يحتفل «العرب»، هذه الأيام، بالذكرى الستين لـ «النكبة» التي ضربتهم في فلسطين، أساساً، بعدما كانت مقدماتها قد بعثرتهم في مختلف ديارهم التي كان يوحدها الحكم المتداعي للسلطنة العثمانية، وريثة «الخلافة» العربية ـ الإسلامية التي كانت قد تمزّقت أيدي سبأ، وتوزعها أشتات من أمراء الجيوش متعددي العنصر متعاظمي الطموح إلى السيطرة بقوة السلاح على بلاد لا يعرفون حتى لغتها.
من المصادفات القدرية أن ذكرى «النكبة» في فلسطين تجيء هذه السنة متقاربة زمنياً مع الذكرى المئوية لمعاهدة «سايكس ـ بيكو» التي تقاسم فيها الحليفان المنتصران في الحرب العالمية الأولى، بريطانيا وفرنسا، منطقة المشرق العربي. وقد حرص البريطانيون، يومذاك، على التمهيد، عبر هذه المعاهدة، لإقامة الكيان الصهيوني فوق أرض فلسطين بخطوات محدّدة بينها: تثبيت احتلالهم للأرض المقدسة مع فتح الباب أمام الهجرة اليهودية، و «خلق» كيان سياسي جديد على حدودها باسم إمارة شرقي الأردن، بزعم استرضاء الشريف حسين وعبر تنصيب ولده عبدالله بن الحسين أميراً على هذه الدويلة المقتطعة من الأرض السورية، والتي ستكون حاجزاً بين فلسطين والعراق وبالتالي الامتداد العربي حتى اليمن… في حين تتكفل صحراء سيناء بتأمين «الكيان الجديد» من مخاطر الاجتياح المصري.
التزامن بين «النكبة» في فلسطين وبين النتائج العملية لمعاهدة «سايكس ـ بيكو» أوضح من أن يحتاج إلى شرح. إنه كالعلاقة بين السبب والتداعيات المنطقية الناجمة عنه. وهكذا كان ضرورياً أن يقسم المشرق العربي، وبالتحديد «الهلال الخصيب»، أي المساحة الممتدة بين البحر الأبيض المتوسط والصحراء العربية بدءاً بالكويت على الخليج العربي وانتهاء بعدن على بحر العرب واليمن ـ شمالاً ـ عند باب المندب الذي يربط أو يفصل بين البحر الأحمر والمحيطين الهندي والأطلسي، لكي تتم السيطرة على ردود الفعل المحتملة في البلاد العربية المحيطة بفلسطين على عملية خلق الكيان الصهيوني فوق أرض فلسطين العربية.
والحقيقة أن «النكبة» لم تقتصر على فلسطين، بل هي شملت بتداعياتها كل المشرق العربي… إذ كان ضرورياً إقامة سور من الدويلات الضعيفة من حول فلسطين ليمكن زرع الكيان الإسرائيلي فيها، وعبر مدى زمني تجاوز الثلاثين عاماً، وشهد تطورات خطيرة تناولت الخريطة الجديدة لهذه المنطقة:
أولاً ـ تم «تكبير» متصرفية جبل لبنان باقتطاع أجزاء من ولايتي حمص ودمشق (أيام العثمانيين ومن ثم الأتراك)، لإقامة كيان سياسي متعدد الطائفة مع حرص على إعطاء المسيحيين (والموارنة تحديداً) مركز القرار.
ثانياً ـ جرت محاولة لتقسيم سوريا، أو ما تبقى منها بعد اقتطاع شرق الأردن، وما أعطي لمتصرفية جبل لبنان من الأرض والأهالي، إلى أربع «دويلات» على أساس طائفي أو مذهبي (دويلة للعلويين في الساحل، ودويلة للدروز في حوران التي قسمت إلى محافظتين أو مشروع دويلتين، ودويلة سنية في دمشق وأخرى سنية في حلب).
ولم تعمر محاولة البريطانيين تنصيب فيصل الأول، نجل الشريف حسين، الذي استخدموه لإعلان «الثورة العربية الكبرى» كمشروع ـ افتراضي ـ لإعادة توحيد العرب في «دولة عظمى» تذكر بأيام الخلافة ـ ملكاً على سوريا، إذ سرعان ما خلعه الفرنسيون وطردوه مُسقطين «دولته» في دمشق، فتولى أمره البريطانيون واستلموه من درعا ـ على «الحدود الجديدة» بين سوريا (الفرنسية) والأردن (البريطاني) ليأخذوه إلى بغداد فينصّبوه ملكاً على العراق الجديد. فلما هب «الشيعة» في العراق إلى الرفض (ثورة «العشرين»)، استمال البريطانيون أهل السنة فأقاموا معهم وبهم المملكة العراقية الهاشمية، لتساند الإمارة الهاشمية (عبدالله بن الحسين) في الأردن.
في هذا الوقت، كانت دول الحلفاء المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، وتحديداً البريطانيين، يسهلون ليهود أوروبا إجراءات القدوم إلى فلسطين، وكانت الحركة الصهيونية هي التي ستتولى قيادة اليهود في مشروع إقامة دولتهم (إسرائيل) على أرض فلسطين، العربية… بينما الزعامات والقيادات العربية التي جمعها نداء الثورة العربية الكبرى تغرق في صراعاتها العبثية على تقاسم مواقع السلطة والنفوذ في الدويلات المستحدثة التي «خلقها» الاستعمار الجديد، مطلقاً «وعد بلفور» بإقامة دولة يهودية على أرض فلسطين، ومستولداً حالة من الصراع المفتوح بين ورثة «الثورة العربية الكبرى» وبين الساعين إلى السلطة في الدويلات الجديدة، وبينهم عرب وأتراك وأكراد و «قوميات» أخرى.
وهكذا كان المشروع الصهيوني يحقق المكاسب، يوماً بعد يوم، خصوصاً أن المتمولين اليهود بادروا إلى تنفيذ خطة مدروسة لشراء الأراضي في فلسطين، وكان بين ملاكها من غدوا، الآن، «لبنانيين» و «سوريين» تمهيداً للادعاء بحقهم في استعادة ما كان من أراضي «مملكة سليمان» الأسطورية، والتي ليس لها أي سند في التاريخ.
وها إن العرب، بعد مئة سنة من «معاهدة سايكس ـ بيكو» والتي وضع لها وعد بلفور ـ بعد عام واحد من إعلانها ـ الخطة التنفيذية لإقامة «دولة يهود العالم» على أرض فلسطين، يخوضون حروباً ضد الذات على امتداد أرض المشرق العربي، في حين تطاول الصواريخ الإسرائيلية العواصم العربية والإسلامية (حتى لا ننسى إيران)، القريبة والبعيدة.. معزّزة الآن بمعاهدة صلح مع مصر، ومع الأردن، وبمعاهدة دولية لفض الاشتباك بينها وبين سوريا (في أعقاب حرب تشرين المجيدة ـ 1973)، واتفاق لوقف إطلاق النار مع لبنان (بعدما نجحت المقاومة الباسلة في تحرير الأراضي اللبنانية التي كانت إسرائيل قد احتلتها بذريعة طرد المقاومة الفلسطينية منها، عبر اجتياح عسكري وصل إلى العاصمة بيروت في مطلع حزيران 1982، وكان ذلك امتداداً لاحتلالها جنوب نهر الليطاني في منتصف آذار 1978..).
هل من الضروري التذكير بأن بمقدور إسرائيل، الآن، أن تدّعي أنها «الدولة الديموقراطية الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط» التي يتناوب على حكم دولها ضباط انقلابيون أو ملوك وأمراء ومشايخ يستمدّون قوتهم من قبائلهم ومن نفطهم الذي يحظى بحماية دولية مؤكدة، باعتباره «عنصر استقرار اقتصادي»، وبالتالي سياسي، للسلام العالمي وللاستقرار في هذه المنطقة المضطربة، والتي يخوض أهلها هذه الأيام في بحار دمائهم، في محاولة مكلفة للوصول إلى غدهم الأفضل، فينجحون قليلاً ويفشلون كثيراً بسبب فرقتهم، وخلافاتهم السياسية التي صفّحها في السنوات القليلة الماضية مناخ الفتنة الطائفية التي تهددهم في يومهم كما في غدهم، أقله في مختلف أقطار المشرق العربي، الذي تغرق «دوله» في بحور من دماء شعوبها.
ومن أسف، فإنه في حين تتباهى دولة العدو الإسرائيلي، الآن، بأنها أقوى دولة في منطقة الشرق الأوسط، وتكاد تتحكّم بمصائر العديد من الدول (والشعوب العربية) فإن دول العرب في المشـرق العربي خاصة تعيش حالة من التمزق والتشطّر على قواعد طائفية ومذهبية و «قومية»، حتى لا ننسى الأكراد وبعض العناصر المكونة الأخرى لشعوب هذه المنطقة. هذا قبل الحديث عن الفتنة الطائفية التي تكاد تلتهم الوحدة الوطنية ودولها المستولدة قيصرياً، والتي يبدو أنها قد بلغت سنّ الشيخوخة ولم تعد مؤهلة للبقاء، أقله في صيغتها القديمة الراهنة.
مع الإشارة إلى أن رياح التغيير التي أطلقتها «الميادين» في السنوات الخمس الأخيرة ظلت أضعف من أن تحدث «الثورة» المرتجاة، لأن بين شروط حماية الكيان الصهيوني أن تختفي «الثورة» من القاموس السياسي الراهن، لتحل «الفتنة» محلها فتقسم المقسم. وفي ذلك حماية إضافية لإسرائيل، التي من حقها الاحتفال بعيد ميلادها الستين في ظل هذه الحروب ضد الذات التي فرضت على «العرب» أن يغرقوا فيها حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً!