وليس سياساته بالمطلق، وبالتالي مواصلة الالتزام بموجبات معاهدة الصلح مع إسرائيل، وهو الوجه التطبيقي المؤكد لاستمرار العلاقات المصرية – الاميركية «مميزة» و«ثابتة» باعتبارها إحدى ضمانات الاستقرار في هذه المنطقة المضطربة والمعرضة الآن لسلسلة من هزات التغيير التي سوف تبدل فيها الكثير من الحكام والسياسات التي ظلت معتمدة لثلث قرن تقريباً.
كانت السيدة كلينتون تريد أن تسمع من القاهرة ما يوفر شروط النجاح لزيارتها المكملة: إلى إسرائيل…
صحيح أن تصريحات الرئيس المصري الجديد وإشاراته المتعددة التي تضمنتها خطبه في «الميدان» ثم في جامعة القاهرة، ثم في قسَم اليمين أمام المحكمة الدستورية العليا، ثم خلال زيارته التي أراد أن تكون الأولى للسعودية، كانت قاطعة في وضوحها بأن لا تغيير يُذكر في ما يتصل بالموقف من إسرائيل والمعاهدات معها، ولا إشارة لأي التزام جدي ومحدد تجاه القضايا العربية ذات الأهمية الاستثنائية (فلسطين مثلاً…) ولكن من الأفضل أن يكون الحديث مباشراً وصريحاً تماماً ومحدداً إلى أقصى حد، لكي تستطيع السيدة كلينتون أن تنقل الرسالة – الموقف إلى القادة الإسرائيليين بغير لبس أو إبهام، وبضمانة اميركية مطلقة.
لا تختلف «السياسات العميقة» للعهد الجديد، إذن، عما كان معتمداً خلال «عهد الطغيان»: لا تغيير ولا تبديل بل ولا تفكير بأي تعديل في التزامات معاهدة الصلح المنفرد مع إسرائيل، حتى لو كانت مجحفة بحق مصر، ولا تنطح لدور قيادي عربي، فالعروبة بدعة وكل بدعة ضلالة، أما فلسطين وشعبها وقضيتها المقدسة فلها قرارات مجلس الأمن الدولي و«اتفاق اوسلو» ومندرجاته، مع هامش في الخطاب الإنشائي حول حقوق شعبها بدولة له على أراضي 1967 عاصمتها القدس العربية (التي لم تعد موجودة..).
لا يحب الرئيس الإكثار من التصريحات السياسية. لا بأس من لهجة المواعظ، وإذا استوجب الأمر تحديد موقف فيمكن اللجوء إلى آيات القرآن الكريم أو مقتطفات من بعض الحديث الشريف، وبعدها جمل مبهمة حمّالة أوجه يمكن التنصل من أي فهم مغلوط لدلالاتها..
لكن الصور فضّاحة… ثم أن الاميركيين يفضلون التعهدات الواضحة أو الملزمة.
وهكذا فلقد تبدَّى الرئيس الدكتور محمد مرسي متلهفاً لفتح مظروف الرسالة التي حملتها إليه السيدة كلينتون من الرئيس الاميركي اوباما، وكاد يباشر فض الختم لولا تدخل رجل «البروتوكول» للقيام بالواجب. ولقد اتسعت ابتسامته حتى غطت وجهه وهو يستمع الى مضمونها الذي يشير إلى اطمئنان واشنطن إلى «حكمة الرئيس الجديد» والتزامه بنهج من سبقه في ما يتصل بالسياسات الدولية والإقليمية، وبالذات العلاقات مع إسرائيل.
بالمقابل كانت ابتسامات الوزيرة كلينتون تؤكد اطمئنانها إلى أن فعل التغيير الثوري الذي أنجزه «الميدان» لن يمتد إلى مراجعة السياسات التي اعتمدها النظام بعد حرب أكتوبر (العبور)، والتي أثمرت معاهدة الصلح المنفرد مع إسرائيل، بكل موجباتها، وبين أخطرها الحظر على الجيش المصري أن يتواجد في سيناء، تطميناً لإسرائيل، وهي التي استخدمت هذه الصحراء منصة للهجوم على مصر في حرب 1967 ثم اتخذتها كقاعدة أمامية للهجوم المضاد في حرب 1973.
نجحت السيِّدة كلينتون نجاحاً مطلقاً في زيارتها ولقاءاتها في القاهرة التي شملت، الى الرئيس الجديد، المجلس العسكري الأعلى برئيسه وأركانه ممن كانوا «على الخط» في عملية «التنحي» بديلاً من «الخلع» وفي ترتيب الانتقال السلمي للسلطة بما يحمي دور الجيش ولا يترك القرار للميدان وثواره منفردين.
ولقد تبدَّى نجاح زيارة السيدة كلينتون القاهرة ومباحثاتها فيها عبر تصريحات القادة الإسرائيليين الذين التقتهم فور وصولها إلى القدس المحتلة. كانت الابتسامات العريضة تغطي الوجوه: ليس في القاهرة التي ستكون مشغولة بهمومها لسنوات، ما يقلق واشنطن أو تل أبيب… وفعل التغيير الثوري الذي باشره «الميدان» لن يمتد إلى مراجعة السياسات التي اعتمدها نظام الطغيان، سواء مع واشنطن بالتحديد، والغرب عموماً، أو تجاه إسرائيل والعلاقات معها على وجه الخصوص.
وبين المؤشرات على استمرار الثوابت في السياسة المصرية على حالها أن تكون الزيارة الأولى للرئيس الجديد إلى السعودية، متجاوزاً فيها حقيقة سقوط التعهدات التي قدمها مسؤولون سعوديون إلى القاهرة بمساعدات عاجلة بالمليارات لتجاوز مصاعب المرحلة الانتقالية، وهي ثقيلة جداً.
أما على الصعيد الداخلي فبين نتائج زيارة السعودية تضييق الفجوة بين الإخوان والسلفيين، وتغليب التعاون على الصراع، في مواجهة قوى الميدان الثورية وطموحها إلى التغيير الجذري.
وطالما أن السعودية ومعها ذلك اللفيف من مشايخ الخليج قد اختاروا أن تكون إيران هي عدوهم الأول والأخطر والداهم – فيمكن للإسرائيليين أن يطمئنوا إلى هذا الحليف القوي بثرواته، والذي يتصدر- لحسابهم وبالنيابة عنهم – مواجهة الخطر الإسرائيلي على «قاعدة إسلامية»، بما يمكن من كشف القناع عن سياسة المزايدة التي يتبعها أصحاب شعار العداء لإسرائيل كشر مطلق، في حين أنها لا تؤذي إلا «جيرانها العرب من أهل السنة»، سواء في مصادر ثرواتهم (النفط والغاز) أو في طموحاتهم السياسية إلى الدور القيادي في هذه المنطقة ذات الأهمية الاستراتيجية الاستثنائية في العالم.
ومنذ القديم يطوف آفاق المنطقة حلم توحيد السياسات بين عواصم «الإسلام المعتدل» في المنطقة العربية، وبالذات بين القاهرة والرياض، بما يضمن إلحاق الهزيمة بدعوات التطرف والغلو إلى حد الاندفاع في طريق «الإرهاب»، على طريقة «القاعدة»، أو القول بثورة الجياع والمستضعفين في الأرض، التي تهدف إلى وضع اليد على الثروات التي منَّ بها الله على المؤمنين من رعاية، وهذه ذروة الكفر.
إلى «إسلام الاعتدال»، إذن، تحت الرعاية الاميركية، وهذا يطمئن إسرائيل، ويعجل في إسقاط أنظمة الطغيان التي طالما نادت بالمقاومة والتحرير طويلاً، ثم لم تفعل غير إذلال شعوبها وتجويعهم والتسبب في عودة القوى الأجنبية الى البلاد التي حكموها فأضعفوها حتى جاءت القوات الأجنبية فحررتها (العراق مثالاً..)
مع كل هذه التحفظات والمخاوف فإن «العرب الشوام» او «عرب المشرق» يهربون من همومهم الثقيلة وقلقهم على «دولهم» في كياناتها الموحدة حيناً، وفي وجودها كإطار ناظم لحياة الناس في هذه الكيانات التي اصطنعت على عجل، وفي صفقة دولية عرفت باسم اتفاق سايكس – بيكو خلال الحرب العالمية الأولى… يهربون الى مصر حيث «الدولة» عريقة، ثابتة الأركان، لها قاعدتها الدستورية، ووحدة الشعب مؤكدة.
وبالتأكيد فإن «العرب» يتابعون الصراع المحتدم على السلطة في مصر، هذه الأيام، بشيء من القلق، وإن كانوا معجبين بحيوية النقاش واتساع مداه وحيويته الممتازة وشموله مختلف المسائل والقضايا التي تشغل بال المصريين العائدين الى الحياة بعد تغييب قسري امتد بطول عهد الطغيان.
ومع ثقة «العرب الشوام» بوعي الشعب المصري، إلا أنهم يستشعرون قدراً من القلق على الميدان وثورته التاريخية وغير المسبوقة، التي أطاحت نظام الطغيان في فترة زمنية قصيرة وبأقل عدد من الضحايا والخسائر.
مصدر القلق الاضطراب السائد، سياسياً، والقلق الذي يتهدد مسار الثورة نتيجة الصراع «الحزبي» الذي فرضه «الإخوان المسلمون»، والذي يتبدى أحياناً في صورة محاولات لاحتكار السلطة وفرض توجهات تشابه ما مارسه ويمارسه الحزب الواحد في «دول» كثيرة ليست لها ظروف مصر وثبات دولتها، مما يدفع الصراع نحو مهاوي الحرب الأهلية.
إن مصر مستقرة ضرورة حيوية لأمتها العربية جميعاً… فضلاً عن ضرورتها لشعبها الذي ينتظر منذ عهد بعيد أن يحقق أمنيته في دولة قوية وعادلة، تحمي كرامته، وعزة وطنه ومستقبل أمته.
والكفاح دوّار…ومعه القلق!
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية