تتوزع مشاعر المواطن العربي خارج مصر بين الدهشة والاستغراب والصدمة وهو يتابع التناقض الذي يحسبه ارتباكاً، ثم يضطر إلى اعتباره جزءًا من خطة معتمدة، وليس ارتجالاً يقدم عليه الرئيس محمد مرسي، أو تلجأ إليه دوائر الرئاسة، وصولاً الى البيانات التي يصدرها «الإخوان المسلمون» سواء تحت شعار تنظيمهم الأصلي او التنظيم البديل (الحرية والعدالة) فضلاً عن القرارات المفاجئة التي تصدر بغير تمهيد، ثم تعتمد بغير تفسير مقنع، وبغير اضطرار الى الاستعجال المربك في تنفيذها.
لقد بات مألوفاً أن تفاجئ الرئاسة المصرية الجمهور، داخل مصر وخارجها، بقرار غير مفهوم، أو إجراء غير متوقع، ثم تباغته بآخر مضاد بمضمونه للأول، ثم بثالث مناقض للسابقين: من الحديث عن الحكومة إلى اختيار رئيسها وتشكليتها بطريقة درامية، الى العلاقة مع «المجلس العسكري» التي راوحت بين التقدير العالي لدوره الوطني وامتداح انضباط رئيسه وأعضائه وكفاءتهم وحسن سلوكهم في المرحلة الانتقالية التي أمنت فوزاً باهراً لـ«الإخوان» لم يكونوا- اغلب الظن – يتوقعونه، مهد لسيطرتهم الكـاملة على «الدولة» ولو الى حين… ويعلم الله وحده حدود هذا «الحين»، وبين «الانقلاب» عليهم وخلعهم من مواقعهم الممتازة ومحاسبـتهم على ارتكابات خطــيرة كانت معروفة، وإن أرجئت المحاسبة عليها، حتى استقر الأمر لصاحب الأمر.
كذلك لم يعد يثير الاستغراب أن يواصل «الإخوان» السيطرة على مراكز التوجيه الإعلامي، بدورها السياسي بامتياز، وان يضعوا أيديهم على وزارة الإعلام وعلى المواقع القيادية في «الصحف القومية»، فضلاً عن نقابة الصحافيين، وقبل الحديث عن مطبوعاتهم وإذاعتهم المرئية والمسموعة وسائر أسباب التواصل الاجتماعي.
على أن الأخطر هو الارتباك (المقصود) في المواقف السياسية بدءاً بالعلاقة مع الإدارة الاميركية، مروراً بالتوكيد على استمرار العلاقة مع الكيان الإسرائيلي والحرص على ضخ الحرارة فيها بالتواصل، سواء لأسباب أمنية كما حصل بعد الأحداث الدموية في سيناء، أو لتوكيد ثبات السياسة الساداتية عبر السفارة التي استعجلت الرئاسة تعيين من يؤكد إدامتها واستمرار الحرارة فيها.
أما في العلاقات العربية فلم تكن مصادفة أن تكون الزيارة الأولى للرئيس مرسي إلى السعودية… ثم ان تكون الزيارة الثانية لها أيضا، وإن اتخذت مبرراً من دعوة الملك عبدالله بن عبد العزيز قمة التعاون الإسلامي الى اجتماع طارئ وبهدف التقريب بين المذاهب الإسلامية التي بلغ «تقاربها» حد التصادم بأسلحة عدة أخطرها التكفير الآخذ الى الفتنة.
بالمقابل لا يمكن اعتبار التصرف الرئاسي خلال قمة دول عدم الانحياز التي عقدت في طهران وليـد ساعته، او يليق بالموقع الممتاز والممـيز لرئيــس مــصر. فالإعلان المسبق عن أن الزيارة لن تستغرق أكثر من خمس ساعات، كان له من يتوقع صدوره، من اجل الاطمئنان الى «ثبات الموقف» على قديمه، وحصر الزيارة بموجبات الرئاسة السابقة لهذا التكتل الدولي وضرورة تسليمها للرئيس الجديد. على أن الرئيس مرسي ذهب إلى ابعد من ذلك بكثير، إذ تقصد أن يتحدث وكأنه في مؤتمر إسلامي، وأن يؤكد «سنيته» في بلد غالبيته شيعية، وأن يلجأ الى تعابير ليس لها مكان في خطاب رئاسي في مناسبة لا علاقة لها بالأديان والقوميات.
ولعله كان يعي تماماً أن المسؤولين في الإدارة الاميركية وكذلك في مواقع القرار في السعودية وسائر أقطار الخليج يستمعون إلى خطابه في طهران، وإلى لقاءاته الرسمية فيها، ومن ثم الى موقفه من النظام السوري، وهكذا أفاد من المناسبة ليوجه مجموعة من الرسائل واضحة الدلالة الى هؤلاء جميعاً، تطمئنهم ان لا تحول ولا تغيير في الموقف المتخذ منذ أيام السادات تجاه إيران وثورتها الإسلامية.
أما على الصعيد الاقتصادي فالوجهة باتت محددة تماماً: الاعتماد على «المساعدات» الاميركية، المباشرة منها، او تلك التي تأتي بأمرها من البنك الدولي ومن صندوق النقد الدولي… واستطراداً من دول الخليج عموماً، ومن قطر التي اشتهر مسؤولوها بســرعة المبادرة وبالكرم الذي لا يدانيه التردد السعودي الذي يستبطن البخل، ويخرج من حلبة المزايدة باقي إمارات الخليج.
صحيح ان الرئيس مرسي قد اختار الصين لتكون أول دول أجنبية يزورها، ولكن الصحيح أيضاً ان التركيز في العلاقات الاقتصادية سيبقى «اميركياً»، بدليل الوفود التي يتوالى وصولها إلى القاهرة، وحملات الترويج لصدق الإدارة الاميركية ووفائها بالعهود.
ومع ان زيارة الرئيس مرسي الى مقر جامعة الدول العربية في القاهرة، وحضوره افتتاح الدورة الجديدة لاجتماعات وزراء الخارجية العرب، تستحق التنويه، إلا أن تأثير خطابه «العربي ـ الأفريقي» فيها قد ضاع عبر تأكيد حملته على النظام السوري بما يشبه الهتاف الجماهيري… هذا مع التذكير بأن الرئيس مرسي ذاته هو من أطلق المبادرة لتلاقي مصر مع السعودية وتركيا وإيران من اجل البحث في الأزمة السورية ومحاولة إيجاد مخرج من النفق الدموي الذي حبس فيه الشعب السوري الذي لا يفعل النظام في دمشق إلا ما يطيل أمد الصراع بما يدفع نحو الحرب الأهلية التي ستدمر سوريا، دولة وبلداً عريقاً وشعباً لم يتأخر يوماً عن نجدة أشقائه العرب وله عليهم حق المساعدة الجدية لتجنيبه خطر انهيار الدولة وغرقه في بحر من دمائه بلا ضفاف.
مهم جداً أن يكون لمصر، ممثلة برئيسها، موقف صارم من النظام السوري الذي يتحمل المسؤولية عما آلت إليه أوضاع سوريا، ولكن الأهم ان تكون مصر ـ بثقلها المعنوي ودورها القيادي والتقدير الاستثنائي الذي يكنه لها السوريون ـ صاحبة مساهمة فعالة في الجهد الذي لا بد من بذله لإخراج سوريا من محنتها.
إن السوريين عموماً ينظرون إلى مصر على أنها في موقع «الأم»… وكان الأمل أن تعيد الثورة القاهرة إلى دورها الطبيعي الذي لا بديل لها فيه والذي تمتزج فيه ملامح القيادة ذات القرار بملامح «الأم» ذات القلب الكبير، بقدرة «الدولة» ذات التأثير على رعاية الحل المؤهل لإخراج سوريا من محنتها، بدل أن تستقيل مصر من دورها وأن تحيله على الدول الكبرى، وبالذات الولايات المتحدة الاميركية، ومعها مجلس الأمن، المعروفة آلية صدور قراراته، بينما سوريا تنزف دولتها وشعبها جميعاً.
لقد استذكر الرئيس مرسي الدور العربي لمصر، في خطابه أمام جامعة الدول العربية، تماما كما استذكر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر أمام مؤتمر عدم الانحياز في طهران… ولعله في المرتين كان يزكي نفسه أكثر مما يؤكد أهليته واستعداده لأن يقوم بموجبات هذا الدور… وبين أعذاره انه غارق في المشكلات الداخلية في مصر، وهي غير محدودة. والحقيقة أن هذا الدور يتطلب قيادة مؤهلة، وطنياً، بمعنى أنها تضم القوى ذات الثقل الشعبي الوازن ومعها عقول مصر وكفاءاتها العلمية وهو ما لم يتحقق بعد، بل إن ما هو ظاهر أن جماعة «الإخوان المسلمين» تحاول مصادرة السلطة بمواقعها جميعاً، مع أن الانتخابات الرئاسية ـ وبرغم كل ما رافقها وشابها من عيوب – قد أظهرت أن المصريين لا يريدون بأي حال حكم الحزب الواحد، الذي اثبت فشله فيها كما في مختلف الدول العربية حيث أوصلته المقادير ـ بل الانقلابات العسكرية ـ إلى التحكم بمصيرها عبر قائد فرد ينظر إلى نفسه على انه ظل الله على الأرض.
وثمة من يأخذ على أحزاب الإسلام السياسي التي وصلت إلى السلطة في هذا البلد العربي أو ذاك أنها قد اندفعت تزايد على «الأنظمة البائدة» التي خلعتها الانتفاضات الشعبية في العلاقة مع واشنطن والرغبة في تمتينها بل وفي اعتمادها الركيزة الأولى للحكم الجديد، سياسياً واقتصادياً وثقافياً… خصوصاً أن العديد من القيادات الجديدة، لا سيما في مصر، من متخرجي الجامعات الاميركية ومن المبهورين بالنظام الاميركي الذي يستبطن اسرائيل دائماً.
بديهي أن ذلك كله يتم على حساب عروبة مصر التي هي هي وطنيتها.
تبقى ملاحظة أخيرة حول المعارك اليومية التي يفتعلها النهج الإخواني للسلطة مع مفكري مصر ومثقفيها وفنانيها وبعض رموزها الوطنية المؤهلة، والتي تدل على الخفة ونقص الثقافة والمعرفة بخطورة مصر ومصادرة دورها الاستثنائي عربياً ودولياً واستعجال الهيمنة على «عقل» مصر، وليس على السلطة فيها فحسب.
وليست الرأسمالية هي مصدر الإيمان، وليست العروبة طارئة على مصر، بل هي مصدر مجد لدورها الذي لا بديل منه، بشرط أن تعي قيادتها خطورته، وليس النفط من مكونات هذه العروبة، التي ليست نقيض الدين الحنيف، بل هي التعبير السياسي الأصيل عنه.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية