إذن فالشعب المصري مدعو، للمرة الثانية خلال أقل من عامين، ليقول رأيه في مشروع الدستور الجديد الذي أنجزت كتابته «لجنة الخمسين»، بديلاً من الدستور الذي أقر قبل أقل من عامين، في ظروف ملتبسة، وفي ظل حكم «الإخوان المسلمين» الذي لم يعمر لأكثر من عام واحد.
يمكن القول، براحة ضمير، إن الدستور الذي اصطنعه حكم «الإخوان» قد جاء تعبيراً مكشوفاً عن رغبتهم في السيطرة المطلقة على السلطة، بمختلف مؤسساتها. يتضح ذلك في تشكيل اللجنة التي طلب إليها إعداده، ثم في الملابسات التي أدت إلى خروج الأعضاء غير الإخوانيين وغير الموالين لـ«الإخوان» منها، ثم في الإصرار على إقراره ـ كاملاً ـ في ليلة واحدة، مع أن مناقشته قد امتدت لأسابيع، وأخيراً في الصورة الشهيرة التي ظهر فيها رئيس اللجنة ـ الدكتاتور يقدم إنجازه للرئيس الإخواني الدكتور محمد مرسي… من دون الدخول في الاتهامات الخطيرة حول تزوير الإرادة الشعبية والضغوط التي مورست على جمهور المستفتين، ثم «المقاطعة» التي مارستها بعض قوى المعارضة مما جعل نسبة المصوتين بـ«نعم» أقل من الثلثين، هذا إذا ما استبعدنا اتهام السلطة بممارسة الضغوط على المستفتين، وبالذات على الموظفين منهم، فضلاً عن الاستخدام الواسع للشعار الديني بما يصور من يتخلف أو يعترض وكأنه خارج على مبادئ الدين الحنيف.
والحقيقة أن ذلك الاستفتاء لم يكن يختلف عن جملة الاستفتاءات على الدساتير التي نظمتها الانقلابات العسكرية إجمالا في البلاد التي نجحت في الاستيلاء على الحكم فيها بالدبابات، ثم قررت بعدما استتب لها الأمر أن تشرعن حكمها بخلع البزة العسكرية ودخول القصر (الذي كان ملكياً فصار جمهورياً) بالثياب المدنية.
في المشرق العربي تكرر تغيير الدستور مراراً، نتيجة تبدل في مركز القرار بالانقلاب العسكري، والذي كانت الهزيمة في مواجهة العدو الإسرائيلي على ارض فلسطين أو تحت شعار الدفاع عن عروبتها، هي الذريعة الأولى والأخطر، ومباشرة بعد العام 1948.
على أن ثمة سابقة دستورية وقعت في لبنان، وبعيداً عن ميدان فلسطين، إذ تم تعديل دستور الاستقلال بعد أربع سنوات فقط من إعلانه رسمياً، أي في العام 1947، من اجل تجديد الولاية لأول رئيس لجمهورية الاستقلال.
ولقد كان ذلك التعديل مشفوعاً بتزوير فاضح للانتخابات النيابية التي أجريت بعد حوالي السنتين، بين أسباب سقوط «العهد الاستقلالي الأول» بشخص رئيسه الذي سيواجه (وإخوانه معه) اتهامات خطيرة بالفساد واستغلال السلطة وتزوير الانتخابات النيابية الخ.
أما في سوريا فلم يتجاوز عمر العهد الاستقلالي الأول السنوات الثلاث، إذ وقع أول انقلاب عسكري في شتاء العام 1949 وتم تعليق الدستور.. ثم سرعان ما جاء الانقلاب العسكري الثاني فالثالث، قبل أن يلجأ الحكم المدني في ظل هيمنة العسكر إلى جمال عبد الناصر في مصر منادياً بالوحدة التي أقيمت دولتها «الجمهورية العربية المتحدة» في 22 شباط – فبراير 1958… على أن هذه الدولة الجديدة التي كانت في منزلة الحلم بالنسبة للعرب جميعاً لم تعمر إلا لثلاث سنوات ونصف السنة، ثم عاد العسكر إلى حكم سوريا عبر انقلابات توالت تباعاً حتى خريف العام 1970 حين تولى السلطة الرئيس حافظ الأسد المتحدر من الجيش، والذي سيكتب في عهده دستور جديد طالما اخضع للتعديل لمد ولاية الرئيس.
في العراق أيضاً وبعد قيام ثورة 14 تموز ـ يوليو 1958 التي أسقطت العهد الملكي، جرى إعداد دستور للجمهورية الوليدة… لكن الانقلابات العسكرية المتوالية كانت تقفز من فوق الدستور حتى استتب الأمر لصدام حسين وحزبه (البعث) فكان أن أُعَد دستوراً جديداً على مقاسه، لم تتم تجربة تنفيذه على امتداد خمس وثلاثين سنة من الحكم الفردي.
أما في ليبيا، حيث خلع العسكر الحكم الملكي في الفاتح من أيلول ـ سبتمبر 1969 ـ فقد تولى العقيد معمر القذافي الحكم طوال اثنتين وأربعين سنة في «جماهيرية» بغير دستور لأنه كان يعتبر الدستور «بدعة»، ولعله قد اعتمد «الكتاب الأخضر» الذي وضع فيه عصارة فكره قبل أن يضيف إليه «النظرية العالمية الثالثة» شريعة لحكمه الذي تجاوز دساتير الأرض جميعاً.
وإما في جمهورية تونس التي حكمها الحبيب بو رقيبه لأكثر من ثلث قرن تحت شعارات حزبه الدستوري، فقد جاءها الانقلاب العسكري الذي قاده زين العابدين بن علي بدستور أعاد صياغته بما يناسب طموحاته… وها هي تونس الآن تعيش مرحلة انتقالية تحت حكم «الإخوان المسلمين» بالشراكة مع بعض الأحزاب العلمانية، وفي ظل معارضة متنامية، يفترض أن تنتهي ذات يوم بحكم طبيعي ودستور يضعه أصحاب الأمر يومذاك.
من بين دول الجزيرة والخليج تتميز الكويت بأن لها دستورها الذي كتب في العام 1963… أما المملكة العربية السعودية فيحكمها «شرع الله» كما يفهمه السلفيون الذين ولد من رحمهم الوهابيون، والسلطة محصورة في الأسرة الحاكمة التي فرضت اسمها على الأرض التي وُلد عليها الرسول العربي محمد وقرآنه الكريم ودينه الحنيف.
والحكم عائلي في سائر أنحاء الجزيرة، إضافة إلى السعودية، أي دولة الإمارات وإمارة قطر وسلطنة عمان.. ففي كل من هذه الدول أسرة حاكمة، والدستور ترف لا تحتاجه العلاقة بين الحاكم بقوة النسب والرعية المحكومة بقوة الأمر الواقع.
خلاصة الكلام أن الجمهوريات العربية شهدت انقلابات عسكرية عديدة.. وكثير من هذه الانقلابات لم يعمر طويلا بما يتيح له إعداد دستور، أو انه ـ حتى لو طال عهده ـ لم يكن يستشعر الحاجة إلى دستور جديد.
فالدكتاتور، أي دكتاتور، قد يطلب كتابة دستور جديد، لكنه في الغالب الأعم من الحالات، لا يحترمه ولا يلتزم به، وكثيرا ما تذرع الدكتاتور بالظروف الاستثنائية من اجل تعليق الدستور… حتى إشعار آخر.
على أن مصر، وبوصفها «الدولة»، ثم أنها «الدولة الحديثة»، بقيت دائماً في موقع القدوة والمثال… ولقد شهدت كتابة أول دستور بعد ثورة 1919، ثم تم إعداد دستور جديد بعد إسقاط الحكم الملكي وقيام الجمهورية سنة 1954… وقد أجريت على ذلك الدستور تعديلات عديدة، حتى جاء الرئيس الأسبق حسني مبارك فتم إعداد دستور جديد، سقط مع صاحبه عبر انتفاضة «الميدان» المجيدة في مطلع العام 2011. وقد تم تعديل ذلك الدستور أكثر من مرة، أشهرها تلك التي فتحت الباب للتوريث. وبعد ذلك اصدر بيان دستوري، ثم جاء بعده عهد «الإخوان»، الذي تم إسقاطه، ومعه الدستور «الاخواني» في انتفاضة 3 يوليو الماضي.
لقد كانت مصر «الدولة» الأولى بل الوحيدة في هذه المنطقة منذ بدايات القرن التاسع عشر… وهي قد شهدت ولادة الدستور ـ ولو كشرعة ـ قبل حوالي القرنين. من هنا أن دستورها كان النموذج الذي اعتمد، مع قدر من التعديل، في معظم الأقطار العربية. بل إن فقهاءها الدستوريين قد أسهموا في كتابة معظم الدساتير للبلاد العربية الأخرى.
ربما لهذا لم توفر الدساتير بذاتها الفرصة لقيام أنظمة ديموقراطية… بل إن معظم أنظمة القمع كانت تتباهى بدساتيرها والتزامها بنصوصها حتى وهي تتجاوزها موسعة المساحة أمام حكم الفرد.
فكل حاكم كان يرى نفسه صاحب سلطة مطلقة، قد يبررها بالثورة وإجراءاتها الضرورية لتأمين سلامة البلاد، لكن «المواطن» ظل دائماً عرضة للقهر والمحاسبة، إما بتهمة الخروج على القانون، وإما بتهمة أخطر هي الخروج على مبادئ الدستور.
والعالم كله يتابع الآن مسيرة مصر نحو الديموقراطية، ويرى في إقرار الدستور باستفتاء شعبي خطوة أولى حاسمة، لا سيما إذا تم توفير المناخ الصحي للتصويت عليه بأكثرية راجحة، تمهيداً لقيام «الجمهورية الثانية».
المهم أن يحضر الشعب، وأن تكون إرادته هي العليا… فهو هو قاهر الطغيان، وهو هو حارس حقوقه جميعاً بعنوان: الديموقراطية.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية