وجفت قلوب العرب في مشارق أرضهم ومغاربها عندما سمعوا أو قرأوا أو شاهدوا صوراً لضحايا التفجير الإرهابي الذي استهدف منطقة المشهد الحسيني والأزهر الشريف، يوم الأحد الماضي.
أحس كل عربي، خارج مصر، كأنما التفجير يستهدفه شخصياً. ذلك ان هذه الأحياء من القاهرة الفاطمية تسكن وجدان الناس، على اختلاف ميولهم السياسية وأمزجتهم وأهوائهم، فهي مقصد كل القادمين الى القاهرة، عائلات وأفرادا، زواراً وسياحاً وعشاقاً، بحاثة ودارسين او ممن يحبون التجوال في رحاب التاريخ.
لقد زرع الأديب العظيم الراحل نجيب محفوظ منطقة الحسين وخان الخليلي والتفرعات التي تأخذك الى قصر الشوق والسكرية وبين القصرين في الوجدان. لم تعد مجرد أحياء عتيقة ومكتظة في مدينة عريقة تتكشف دروبها عن ملامح حضارة ممتدة عبر الزمن. وهكذا فإن أجيالا من العرب، غير المصريين، قد شدهم إيمانهم، او جذبهم عبق التاريخ الى هذه الأحياء المكتظة بسكانها الذين يستحضرون ماضيها حتى وهم يجدون السير على طريق مستقبلهم، فجعلوها بندا ثابتاً في زياراتهم لعاصمتهم الكبرى، يتجولون فيها ويجلسون الى مقاهيها وسط الزحام الذي تختلط فيه ملامح الحقبات التاريخية المختلفة التي أعطت قاهرة المعز مكانتها المميزة في الوجدان.
وبطبيعة الحال فإن أي جريمة إرهابية وفي أي مكان، لا يمكن ان تواجه إلا بالشجب والاستنكار، أما في القاهرة فإن الجريمة تتخذ أبعادا غير محدودة تتجاوز المواقف المبدئية والسياسات المتبعة لتغدو اعتداء على التاريخ والذاكرة الجماعية والحضارة الإنسانية.
حتى الذين يسجلون المآخذ على السياسة الرسمية المعتمدة في مصر يرفضون مثل هذه الأعمال الإجرامية، ويرون فيها انحرافاً خطيراً يسيء الى اعتراضاتهم الجوهرية على المواقف السياسية، وتزكية او تبريراً لردود الفعل التي قد تندفع بالغضب والثأر لكرامة السلطة الى منزلقات مكلفة في لحظة الاضطراب السياسي الشامل.
فالعرب يهتمون لأمر مصر ودورها الخطير لسببين متلازمين:
الأول ـ إنها «الدولة» الأكبر والأعرق وذات الموقع الرابط والجامع بين المشرق والمغرب، وذات المكانة التاريخية، وذات القدرات المميزة التي تؤهلها لما لا يقدر عليه غيرها.
أما السبب الثاني فيتصل باهتمامهم بحاضرهم وغدهم وحقوقهم في بلادهم، والتطلع الى التحرر والتقدم والديموقراطية مع الكرامة.
بديهي والحال هذه أن أي ضرر يصيب مصر فيعطلها عن دورها سينعكس وبالاً على العرب جميعاً، وأن أي تقدم تحرزه، وفي أي مجال، سيفترضونه مكسباً لهم، وسواء أوقع ذلك التقدم في الصناعة ام في القوات المسلحة في السد العالي وزيادة المساحة المزروعة ام في زيادة النور، فضلاً عن الثقافة والعلوم وسائر مجالات النهوض.
إن مصر اكبر من نظامها. والنظام الناجح هو الذي يثبت جدارته بحكم مصر، بكل غنى تجربتها عبر التاريخ، وبكل الدور المتاح له أن يلعبه في منطقة تنظر الى مصر على انها «القيادة الشرعية»، حتى اذا تأخرت عن لعب هذا الدور وُثِب عليه بالدبابة او بالنفط الذي يستحضر مستثمره أكثر مما يستحضر صاحب الأرض المبهور بالثروة التي تفوق قدراته على توظيفها.
فمصر سبقت العرب جميعاً الى الدولة، ثم الى الاستقلال، الى التقدم العلمي كما الى الديموقراطية وبالتالي الى الانتخابات عبر الثورة الشعبية في العام 1919 التي أنجبت الدستور، وتداخل او تكامل في افيائها مطلب التحرر من القيد الأجنبي (البريطاني) مع مطلب ان تكون الكلمة العليا للشعب في ظل حكم دستوري.
وهكذا فإن مصر قد أضافت الى ثقلها البشري وموقعها الجغرافي المميز الذي يشكل الرابط بين المشرق والمغرب، سبقها الى الديموقراطية والحياة الحزبية والدستور والبرلمان، فضلاً عن نهضتها الثقافية العظيمة التي جعلتها، ومنذ منتصف القرن التاسع عشر «معلم العرب» وجامعتهم وكتابهم والجريدة… والأخطر: أغنيتهم وموسيقاهم ونشيدهم، ثم مسرحيتهم وشريطهم السينمائي وكل ما يخاطب الوجدان حتى النشوة.
ولعل ما زاد من قيمة مصر في نفوس العرب أنها لم تخاطبهم باستعلاء، ولم تسع الى الهيمنة على دولهم الناشئة، ولم تحاول أن تفرض عليهم وصاية، وإن ظلت تلبي نداءهم اذا ما طلبوها، وترفدهم بأسباب المعرفة من المدرس الى الكتاب، ومن الشيخ الأزهري الى الطبيب ومن الخبير الى المدير، فإلى العامل في البناء او في الزراعة… هذا فضلاً عن النجدات العسكرية لأي دولة يهدد الطامع الأجنبي او المعتدي الإسرائيلي أمنها وسلامتها الوطنية… وسيرة المقاومة البطولية للأحلاف الاستعمارية مكتوبة في تاريخ مصر بأحرف من نور.
ولم تكن مصادفة ان تكون القاهرة هي المقر الشرعي والطبيعي لجامعة الدول العربية، عند التوافق على إنشائها في منتصف الأربعينات من القرن الماضي.
ولم تكن مشاركة مصر في الحرب الإسرائيلية الأولى 1948 مجرد استجابة لنداء الاستغاثة الذي أطلقه شعب فلسطين وسائر العرب، لمواجهة المشروع الاستعماري الاستيطاني بإقامة الكيان الإسرائيلي على ارض فلسطين وتشريد شعبها في أربع جهات الأرض.
لم تكن تلك المشاركة مجرد نجدة أخوية تقدمها مصر لشعب فلسطين، بل كانت قياماً بواجب وطني شرعي في الدفاع عن سيادة مصر، وعن مستقبل شعبها فوق أرضها، وتلبية لنداء الوطن المصري بالدفاع عنه، فمن احتل فلسطين بالقوة وشرد شعبها هو صاحب مشروع استعماري استيطاني معزز بدعم قطبي القوة في العالم آنذاك: المعسكر الرأسمالي بقيادة الولايا ت المتحدة الاميركية (ومعها اوروبا الغربية) والمعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي.
[[[
ليس هذا حديثاً في الماضي وعنه. انه حديث عن الحاضر والمستقبل. وهذه هي الحرب الإسرائيلية على شعب فلسطين في غزة تؤكد خطورة هذا الكيان الغريب الذي زرع في الأرض العربية على مستقبل العرب في مختلف أقطارهم، ودائماً بدءاً بمصر، وانتهاء بمصر.
لم يطالب احد من العرب مصر بأن تخوض الحرب دفاعاً عن غزة. ولكنهم افتقدوا قدرتها ـ وهي في تقديرهم او تمنيهم قادرة ـ على منع هذه الجريمة الإسرائيلية ضد الإنسان وأسباب العمران على هذا «القطاع» من الأرض الفلسطينية الذي لا منفذ له الى الدنيا (وإلى الحياة) الا مصر، والذي تربطه وشائج عريقة تمتد في التاريخ والجغرافيا وأنساب العائلات عميقاً…
وكثير من أبناء غزة يرون أنفسهم «مصريين» بهذه الدرجة أو تلك، ويتطلعون الى مصر بوصفها مصدر الأمل في التحرير، فضلاً عن كونها باب المدد بالغذاء والدواء والكتب والمدرسين، ثم إنها جامعتهم ومصدر حمايتهم، خصوصاً بعد الانقسامات التي عصفت بهذا الشعب الذي تتوالى عليه النكبات منذ ستين عاماً او يزيد، فلا يجد من يهتم لأمر حاضره او مستقبله، فضلاً عن هموم حياته اليومية.
لم يقبل العرب لمصر دور الوسيط مع إسرائيل، حتى لو كان من اجل غزة.
إن مصر «دولتهم»، مرجعهم، مصدر قرارهم. وليست وسيطاً بينهم وبين «عدوهم» الذي يقاتلهم في أرضهم وعليها منذ ستين عاماً، بلا توقف.. والذي لم تخفف معاهدات الصلح من عدوانيته ومن أغراضه التوسعية المعلنة والتي تغتصب الأرض وتطرد أهلها الفلسطينيين منها الى البؤس والفقر والمهانة لتستبدلهم بمستعمرين تستقدمهم من أربع رياح الأرض فتمنحهم أراضي القرى والدساكر والمدن التي ابتناها الفلسطينيون وزرعوها وعمروها بعرق الجباه والزنود على امتداد آلاف السنين.
وبغض النظر عن الرأي في توجهات «حماس» او في ممارساتها، فإن غزة هي بعض فلسطين، والحرب الإسرائيلية المدمرة والشاملة على شعبها المحاصر، والتي لم توفر سلاحاً فتاكاً، متاحاً او محرما، إلا واستخدمته، هي حرب على شعب فلسطين جميعاً… بل إنها حرب على العرب جميعاً، حتى لو أداروا وجوههم الى الناحية الأخرى، وذهبوا يبحثون في الخطط لإعادة بناء غزة، بينما العدو الإسرائيلي ما زال يطوقها ويحاصرها بنيرانه المدمرة، ويمكنه ان يعيد تدمير كل ما يمكن ان يبنى فيها بحرب جديدة يتجاهلها العالم، وهو منهمك في مناقشة «الإرهاب الفلسطيني»!
من حق العرب أن يفترضوا ان تلك الحرب الإسرائيلية هي حرب عليهم جميعا، بدءاً بمصر وانتهاء بها، بعنوان غزة.
ولقد رأى العرب في وحشية تلك الحرب وقوة التدمير التي استخدمتها إسرائيل فيها إرهابا لمصر، اولاً وأساسا، ومحاصرة لدورها، ومحاولة لإذلالها.
ولم ينظر العرب بارتياح الى ادوار بعض الدول الغربية التي توافد رؤساؤها الى مصر لإقناعها بدور «الوسيط»، في حين انها «ولي الأمر» وفي موقع «الأب» و«الراعي» المسؤول عن شعب فلسطين في غزة.
بل ان تصريحات بعض المسؤولين الغربيين الذين عبروا من شرم الشيخ الى القدس المحتلة قد تضمنت بعض الإساءة الى مصر ودورها، خصوصاً انهم قد تصرفوا مع أبطال المذبحة من قادة إسرائيل وكأنهم «من أهل البيت» وقد جاءوا لدعمهم وتحريضهم على إكمال «المهمة»… مطمئنين الى ان معظم القـادة العـرب قد انشـغلوا عن واقع الجريمة الإسرائيلــية المشهودة في غزة بالحديث عن خطر إيران، وصمتوا عن الاتفاق الإسرائيلي ـ الاميركي لفرض الحصار على الشواطئ العربية عموماً، بما فيها الشواطئ المصرية، بذريعة منع وصول السلاح الى غزة.
ولقد كان طبيعياً أن تثور مصر لكرامتها الوطنية وأن تعلن رفضها لهذا التواطؤ الاميركي ـ الإسرائيلي عليها، عشية مغادرة الإدارة الاميركية السابقة البيت الأبيض.
ولقد كانت مفارقة موجعة ان يهب العديد من القادة العرب للتلاقي في اجتماعات طارئة لمناقشة الخطر الإيراني، بينما المحرقة الإسرائيلية في غزة تلتهم البشر والشجر والحجر وروابط الأخوة التي لا تنفصم بين شعب فلسطين وسائر الشعوب العربية من حوله، شمالاً وجنوباً وشرقاً.
ان أحدا لا يناقش في مسؤولية مصر، اولاً وأساسا، عن حماية شعب فلسطين في غزة… وهو دور طالما قامت به تاريخياً وأضاف الى سجل شرفها صفحات مذهبة.
انه شرف معقود لمصر: دولة العرب جميعاً، والتي يحبونها ويقدمونها على أوطانهم الصغيرة، وهم مستعدون لافتدائها بأعز ما يملكون، ولهذا فهم يطالبونها بأن تقوم بأعباء القيادة… وهذا شرف عظيم، لو تعلمون.
([) تنشر «السفير» النص بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية