يعيش المشرق العربي حالة من التيه وافتقاد اليقين طاولت إيمانه بهويته، وقد غرقت أعرق عواصمه عبر التاريخ، وبينها دمشق الشام وحلب الشهباء وبغداد هارون الرشيد وصنعاء اليمن، من دون أن ننسى الموصل، معقل العروبة والثوار، في دماء أهلها عبر الحروب التي انخرطت فيها عصابات الإرهاب بالشعار الإسلامي، مستدرِجة الدول الكبرى للعودة ـ عسكريًّا ـ إلى المنطقة تحت لافتة النجدة، بالاضطرار غالباً، كما في سوريا، أو باستغلال الحاجة إلى دولة قادرة، كما في العراق.
وفي حين تغيب مصر لانشغالها بأزماتها الداخلية، تتصدر دول الخليج العربي بالقيادة السعودية «المشهد الحربي»، إما مباشرة كما الحال في اليمن، وإما بشكل غير مباشر ولكنه مؤثر كما الحال في سوريا وإلى حد ما في العراق.
وحده لبنان استطاع أن يجد لنفسه مخرجاً من أزمته السياسية التي استعصى حلها على طبقته السياسية طوال عامين ونصف العام، كلفت اللبنانيين بعض استقرارهم الاقتصادي والأمني. هكذا، وفي لحظة قدرية، أمكن للمجلس النيابي، الممدِّد لنفسه والمغلق منذ دهر، أن يفتح أبوابه، وأن يتلاقى فيه النواب الذين غابوا عنه طويلاً، وأن ينجحوا، أخيراً، في انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
وإلى ما قبل الحرب في سوريا وعليها، كانت لدمشق كلمتها المؤثرة جداً في لبنان، دولة وقوى سياسية وحركة اقتصادية، لا سيما بعد عقد الشراكة بينها وبين السعودية (منذ أيام الملك فهد وحتى أيام الملك عبد الله). هكذا حلَّتا معاً ـ فعلياً ـ محل مصر عبد الناصر، وإن كان قد ظل للغرب (الأميركي أساساً مع دور رمزي لفرنسا) تأثيره الفاعل في الحياة السياسية في الوطن الصغير والجميل.
صار لمصر دور رمزي، أقرب إلى أن يكون معنوياً… بعد انشغالها بأوضاعها الداخلية، وتطلعها إلى السعودية وسائر دول الخليج لإعانتها في أزمتها الاقتصادية الحادة، مُرجِئة الالتفات إلى دورها في المشرق العربي (لبنان، سوريا، العراق… وصولاً إلى اليمن).
ها هو لبنان قد نجح قبل أيام، في انتخاب رئيس للجمهورية، هو قائد الجيش السابق ميشال عون، الذي أسند إليه الرئيس الأسبق أمين الجميل ـ مكرهاً ـ وفي اليوم الأخير من ولايته التي فشل في إقناع الرئيس الراحل حافظ الأسد بتمديدها، رئاسة حكومة عسكرية استقال نصف أعضائها فور إعلانها.
وقد عاش لبنان، آنذاك، وضعاً استثنائياً باهظ الكلفة استمر لأكثر من سنة، انعقدت خلاله ثلاثة مؤتمرات للمصالحة الوطنية، تُوجت باتفاق الطائف، تحت رعاية سورية ـ سعودية، وتحت مظلة أميركية. وقد تطلب تنفيذ هذا الاتفاق تدخلاً عسكرياً سورياً، انتهى بإسقاط حكم الجنرال الذي استمر أكثر من سنة وشهد «حربَين»: الأولى ضد «الشرعية» تحت المظلة السورية، والثانية ضد «القوات اللبنانية» بقيادة سمير جعجع. وفي نهاية الأمر، انتهى العماد عون «منفياً» إلى فرنسا، حيث عاش هناك عشر سنوات… بينما لم تتأخر المواجهة بين الشرعية الجديدة وجعجع.
على أن ذلك كله قد بات من الماضي. فالجنرال عون الذي عاد من المنفى بعد تبدل الأحوال في لبنان وسوريا، لقي استقبالاً جماهيرياً حاشداً. ثمّ باشر العمل السياسي عبر «التيار الوطني الحر»، وهو أقرب إلى جبهة سياسية عمادها تنظيم حزبي تلتف حوله مجموعة من الشخصيات التي ناصرته في لبنان، وظلت وفية له في منفاه، ثمّ حازبته وناصرته في الانتخابات التي جعلت منه قطباً نيابياً وازناً وصاحب «حق شرعي» في المشاركة في الحكم عبر الوزارات المختلفة التي قامت حتى اليوم.
إذاً أنجز لبنان فصار له رئيس لجمهوريته، هو الثالث عشر منذ استقلاله، هو القائد السابق للجيش، ورئيس الحكومة العسكرية السابق، و «المتمرد على الشرعية»، والمنفي والعائد منتصراً، ورئيس ثاني أكبر كتلة نيابية، والحليف الثابت والقوي منذ عشر سنوات طوال وحتى اليوم لـ «حزب الله». وقد تلاقى الأضداد على انتخابه. أما بالنسبة إلى الدول فقد حظي بدعم أميركي صامت ودعم إيراني معلن ودعم سوري مضمر، وإن كان معروفاً، وتأييد فرنسي. أما السعودية فقد رفعت، فجأة، «الفيتو» عنه، والذي كان بين أسبابه تحالفه مع «حزب الله» وكان الملك سلمان بن عبد العزيز بين أوائل المهنئين. هكذا صار الجنرال المتمرد (سابقاً) والزعيم الشعبي، العماد ميشال عون، رئيساً للجمهورية… وعاد إلى القصر الجمهوري رئيساً شرعياً منتخباً.
يمكن الافتراض أن التأييد العلني للسعودية (مع التهنئة الملكية) قد أكد الدعم الأميركي الذي جاء عبر برقية تهنئة من وزير الخارجية جون كيري، قبل أن تنهال سائر التهاني من مختلف الدول، شرقاً وغرباً، وكان أبرزها التهنئة التي تلقاها عبر اتصال من الرئيس السوري بشار الأسد.
يمكن هنا أن يُطرَح سؤال شرعي: هل هذا التلاقي الضمني بين واشنطن وطهران هو حول لبنان وحده؟ أم هو مقدمة لتقاطعات أخرى في السياسة حول منطقتنا؟
ذلك ما ستكشفه التطورات العسكرية الخطيرة الجارية في العراق (معركة الموصل بأبعادها كافة وتأثيراتها في المنطقة، ومعركة حلب بتداعياتها المنطقية التي ستتجاوز، على الأرجح، حدود سوريا).
يمكن إضافة اليمن إلى «مرحلة التهدئة»، خصوصاً أن الحرب الظالمة والمكلفة، إنسانياً وعمرانياً واقتصادياً، قد أنهكت الاقتصاد السعودي، وتجاوزت حسابات دولة الإمارات فقررت الخروج منها، وتناقصت الحماسة القطرية لها… في حين اكتفت الكويت، منذ البداية، بدور أرض التلاقي بين المقاتلين، تجمعهم مع الوسيط الموريتاني المكلّف من طرف الأمم المتحدة من دون أن تتورط في دور وساطته، ربما لأنها رأتها صعبة فاكتفت بأن تكون دار اللقاء.
على أي حال، يبدو أن ثمة سياقاً يربط بين هذه التطورات التي تشهدها أقطار المشرق العربي. فالتلاقي السحري يعيد دهراً من القطيعة بين القوى السياسية متناقضة الشعارات: من «حزب الله» إلى «التيار الوطني الحر» بقيادة ميشال عون أصلاً ثمّ صهره وزير الخارجية الحالي جبران باسيل، إلى «تيار المستقبل» بقيادة سعد الحريري، إلى «القوات اللبنانية» بقيادة سمير جعجع، مع اكتفاء حركة «أمل» بقيادة رئيس مجلس النواب ومعها عدد وازن من النواب (ناهز الأربعين) بأوراق بيضاء في «الصندوق»، كأنه أقرب إلى ربط النزاع منه إلى المعارضة.
يمكن الإيجاز بالقول إن هذا «الإنجاز» الذي كان يبدو مستحيلاً في لبنان قد يؤشر إلى تحولات مقبلة في مواقف دول القرار وأساساً الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الروسي.
فإذا أضفنا إلى هذه التطورات العسكرية في معركة تحرير الموصل من «داعش» خليفته، والتي تؤشر إلى اقتراب تحرير العاصمة الثانية للعراق، فضلاً عن تزايد احتمالات حسم معركة حلب بأي ثمن تحت شعار فتح أبواب الحل السياسي للأزمة التي تعصف بسوريا منذ أكثر من خمس سنوات، نكون أمام تطور خطير قد يسهم في إعادة الخرائط، في المشرق العربي، إلى أصولها الطبيعية.
وفي السياق نفسه، نكون أمام تطورات مهمة في العلاقات بين دول ظلت مختلفة إلى حد القطيعة والتلويح بالحرب، وها هي تقترب من التلاقي عندنا، ولحسابها وليس لحسابنا، وهي الولايات المتحدة الأميركية، والاتحاد الروسي، والمملكة العربية السعودية وإيران.
هذا إذا كان ما حدث في لبنان هو البداية وليس مجرد سنونو لا تكفي لأن نتوقع ربيعاً في الخريف العربي.
] تنشر بالتزامن مع جريدتَي «الشروق» المصرية و«القدس» الفلسطينية.