لم يُعرف عن الملك الأردني عبد الله بن الحسين الهاشمي عمق التحليل الإستراتيجي ولا الفصاحة في التعبير عن أفكاره، باللغة العربية تحديداً، ولا سعة الخيال في استخدام «المجاز» في الشعار السياسي… لذلك استقبل المتابعون بكثير من الدهشة والاستغراب إطلاقه تعبير «الهلال الشيعي» في تنبّئه بالتطورات ـ الزلازل التي كانت نذرها تملأ الآفاق في المشرق العربي، ولكن أحداً لم يربطها بالمذهبيات والطوائف.
كان المتابعون يقرأون، في الأصل، مجريات الأمور في السياسة: الكبت المزمن للحريات، التضييق على حركات الاحتجاج، حتى وإن اتخذت طابعاً ثقافياً وإن بمضمون سياسي، التحرك بالبيانات والمقالات والإبداعات الشعرية والكتابات الأدبية، روايات وقصصاً قصيرة الخ.
لذلك كان تصدي الملك الهاشمي، الذي لا تسعفه لغته العربية في التعبير عن تعقيدات الصراع السياسي داخل أقطار المشرق العربي، خاصة، ومن حولها، بمضامين طائفية ومذهبية، أمراً لافتاً يدل على أن وراء الحديث المفاجئ للملك الهاشمي ما يستحق الالتفات والتنبه.
قال كثيرون: الكلام لعبد الله الثاني لكن المضمون يتجاوزه ليوحي بأمر ما يُدبّر في البعيد.
وسرعان ما سرى استخدام «اللغة الجديدة» في توصيف مسار الأحداث واحتمالات تطورها، مع نبش الذكريات المترسبة ومرويات وقائع الخلافات الطائفية والمذهبية قبل قرون عديدة، والتي تسهل استثارتها لإعادة توظيفها في صياغة مستقبل الكيانات السياسية في المشرق العربي خاصة، عبر طمس حقيقة الصراع حول طبيعة الأنظمة القائمة، بتغليب الهوية الطائفية بل المذهبية على جوهره السياسي.
بسحر ساحر اندفعت الفضائيات الخليجية، والمصرية إلى حد ما، إلى تحديد هويات أطراف الصراع طائفياً ومذهبياً… واكتشف كتاب الأعمدة السياسية والتعليقات والأبحاث والدراسات مادة خصبة في سعيهم لطمس «السياسة» وتغليب ما هو طائفي بل مذهبي صريح على الأنظمة والقوى السياسية، بما في ذلك الأحزاب والتجمعات. وقد نال «حزب الله» النصيب الأكبر من هذه الحملة التي وصلت إلى حد اعتباره «حزب الشيطان» و«الدمية الإيرانية» وبطل تشييع السنة في المنطقة العربية، بدءًا بسوريا، وصولاً إلى مصر وانتهاءً بالمغرب العربي، في تجاوز نافر لوقائع التاريخ وطبائع الشعوب وصراعات الماضي التي انتهت إلى تثبيت «الهوية» و«الانتماء» في كل قطر من هذه الأقطار التي لم يتهدد إسلامها في أي يوم إلا بالحملات الاستعمارية – الاستيطانية (الجزائر مثالاً…).
وكان أخطر النتائج طمس الصراع العربي – الإسرائيلي، بل وإضفاء «مشروعية ما» على الكيان الصهيوني الذي برر وجوده بالاضطهاد الديني لليهود في العالم الغربي، بعيداً جداً عن ديار العرب التي ظلت ترعاهم بوصفهم بعض أهلها… وهي قد حفظت معظم حقوقهم فيها بعد إقامة كيان إسرائيل والتحاق أكثريتهم بها ومواجهتهم «أهلها» و«رعاتهم» العرب بالسلاح، في وقت لاحق.
هكذا أسقطت صفات الجهاد والبسالة في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لبنان حتى إجلائه عنه في الخامس والعشرين من أيار العام ألفين، ثم مواجهة الحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز- آب 2006.
ما علينا من هذا الاستطراد الذي فرضته التسمية الملكية لهذه الحقبة من الاضطراب السياسي نتيجة مواجهة الشعوب لأنظمة القمع العربية، ولنعد إلى السياق، ولتكن البداية من لبنان:
معروف أن هذا الوطن الصغير والجميل يتعرض بين الفينة والأخرى لهزات خطيرة، ولكنها في الفترة الأخيرة تعاظمت فباتت أشبه بمحطات موسمية للفتنة.
وها هي تداعيات الأزمة الدموية الخطيرة التي تعصف بسوريا تلقي بظلها الأسود على لبنان، خصوصاً وثمة من يحاول توظيفها في تبديل الولاءات والارتباطات السياسية. ولأن المواعيد الانتخابية، نيابية كانت أم رئاسية، هي فرصة للمواجهة وإعادة تشكيل القوى، فهي الآن تكاد تكون «موعداً قدرياً» مع ضرورات التموضع المتناسب مع التحولات الجارية في سوريا… وكل يراها من منظور مصلحته السياسية. فلقد سقطت أو أسقطت -لا فرق – الحماية أو الرعاية أو الانتداب السوري عنه، وعادت دوائر النفوذ (الأجنبي أساساً) إلى تقاسم موقع القرار فيه، بالارتكاز إلى تنوعه الطائفي، بحيث يعاد صياغة «الوصايات» على قاعدة طوائفية جديدة: مع إيران وضدها، أو مع الغرب وضده، وهذا يشمل السعودية والخليج والحكومات الإسلامية الجديدة.
ولقد عطّل انفجار النظام السوري بأزمته الدموية دوره خارج الحدود عموماً، وفي لبنان بشكل خاص، بل إنه أعاد طرح قضية «الدولة السورية» بمساحتها وحدودها وهويتها على بساط البحث، متوغلاً داخل الجراح القاتلة التي تستنزف شعبها، معيداً أسباب الأزمة السياسية إلى الهوية الطائفية للنظام التي تجعله ضمن «الهلال الشيعي»، مستثيرة ظلامة الأكثرية من أهل السنة في سوريا… وبين ركائز هذا الاتهام علاقة التحالف بين هذا النظام و«دولة ولاية الفقيه» في إيران، التي تمتد بالضرورة إلى الشيعة في لبنان بعنوان «حزب الله»… ولا بأس أيضاً من الربط مع حكومة نوري المالكي في العراق لكي يكتمل «الهلال الشيعي» مسقطاً حق الأكثرية السنية في حكم بلادها.
في الطريق إلى محاولة إكمال «الهلال الشيعي» لا بأس من احتساب أزمة النظام في البحرين مع شعبها ضمن خريطة الصراع، بل إنه يمكن كذلك إضفاء الهوية المذهبية على الصراع السياسي في اليمن، بغض النظر عن هوية أطرافه المذهبية وعن حقيقة أن هذه الهوية ما تزال خارج الصراع الذي تختلط فيه الجهوية (شمال ـ جنوب) بالقبيلة، بالتركة الثقيلة للحكم الطويل (33 سنة) لعلي عبد الله صالح، الذي وظف كل أسباب التخلف وابتدع أسباباً للصراع بين مكونات الشعب المفقر والمقهور باضطهاد «جاره» الغني – السعودية ـ والذي كان آخر تجلياته طرد عشرات الألوف من اليمنيين العاملين في المملكة الذهبية، من دون إنذار، ومن دون أن يسمح لهم بتصفية حقوقهم عند مَن كانوا يعملون في خدمته.
والجرح اليمني المفتوح مرشح لأن يستمر نزفه إلى أمد طويل، خصوصاً في ظل تعدد الصراعات القبلية والجهوية، والتي تجد من يمدها بالمال والسلاح لكي تستمر. هذا من دون أن ننسى النزاعات الانفصالية المستندة إلى احتمالات وجود النفط في أكثر من ناحية في الجنوب.
والخريطة النفطية تشكل عنصراً خطيراً في خريطة الصراع بين «الهلال الشيعي» والأكثريات السنية في المنطقة، خصوصاً إذا ما دخلت فيه المملكة العربية السعودية التي تضخم الخطر الشيعي في كل من البحرين واليمن لإحكام هيمنتها على الجزيرة والخليج بالشراكة مع «الصديق الأميركي» طبعاً، الذي يحاولون تصويره طرفاً في الصراع… أقله ضد إيران، مع تناسي دوره الحاسم في تعزيز التفوق الإسرائيلي على العرب مجتمعين.
على هذا فالهلال الشيعي، الذي كان أول من التمسه ورآه الملك الهاشمي عبد الله الثاني، يتكامل ما بين ضفاف المتوسط وبحر العرب، وصولاً إلى إيران الخمينية التي «لا تخفي تطلعها للسيطرة على هذا المشرق، متخذة من الهوية المذهبية بغطاء من ثورية مدّعاة وإسلامية مبتدعة وسيلة لتحقيق أهدافها»، على ما يقول أصحاب بدعة هذا «الهلال»… بهذا يصبح وصول مجموعة من السياح الإيرانيين إلى الأقصر في مصر، وبناء على اتفاق بين الدولتين، سبباً لإطلاق نفير الإنذار تحذيراً من الغزو الشيعي لمصر ذات التسعين مليوناً، بينهم أكثر من ثمانين مليوناً من المسلمين السنة.
بالمقابل فإن تواصل المذابح في سوريا والمواجهات التي شملت مختلف أنحائها، غرباً وشرقاً وجنوباً وشمالا، قد فتحت جروحاً كانت غائرة في جسد «قلب العروبة النابض» فإذا بالأكراد يجدون الرعاية التركية – الغربية لكي يتحركوا مطالبين بنوع من «الاستقلال الذاتي»، تجنباً لكلمة «انفصال» التي يغطونها بالتعبير الذي صار مألوفاً كأمر واقع في شمال العراق: الإقليم.
هل من الضروري التوكيد على أن الكيانات الطائفية والعرقية تمنح «صدقية» للكيان الإسرائيلي على حساب حق الشعب الفلسطيني في أرضه التي كانت أرضه على امتداد التاريخ.
على هذا، فخرائط الدول التي أقيمت على عجل في عشرينيات القرن العشرين بإرادة المستعمر ولحسابه، وتم تقسيمها كيانات سياسية وفقاً لمصالحه، وعبر مساومات معلنة بين البريطانيين والفرنسيين، مع توافق صريح على إفساح مكان مستقبلي للكيان الإسرائيلي… كل ذلك مهدد الآن باحتمال إعادة النظر في حال أمكن للقوى الدولية الراعية بدعة «الهلال الشيعي» أن تواصل تنفيذ مخططها وفق قاعدة تقسيم جديدة تعتمد المذاهب والطوائف، بعيداً عن الدين وأساساً عن القومية التي كانت دائماً الهوية الجامعة لشعوب هذه المنطقة.
تبقى ضرورية الإشارة إلى أن إسرائيل تتبدى الآن في صورة «الدولة الوحيدة» القوية والمحصنة بهويتها الدينية بوصفها «دولة يهود العالم» التي لا يطالها «الهلال الملكي» الذي بشر به المليك الهاشمي عبد الله بن الحسين.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية