ليس هناك ما يستحق الاحتفال، عربياً، لمناسبة الذكرى السنوية الأولى لتسلم باراك أوباما سدة الرئاسة في الولايات المتحدة الأميركية… بل ان الذين بالغوا في الرهان على الرئيس الأسمر الذي تخالط دماءه بعض الجذور الأفريقية ـ الإسلامية قد تشاغلوا عن الحفاوة بهذه الذكرى وتركوها تمر باهتة، باردة، فيها من خيبة الأمل أكثر مما فيها الابتهاج بتحقق الوعد بالإنجاز.
قبل أن ينتهي العام الأول على أوباما رئيساً كانت الأحلام بالتغيير في السياسة الأميركية تجاه القضايا العربية عموماً، والقضية الفلسطينية، وهي الأساس والجوهر، قد انطفأت مخلّفة مرارة كثيفة.
عاد البيت الأبيض ـ مرة أخرى ـ ليتبنى الموقف الإسرائيلي، متذرعاً، كالعادة، بضغوط اللوبي الإسرائيلي على إدارته، خصوصاً أن هذا اللوبي قد اخترق أسوار البيت الأبيض وفرض على الرئيس بعض أركانه الذين صاروا يملون عليه سياسته إزاء «النزاع في الشرق الأوسط»، تماماً كما على الذين من قبله.
لكن «النظام العربي»، وكأي تاجر مفلس، استمر يراهن على تحولات قدرية قد تطرأ … ثم تقدم خطوة أخرى فبدأ يعدل في أسلوب المقاربة، ثم في جوهر المطالب ذاتها، لعله يساعد هذا «الرئيس الطيب» في معركته ضد «الأشرار» الذين حاصروه، وأخذوا يفرضون عليه التراجع عما تعهد به في خطب علنية وفي مناسبات تاريخية!
تناسى أهل النظام العربي كل ما سمعوه في خطب «رئيس التغيير» الذي اكتسح الانتخابات الرئاسية، وحقق فوزاً باهراً، وأحدث خرقاً تاريخياً في النظام الذي لم يبرأ تماماً من لوثة العنصرية، واندفعوا يحاولون مساعدته بأن يقدموا له المزيد من التنازلات عن حقوقهم في أرضهم حماية لأنظمتهم المتهالكة والتي لا تملك بديلاً من دعم «الأخ الأكبر» في واشنطن.
نفضوا رؤوسهم فأسقطوا من ذاكرتهم التعهدات التي أطلقها من اتهم بأنه «الرئيس المسلم»، وتجاوزوا ما سمعوه منه مباشرة، سواء في خطب علنية، وفي محطات فاصلة، كمثل خطابه الذي جاء الى القاهرة خصيصاً لكي يلقيه من جامعتها (بعدما اعتذرت السعودية عن عدم المساح له بأن يطلق نداءه منها)، وأسقطوا ايضاً ما كانوا قد سمعوه منه مباشرة، في جلسات مغلقة، ثم ما أعلنه على شكل «مسودة مبادرة» تنطلق من انتزاع تسليمهم بإسرائيل بدولة يهود العالم مقابل وعد غامض بالمساعدة على أن يكون للفلسطينيين «دولة ما» على بعض البعض من أرضهم، على أن تشطب «القضية» تماماً، فيعيش الشعب صاحب الأرض كرهينة وحرس حدود لدولة الاحتلال المحصنة بالدين وبالسياسة معاً، باعتبارها أساس المصالح الغربية والاستراتيجية الأميركية في المنطقة التي كانت عربية وصار ضرورياً تجهيل هويتها لتغدو «الشرق الأوسط».
أولى «الهدايا» التي قدمها أهل النظام العربي تمثلت في إسقاطهم «المبادرة العربية» التي هدد مطلقها الملك عبد الله بن عبد العزيز، ذات قمة، بأنها «لن تبقى على الطاولة الى الأبد»… وهكذا تقاطرت وفودهم الى واشنطن ليقدم كل منها تنازلاً جديداً،
تكفي مراجعة بسيطة للتصريحات التي أطلقها بعض رموز النظام العربي، مباشرة على ألسنة حاملي رسائله، لتبين حجم التراجع المخزي عن النصوص الحمالة الأوجه التي صيغت بها «المبادرة العربية» بتدخل أميركي مباشر.
