وعت الأجيال التي سبقتنا الحياة على «نكبة فلسطين».
وكان تعبير «نكبة» يدل على الهرب إلى «القدرية» في تفسير هزيمة سياسية وعسكرية كشفت، بوقائعها الجسيمة، غربة العرب عن العصر، وجهل قياداتهم ونخبهم، بأكثريتها، فضلاً عن جموع شعوبهم، خطورة الحدث الجلل الذي كشف سذاجتهم السياسية وارتهان قرارهم للإرادة الأجنبية، فضلاً عن رؤيتهم الضبابية الساذجة للمشروع الإسرائيلي بكل قوى الدعم الذي يحظى بها.
كان هذا المشروع يستند في تأسيسه إلى «وعد بلفور» الذي أعطاه الاحتلال البريطاني للحركة الصهيونية العالمية في الثاني من تشرين الثاني 1917، ولم يعرف به العرب إلا بعد قيام الثورة البولشيفية في روسيا ونشرها مجموعة من الوثائق السرية كان «الوعد» من بينها.
وبرغم أن «المشروع» كان يتنامى ويتكامل على ارض فلسطين أمام عيون أهلها وسائر العرب، وحكامهم بالدرجة الأولى، إلا أنهم جميعاً «فوجئوا» باكتماله وتحققه فوق ارض فلسطين، هو الذي أدى إلى طرد معظم أهلها منها ليغدوا لاجئين داخلها أو في دول الجوار.
وكانت الدلالات المباشرة للهزيمة قاطعة في وضوحها: فلا دولهم كانت دولاً مكتملة النمو، ولا جيوشهم كانت جيوشاً بالفعل. وبرغم تلاقي دولهم «المستقلة» آنذاك في جامعة الدول العربية، فإن هذه الجامعة كانت رمزية الحضور، تمشي بخطى أضعفهم ولا تملك أن تقرر إلا في ما يتوافقون عليه.. والتوافق متعذر، وربما مستحيل.
كانت الصدمة بتخلفهم وغربتهم عن العصر أقسى من صدمتهم بهزيمتهم أمام عدو اقتحم بعض بلادهم معززاً بجيش قوي وبتأييد دولي غير مسبوق. أبسط أدلته أن الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي قد صوتت على قيام «دولة إسرائيل»، مطمئنة إلى أن رد الفعل العربي لن يتجاوز التظلم والتشكي واتهام «الدول» بخذلان أصدقائها العرب.
لم ير العرب سبب هزيمتهم في عروبتهم، بل رأوها في تخلفهم وتهافت دولهم وغربتهم عن العصر. فدولهم جميعاً محتلة، أو انها بالكاد خرجت إلى رحاب الاستقلال، ضعيفة، لا تعرف العالم، بينما إسرائيل أقوى عسكرياً وسياسياً منهم جميعاً، وموجودة ـ بل ومؤثرة ـ في المنتديات الدولية، ولها علاقات وثيقة مع الدول الكبرى التي تنافست على مساعدة «الدولة الديموقراطية»، بل الدولة الغربية الناشئة وإن ادَّعت الانتساب إلى مملكة سليمان وداوود وما قبلهما.
على هذا يمكن القول إن بداية وعي «العرب» بذاتهم وبخطورة موقع بلادهم في العالم، قد جاءت مع «نكبة فلسطين».
كانت مصر الملكية تحت الاحتلال البريطاني، وليبيا – الملكية أيضاً- بولاياتها الثلاث تحت استعمار ثلاثي (أميركي – بريطاني- فرنسي) بعد إجلاء الاحتلال الإيطالي الاستيطاني. وكان الفرنسيون أصحاب القرار في تونس، يغيِّبون الجزائر التي يعتبرونها «فرنسا ما وراء البحار»، والمغرب بعيد يحاول موازنة فرنسا بعلاقة مستجدة وطدتها الحرب العالمية الثانية مع الولايات المتحدة الأميركية.
أما في المشرق، فكان لبنان يخرج من الانتداب الفرنسي إلى الكوزموبوليتية، وسوريا الفقيرة تستعيد وحدة دولتها بعد محاولات فرنسية لتقسيمها إلى أربع «دول»، وتحاول بناء استقلالها بقدراتها المحدودة، والعراق تحت الاحتلال البريطاني، ومعه أقطار الخليج (الكويت وإمارات الساحل المتصالح التي ستغدو دولة الإمارات العربية المتحدة ومن ثم قطر)، أما السعودية فكانت خلف السور، بعيدة جداً، وكذلك اليمن.
ولا شك أن صدمة الهزيمة في فلسطين قد نبهت الشعوب إلى واقعها. وبدأ الرد على الهزيمة بخلع الأنظمة الحاكمة على أيدي الجيوش التي حاولت الثأر لهزيمتها من حكامها الذين اعتبروا مسؤولين عن.. خسارة الحرب بلا قتال! وهكذا قام الجيش السوري بأول انقلاب عسكري، فخلع أول رئيس للجمهورية في عهد الاستقلال ليتسلم السلطة ضابط يدعى حسني الزعيم . لكن الانقلاب الأول سرعان ما أعقبه انقلاب عسكري ثان بذريعة أن شركة «تابلاين» الأميركية للنفط هي التي دبرت الانقلاب الأول. وكرت سبحة الانقلابات، إلى أن انتهى الأمر بذهاب كبار الضباط بعد عشر سنوات، تقريباً، ومعهم كبار السياسيين في سوريا إلى القاهرة ليطلبوا من الرئيس جمال عبد الناصر الوحدة مع مصر. على أن هذه الوحدة لم تعش إلا ثلاث سنوات ونصف السنة، ثم فصم عراها ضباط سوريون اتهموا بمعاداة الوحدة والعروبة ومصر عبد الناصر.
في العراق، وبتأثير من المد القومي العربي وقيام دولة الوحدة، تقدم الجيش لينهي الحكم الملكي (الهاشمي)… وخلافاً للتوقع، فإن قائد الانقلاب الزعيم عبد الكريم قاسم ظل بعيداً عن القاهرة، بل إنه سرعان ما فجر خلافات حادة معها، ضربت حلم الوحدة.
على أن الحلم سرعان ما انتعش بانتصار ثورة الجزائر وقيام دولتها في أواخر صيف 1962، في حين خلع الجيش اليمني الإمام يحيى، وتوجه نحو القاهرة لنصرته.
في 5 حزيران 1967، شنت إسرائيل حربها على مصر (وسوريا) ووقعت هزيمة تفوق التصور. وكان ضرورياً إعادة بناء الجيش المصري، بعد استعادة قواته من اليمن وخلع قياداته التي كانت مشغولة عنه وعن مهماته الجليلة وأولها مواجهة العدو الإسرائيلي.
وفي أيار 1969، قام الجيش السوداني بانقلاب بتوجهات وحدوية معلنة، خلافاً لرأي الشيوعيين الذين كان لهم دور أساسي فيه.
في الفاتح من أيلول 1969، قام الجيش في ليبيا بانقلاب أدى إلى خلع الملك إدريس الثاني، رافعاً شعار الوحدة التي ظلت في خانة الأحلام.
وفي 28 أيلول 1970، توفي جمال عبد الناصر، وتهاوت أحلام غالية أبرزها حلم الوحدة العربية… حتى إذا جاءت حرب أكتوبر- تشرين- رمضان 1973، كان آخر تلاق عربي، سياسي وعسكري، على أرض القضية المقدسة، فلسطين، وفي مواجهة العدو الإسرائيلي، ليفتتح الرئيس المصري أنور السادات التوجه الجديد نحو الصلح مع إسرائيل. وبخروج مصر من الصراع، أصيبت قضية فلسطين بتصدع خطير، وتوارت كقضية جامعة للعرب من خلال وحدة الأهداف ووحدة العدو.
ها هم «العرب» الآن بلا كيان جامع، وقد تراجعت الهوية الموحدة لتسود الكيانية والإقليمية، ومعهما – بطبيعة الحال ـ الطائفية والمذهبية. بل إن العديد منهم أخذ يرجع ويسترجع هويات قديمة عفا عليها الزمن، مع أن حركة العروبة لم تنكرها عليه، بل أكدت احترامها لمختلف الأعراق والعناصر فضلاً عن الأديان والطوائف. هذا مع الإشارة إلى أن أكثرية المفكرين وقادة الحركات السياسية الوحدوية منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى نهايات القرن العشرين، كانوا من أبناء هذه الأمة من المسيحيين (آل اليازجي، جرجي زيدان، آل البستاني، انطون سعاده، ميشال عفلق، جورج حبش…).
وبالتأكيد، فإن الأنظمة التي حكمت، الأبرز والأقوى دوراً وتأثيراً في الدول العربية، والتي كانت بمجملها من أصول عسكرية، قد أساءت إلى العروبة وإلى فكرة الوحدة، عن طريق الابتذال في استخدامها لتغطية ديكتاتوريتها وعجزها عن بناء دول قادرة… فأُلصقت بها تهم القصور، بينما اغفل دور الممالك والإمارات ومعها النفط كسلاح فعال.
من هنا، فإن الانتفاضات الشعبية التي تفجرت تباعاً في تونس ثم في مصر وبعدها سوريا فليبيا ثم اليمن، قد رفعت شعاراً موحداً: يسقط يسقط حكم العسكر!
في البدء، وفي مواجهة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، توهم الجمهور أن «المشكلة» عسكرية، بالدرجة الأولى. وكان العسكريون مبادرين بالتحرك دفاعاً عن شرفهم ورفضاً لتحميلهم المسؤولية عن الهزيمة.
ولكن سرعان ما تبين أن المسألة اخطر من ذلك بكثير، وأن مواجهة المشروع الإسرائيلي الذي يحظى بدعم دولي هائل، والذي «يخاطب» بصورة أو بأخرى، الأقليات الطائفية أو المذهبية أو العرقية في أقطار المشرق خاصة، وفي الدول العربية عموماً، تتطلب تصليب الوحدة الوطنية وتأكيد وحدة المجتمعات بتعزيز روابطها وقيمها وأهدافها المشتركة، وأساساً هويتها الوطنية – القومية التي رآها العدو واحدة موحدة ورأت فيها الطبقة السياسية الحاكمة مساحة للمناورة والاستغلال السياسي الرخيص ولو على حساب الأمة والدولة ووحدة الشعب جميعاً.
وهكذا اكتشفت الطبقة السياسية أن العيب في العروبة وليس في نظام الحكم الذي خان أهداف نضال شعبه، وأن التبرؤ من العروبة أو الخروج منها وعليها هو الطريق إلى التقدم والحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية.
لكن وقائع الحياة أقوى: فها إن العدو الإسرائيلي ما يزال عدواً برغم كل معاهدات الصلح و«التسوية» و«الاعتراف بالأمر الواقع»، وها إن الدول العربية التي اختارت الانفراد بمسؤولياتها الأمنية والاقتصادية والاجتماعية تنتهي – بمواردها الهائلة – رهائن لدى القوى العالمية ذات المشاريع الإمبراطورية والتي لا تتردد في الإعلان عن خططها لتجديد هيمنتها على المنطقة عموماً، متخذة من «إسرائيل» الدولة الوحيدة الثابتة فيها، بينما المشرق – بدوله جميعاً – قيد البحث.
وبكلمة، فإن البديل عن العروبة، كهوية جامعة، هو واحد من اثنين: إسرائيل كدولة مركزية للمنطقة، وولايات في الخلافة الداعشية بحماية إسرائيل وقوى الغرب موحدة الآن في الإمبريالية الأميركية… أو في ظل تقاسم للنفوذ بين هذه جميعاً على حساب العرب وهويتهم الجامعة في حاضرهم كما في مستقبلهم.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية