يتابع المواطن العربي في مختلف أقطاره التطورات التي تشهدها مصر، بالمفاجآت الخطيرة التي حفلت بها وتسببت في خيبة أمل مريرة، بحيث اغتالت آماله في التغيير بالثورة وصدمته بأن سجنته داخل احتمالين أحلاهما مر: إما الحكم بالشعار الديني وإما إدامة نظام الطغيان بواحد من أركانه العسكريين الذين لم يعرف عنهم عشقهم للديموقراطية ولم يشتهر عنهم تصادمهم مع الرئيس المخلوع بسبب رفضه الانحراف السياسي او الإفساد العام، بل انه كان قريباً منه إلى حد ائتمانه على مصيره عبر اختياره رئيساً لحكومته الأخيرة التي أسقطها الميدان.
ومع الاحترام الكامل لرأي الناخب المصري إلا أن المواطن العربي خارج مصر يرى أن هذا الناخب لم يُمكن فعلاًَ من الاختيار الحر ومن التعبير عن رأيه حقيقة، إذ حوصر في دوامة من القرارات والمناورات التي ابتدعت تعديلاً دستورياً لم يكن بريئاً من الغرض، ثم مدت في الفترة الانتقالية بأمل انقسام الميدان واختلاف قواه التي ضخت الأمل بالتغيير في أرجاء الوطن العربي بمشرقه ومغربه جميعاً.
ولقد رأى المواطن العربي، خارج مصر، أنه هو الآخر وفي مختلف دياره محاصر بخيار بين المر والأمر منه، أي بين مرشحين كلاهما قادم من الماضي وغير مؤهل لأن يأخذه إلى المستقبل… فكلا المرشحين الباقيين في ميدان المنافسة على رئاسة مصر الثورة لا يجسدان الطموح الى التغيير بالخروج من الأمس المثقل بأسباب الاضطهاد والعنت إلى الغد المبشر بالأمل.
لقد كانت الثورة في مصر أجمل من الأحلام، بملايينها التي احتشدت في الميدان ـ وبالوعي العظيم الذي ضبط حركتها وصاغ شعاراتها التي دوت في مختلف أرجاء الوطن العربي ووصلت أصداؤها إلى أربع رياح الأرض، مؤكدة جدارة الإنسان العربي في مصر أساساً ومن ثم في خارجها بصياغة حياته وفق طموحاته وبحقه المشروع في ان يصنع دولة لوطنه تليق بكرامته الإنسانية وبوعيه وقدراته الفعلية التي طالما «اعتقلها» نظام الاستبداد.
وليس سراً أن أجيالاً من العرب خارج مصر ربطت ولا تزال تربط مصيرها بتقدم مصر ذات التأثير العميق في الوجدان العربي والفكر الانساني، وذات التجربة الرائدة في بناء الدولة، وذات الدور الذي لا يمكن إنكاره والتقليل من خطورته في اقتحام الغد بالثورة.
ثم ان اللحظة الراهنة، بكل المخاطر التي تحملها على الوجود العربي، دولاً وشعوباً، تلقي على مصر الثورة أعباء إضافية ثقيلة، إذ إن مسارها ثم الصيغة النهائية للحكم فيها وهوية النظام الذي ستنتجه سيكون له تأثير حاسم على صورة المستقبل العربي عموماً.
فليس سراً أن مناخاً تختلط فيه الخلافات السياسية بالتوترات الطائفية والمذهبية والمصالح الخارجية ذات التأثير الواضح على السياسات الداخلية سيجعل المعركة على الرئاسة في مصر محطة غاية في الخطورة على صورة المستقبل في مختلف أرجاء الوطن العربي وليس داخل القطر المصري وحده.
إن المواطنين العرب في مختلف ديارهم يحمّلون الخيار المصري، في هذه اللحظة، المسؤولية عن تطور الأوضاع داخل بلادهم، التي يتهدد بعضها خطر الحرب الأهلية وتلوح في آفاق البعض الآخر نذر التقسيم أو الفوضى الدموية…
وليس سراً أن الغالبية الساحقة من الجمهور العربي، لا تجد في أي من المرشحيْن اللذين أبقاهما الدور الأول من الانتخابات الرئاسية لوحدهما في مجال المنافسة، ما يطمئنها الى مستقبل مصر بذاتها، فضلاً عن دورها الحيوي الذي لا بديل منه في المستقبل العربي جميعاً.
ومع التسليم بالحق المطلق لشعب مصر في اختيار رئيسه ديموقراطياً فإن ما سبق الانتخابات الرئاسية وما رافقها ويرافقها الآن لا يبعث على الاطمئنان عربياً، خصوصاً أن المواطن العربي في مختلف دياره يتابع تعاظم حركة الاحتجاج البديهي داخل الشارع المصري على حصر الخيار بين من يراه المصريون امتداداً لعهد الطغيان أو ارتداداً تحت الشعار الديني عن أهداف التغيير الثوري في اتجاه المستقبل الأفضل.
لقد شارك العرب في مختلف ديارهم إخوانهم المصريين أحلامهم وتمنياتهم بانتصار «الميدان» بشعارات إسقاط الطغيان على «الماضي» بوجهيه: الدكتاتورية العسكرية المعززة بدعم المتسلقين والانتهازيين من نهابي الثروة الوطنية تحت لافتة الانفتاح، والتنظيمات الإسلامية التي لا تبشر بالتقدم في اتجاه الغد، مهما زينت شعاراتها، وتظل بأصولها وتوجهاتها وخطابها واضحة الانتساب إلى الماضي… حتى لو تم تشذيب اللحى وتعطيرها بالطيب.
ذلك أن التنظيمات حاملة اللواء الإسلامي، عموماً، لم تستطع القطع مع الماضي السحيق، وتأكيد انتسابها إلى المستقبل المفتوح على الفكر الإنساني وعلى الحداثة عموماً، حتى لو حمل أقطابها ألقاباً علمية محترمة وتخلوا عن الزي الشرعي الى البدلة وربطة العنق واستخدام اللغة الإنكليزية في محاولة إقناع الجمهور بأخذهم بأسباب الحداثة.
أما العسكر فقد آن لهم أن يتقاعدوا وأن يخرجوا نهائياً من ميدان العمل السياسي، خصوصاً أن الأبرز من وجوههم، وبالتحديد المرشح الآن لرئاسة مصر، ليس آتياً من ميدان الجهاد في فلسطين أو من اجلها، وليس صاحب مشروع نهضوي متميز ينقل الجيش من مؤسسة لحماية النظام إلى طليعة لإسقاط الطغيان وإعادة مصر إلى دورها التاريخي كقاطرة الى المستقبل، يمكنها ان تغير الواقع المتردي في مجمل أنحاء الوطن العربي ومعه أفريقيا وبعض آسيا.
ومن باب التذكير فقط تمكن الإشارة إلى أن العرب في مختلف أقطارهم قد استقبلوا ثورة 23 يوليو 1952 ليس لأن قادتها كانوا من الضباط، بل لأنها قد تصدت ونجحت في تغيير الواقع المهين لكرامة الأمة، بعد الهزيمة القاسية في ميدان فلسطين، وأنها نجحت أيضاً في تأكيد هوية مصر وفي إعادتها إلى لعب دورها القيادي الذي لا تنافسها فيه أية دولة عربية أخرى.
وبالتأكيد فإن الشعبية العارمة، عربياً، والتي تمتع بها جمال عبد الناصر، لم تأته فترفعه الى موقع متميز فوق سدة القيادة لأنه كان ضابطاً قام بانقلاب عسكري، بل لأنه أسقط حكم طغيان ثم اندفع إلى استعادة هوية مصر ودورها بما أهلها لأن تسترد حقها المشروع في قيادة الأمة.
وبرغم كل الانتقادات التي وجهت الى جمال عبد الناصر ومشروعه الذي قفز بمصر إلى الموقع الذي تستحقه بجدارة عربياً وإقليمياً ودولياً، فإن موقعه في الوجدان العربي ما زال متميزاً. لقد صارت مصر، وصار العرب، معه وفي ظل قيادته غير ما كانت وكانوا قبله. لقد تحولوا جميعاً من رعايا في دول قابعة للمستعمر الأجنبي يُذلها الاحتلال الإسرائيلي إلى شعوب ناهضة تطالب بحقها في الحرية والتقدم والمنعة والدور.
ومهينة هي محاولات تبييض صورة احمد شفيق بالقول إنه ـ وهو الذي ظل الابن الشرعي للنظام الدكتاتوري حتى يومه الأخير ـ يشكل البديل الأفضل من ذلك النظام ومن الإخوان المسلمين الذين قاتلوا جمال عبد الناصر وقاتلهم طيلة عهده… وربما كان ذلك القتال بين الخطايا المميتة للطرفين، لكن ذلك حديث آخر.
المهم، أن المواطن العربي، «لن يعطي صوته»، ولن يمحض ثقته لأي من المرشحيْن المتنافسيْن الآن ـ حصراً ـ على رئاسة مصر… بل إنه يرى في كليهما خطراً على مصر وعلى مستقبله في بلاده، فليس بين الاثنين من يطمئن إلى غد مصر وبالتالي إلى الغد العربي جميعاً.
بل ان هذا المواطن يخاف الآن على مصر ومنها، في ظل قيادة أي من المرشحين لرئاستها… ولعله في موقفه هذا يقارب المواطن المصري المحصور خياره بين هذين المرشحين، وليس بينهما من يطمئنه الى غده.
هل من الضروري الاعتذار عن هذه الصراحة في التعبير عن خيبة الأمل العربية في النتيجة المأساوية التي فرض على ثورة الميدان أن تنتهي بها؟
ربما كان الاعتذار واجباً… فالأمر يتصل، أولا وأخيراً، بأصوات المصريين وبمساءلة أبنائهم لهم عن التقصير في حماية غدهم المهدد الآن بمخاطر الضياع او الشقاق وكلها لا تطمئن الى المستقبل.