أما تصريحات وزيرة خارجية «رئيس التغيير» السيدة هيلاري كلينتون فقد تجاوزت الاستفزاز الى الإهانة الجارحة والمباشرة، في الأيام القليلة الماضية، وحين طالبت أهل النظام العربي بالتحدث مباشرة مع الإسرائيليين، معتبرة أن الإدارة الأميركية قدمت ما عندها وأنها لا تستطيع أن تفرض على إسرائيل ما يهدد أمنها، متراجعة عن كل وعود «الرئيس الأسمر» وتعهداته، بل حتى عن تعهدات سلفه جورج .و. بوش بوقف الاستيطان كشرط لكي يبقى للفلسطينيين من أرضهم الوطنية ما يكفل إقامة دويلة ما، ستكون ـ في أحسن الحالات ـ محمية إسرائيلية ودورها الفعلي أن تكون «حرس حدود» لدولة يهود العالم فوق أرض فلسطين العربية، أو التي كانت عربية.
وأما الموفد الخاص ذو الابتسامة البلاستيكية جورج ميتشل فيواصل جولاته ليجمع التنازلات العربية عموماً والفلسطينية خصوصاً، في ظل الانقسام الخطير بين «السلطتين»… وها هو يختتم التاسعة برفض إسرائيلي لكل تلك التنازلات. وغداً قد يأتي موفد جديد ليبدأ منها… ولا قضية!
لقد ذهب كل من أهل النظام العربي بهمومه ومخاوفه داخل بلاده… وبديهي والحالة هذه أن يعطي إسرائيل ـ عبر واشنطن ـ من القضية التي كانت مقدسة لكي يعود بما يطمئنه على دوام تسلطه على شعبه، ودائماً بذريعة انه انما يقوم بدوره في حماية المصالح الأميركية (والغربية) في المنطقة، وأهمها وأخطرها: إسرائيل!
توالت التنازلات العربي فكان منطقياً أن يتعاظم الرفض الإسرائيلي لما كان بعض الحكومات الإسرائيلية، قبل نتنياهو ـ ليبرمان، قد أظهرت استعداداً لمناقشته، دائماً مع واشنطن وليس مع أصحاب الشأن.
ومع تنصل إدارة «الرئيس الأسمر الذي تجري في عروقه الدماء الإسلامية» من تعهداتها، بات منطقياً أن يتحول نتنياهو الى الهجوم، وأن يجاهر برفض مبدأ الدولتين، وأن يمضي قدماً في بناء المزيد من المستوطنات لاستقدام المزيد من المستوطنين الذين باتوا الآن قوة ضغط مؤثرة وفي الوقت ذاته ذريعة جاهزة لتبرير رفض التنازل أو الخوف من الإقدام على استفزازهم… فهم الآن «الصوت الوازن والمرجح» في أي انتخابات إسرائيلية… أي انهم صاروا ـ بكل تطرفهم ـ صانعي السياسة الإسرائيلية ومقرريها، ونفوذهم يمتد الى قلب البيت الأبيض بعدما اضطر الرئيس أوباما الى قبولهم فيه، والتخلي عمن وضع اللوبي الإسرائيلي الفيتو عليه فاستحال أن يكون الى جانب صاحب القرار، ولو كمستشار.
لقد أدركت إسرائيل ما لا يحب أن ينتبه إليه أهل النظام العربي: ان الولايات المتحدة الأميركية متورطة في حروب استعمارية مكلفة، أخطرها في أفغانستان، وهي تنذر بالتمدد الى باكستان التي تعيش حالة اضطراب خطير تنذر بتفكك كيانها الذي أنشأه الاستعمار البريطاني، لأغراض تخصه ولا علاقة لأهلها بها، بل كانت رداً على انتصار الوطنية الهندية بالقيادة الفذة للمهاتما غاندي.
إن أعباء الحرب الأميركية على شعب أفغانستان، تتعاظم كلفة، بالأرواح والمال، ومعظم حلفائها أخرجوا عسكرهم أو هم في الطريق الى إخراجهم من الميدان، رافضين أن يتكبدوا التضحيات الجسام من أجل حكم عميل أقيم بالزور ويستمر بالتزوير المفضوح، وعلى حساب حياة أبناء شعبه وحقهم في الحياة..
ثم ان الاحتلال الأميركي في العراق الذي استطاع لفترة أن يشغل القوى السياسية العراقية عنه بخلافاتهم وصراعاتهم على السلطة وعلى الثروة خلال السنوات القليلة الماضية، مهدد بأن يواجه تفجر الأوضاع مجدداً بين معظم من نصّبهم حكاماً، لتمويه هيمنته على القرار.
ها هي السنة الأولى من ولاية أوباما تنتهي بنكسة سياسية خطيرة في الداخل، فيخسر حزبه مقعد آل كنيدي (التاريخي) في ولاية ماساشوستس، وينتصر عليه الحزب الجمهوري.
وها هم العسكر (وعلى رأسهم المخابرات) يقررون سياسته الخارجية، فيضطر الى زيادة قواته في أفغانستان، بينما يرفض حلفاؤه المضي في هذه المغامرة الدموية الى النهاية.
ولان الحرب مفتوحة وفي أرض يرفض شعبها قوات الاحتلال، فإن العسكر سيستمرون يطالبون بمزيد من القوات، وبالتالي بمزيد من الإنفاق الثقيل الوطأة، وهكذا يتحول «الرئيس الأسمر بجذوره الإسلامية» الى رهينة في يد الجنرالات وأجهزة المخابرات، هذا إذا اعتبرنا انه يرفض مطالبهم بل إملاءاتهم، ويمضي في حروب الإبادة ضد شعبين في دولتين إسلاميتين.
إن الجيوش الأميركية تقاتل شعوباً وأمماً في دول بعيدة جداً، لم تكن معادية بالسليقة للولايات المتحدة.
أما في بلادنا فإن الاحتلال الإسرائيلي وحده من يحق له أن يحتفل بانتصاره على الرئيس الذي كان وعداً فتحول الى رهينة.
إن أهل النظام العربي يحتمون بالإدارة الأميركية لكي تحميهم من شعوبهم.. وما دامت إسرائيل شريكتها ووكيلتها في المنطقة فهم بحاجة الى ضمان بألا تحرجهم إسرائيل لا بالقتال، أي بإذلالهم أمام شعوبهم، ولا بفضح خيانتهم للشعب الفلسطيني.
إنهم يكرهون شعوبهم. يتمنون لها الذلة والانكسار لتظل خاضعة خائفة لا تهتم إلا بلقمة العيش.
إنهم يريدون إسرائيل حليفاً، ولكن تحت غطاء أميركي. وهم يضخمون الخطر الإيراني لكي يبرروا طلب الحماية الأميركية و«التحالف» مع إسرائيل. بل إنهم يسلمون إسرائيل قرار المنطقة، متذرعين بإيران، بالقاعدة، بالأصولية لطلب الحماية.
فهل يجوز بعد هذا كله أن نستغرب تعاظم قوة التيارات الإسلامية، سواء منها الأصولي أو الإرهابي، ونزولها الى الميدان بالسلاح، بما يهدد بعض أهل النظام العربي الذين يهرولون الى واشنطن طالبين بإلحاح أن تتفضل بإرسال قواتها لاستعمارهم حتى لا تنتصر «القاعدة» على مركز الديموقراطية في الكون، الولايات المتحدة الأميركية التي يحكمها الآن رئيس تجري في عروقه دماء افريقية مطعمة بشيء من الإسلام الموروث.
إن أهل النظام العربي يعودون بشعوبهم قرناً كاملاً الى الخلف.
الطريف أن الاستعمار يتمنع عن العودة ويحاول تفاديها بأن يعطيهم السلاح، وبأن يبعث بطائراته لتغير على شعوبهم فتقتل عشوائياً من سيباهي النظام بالانتصار عليهم والقضاء عليهم بوصفهم إرهابيين.
هل نقول: الى العام الثاني من ولاية أوباما الذي يتحول من «أمل للشعوب» كما وصفه بعض السذج الى كابوس أميركي جديد؟!
لقد أورثه جورج بوش حربين ومجموعات من الاشتباك بالسلاح مع العرب والمسلمين، وها هو يتابعها جميعاً.
سنة حلوة يا أسمر يا جميل!
[ تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية