خلال شهر واحد، قيض للمواطن العربي أن يشهد ـ من موقع المتفرج ـ حدثين تاريخيين سيقدر لهما أن يبدلا في الخريطة السياسية لعالمه المترامي الأطراف ولا قلب، كما في صورة القيادات الأبدية للنظام العربي الذي يسجنه في قوقعة الاستبداد والتخلف والغربة عن العصر:
ففي السودان، وبعد مسلسل من الحروب الأهلية التي تبدت عرقية في بعض جوانبها، ودينية في جوانب أخرى، اضطر النظام الدكتاتوري الى التسليم بانفصال جنوب السودان عن شماله لتصير الدولة دولتين تحت الرعاية الاميركية ـ الإسرائيلية المباشرة.
أما في تونس، فقد تفجر غضب الأهالي المقموعين منذ دهور، والذين لم يعرفوا في تاريخهم الحديث، على امتداد أربع وخمسين سنة من الاستقلال إلا رئيسين للدولة: أحدهما ظل على كرسيه حتى أصابه الخرف فتولت زوجته وعائلتها الوصاية على السلطة ومقدرات البلاد، أما الثاني فقد أزاح «سيده» وولي نعمته الحبيب بورقيبة، الذي أتى به حارساً، واغتصب الرئاسة وثروات البلاد، وأيضا بالاشتراك مع زوجته وعائلتها التي باتت الآن من أعضاء نادي الأغنياء في الدنيا، بينما شباب بلادها من المتخرّجين يحرقون أنفسهم في الشارع (حتى لا ننسى محمد بو عزيزي) لأنهم لا يملكون ما يقيم الأود من دون إهدار الكرامة.
واذا كانت الحروب الداخلية والمنازعات السياسية في السودان قد جعلته على الدوام حاضراً في نشرات الأخبار عبر مؤتمرات المصالحة المتعددة، تارة داخل الشمال، وطوراً مع الشرق، وغالباً مع الجنوب، وأحياناً مع غربه، ثم مع المحكمة الجنائية الدولية التي أنشئت لتطويع نظامه بحيث يسلم بانفصال الجنوب والعودة الى بيت الطاعة الاميركية تائباً ومستغفراً، فإن تونس الخضراء ظلت بعيدة عن اهتمام العالم، يضرب بها المثال لاستقرارها الذي تبين أنه يقارب الغيبوبة والاغتراب عن الحياة في القرن الواحد والعشرين.
أما في الدول الأخرى التي تهتز المقاعد تحت حكامها من أهل النظام العربي بفعل الغضب الشعبي الذي يستولده الفقر وحجز الحريات والتحكم بالمؤسسات ذات الغلالة الديموقراطية، فيتم تزوير الانتخابات جهاراً نهاراً، وتقمع الأحزاب ذات الشعبية وتمنع من تأكيد حضورها «السلمي» عبر إثارة النعرات الطائفية، حتى لو شكل ذلك تهديداً لسلامة الوطن ووحدة أهله عبر تقسيمهم حسب أديانهم أو طوائفهم، بما يعيدهم الى حظيرة النظام خوفاً من الحرب الأهلية.
أما في مثل هذه الدول المحكومة بالقمع والرئاسات الوراثية، فإن انتفاضة تونس التي أطاحت دكتاتورها زين العابدين بن علي فقد فاقمت مخاوف أهل النظام العربي وهي ستدفعهم ـ على الأرجح ـ الى تشديد قبضتهم، ريثما تمر العاصفة، فيباشرون سلسلة من التراجعات التي يفترضون انها قد تنقذهم من الطوفان… ولعلهم يستفيدون من تجربة بن علي فلا يتعجلون الاستسلام، بل يأخذون بتوسيع الهامش أمام المعترضين، وقد يلجأون الى بعض الرشى الاقتصادية التي من شأنها أن تخفف الضيق، كما فعل النظام الجزائري لامتصاص النقمة الشعبية التي فجرها الغباء المطلق: أكثر من مئة وأربعين مليار دولار (من المال العام) وملايين العاطلين من العمل يستندون الى الحيطان في الشوارع.
[[[[[
من المؤكد أن الحدث التونسي الخطير قد هز العديد من «العروش» في الدنيا العربية، ملكية وجمهورية على وجه الخصوص.
ذلك أن زين العابدين بن علي كان في بعض وجوهه «مسخا» عن أولئك الأباطرة الذين يتحكمون في مصائر شعوب ذات تراث نضالي لا يقل عن تراث التونسيين، وذات تراث فكري وثقافي مميز طالما أعطاها مكانة عالية ليس في الوطن العربي فحسب بل في العالم أجمع.
انه الدكتاتور، الحاكم الفرد، الذي لا يثق إلا بأهل بيته في الداخل والبيت الأبيض في واشنطن، مروراً بالاليزيه في باريس في الخارج… ولعله بحكم تجربته الشخصية لم يكن يثق بالجيش بل يفضل عليه الأمن، ومن الأمن المخابرات التي يتحدر منها، والتي هيأت له الفرصة ليكون حارس النظام ثم مولاه بعد خلع من جاء به وائتمنه على حياته.
ان العديد من أهل النظام العربي كانوا يعتبرون زين العابدين بن علي نموذجاً ناجحاً، حتى وهو يقفل بلاده على أهلها، ويمتنع عن المشاركة في مؤتمراتهم وقممها إلا نادراً… بل انه قد «طرد» قمة عربية من تونس لان بعض مدبريها قد خالفوا تعليماته!
ولعل بعض أهل النظام العربي كانوا «يحسدون» بن علي على «رعيته» الصابرة، الطيعة، التي خرجت من الشارع منذ أمد بعيد ولم تعد إليه إلا قبل شهر تقريباً.. وفي تظاهرات تبدت في أول الأمر أقرب الى نداءات الاستعطاف منها الى المجاهرة بالثورة لإسقاط النظام.
ربما لهذا لم يظهر أهل النظام العربي القلق على «الزين» في تونس، ولا هم قدروا ـ بالطبع ـ ان هذه الغضبة الشعبية ستتعاظم وتتمدد في مختلف أرجاء تلك الدولة الجميلة والفقيرة، حتى اذا ما ووجهت بالقمع اتسع نظامها منتقلة من «الدواخل» الى العاصمة مطورة شعاراتها من الحيز الاقتصادي (الجوع، الغلاء، نقص فرص العلم) الى الحيز السياسي بمواجهة القمع البوليسي والاعتقالات بل ورصاص الشرطة برفع شعار إسقاط النظام.
وهكذا فإن هذه الغضبة الشعبية العارمة قد سخرت من التنازلات التي باشر بإعلانها الدكتاتور، وحولت «وعده» بألا يجدد لنفسه بعد انتهاء ولايته (أي بعد إنهاء ربع قرن في سدة الرئاسة) الى نكتة، وكذلك فعلت بتعهداته بإطلاق الحريات العامة وإلغاء الأحكام العرفية والدعوة الى انتخابات نيابية مبكرة، وغير ذلك من الحقوق المشروعة للشعب، والتي لو أنها توفرت أساسا لما تعاظمت ثورته حتى إجبار الطاغية على الهرب… متلفعاً بعتمة الليل، متصلاً بعواصم كثيرة كي تقبله لاجئاً، حتى ارتضت السعودية أن تستضيفه الى جانب العديد من الأباطرة المخلوعين في بيت الصمت.
[[[[[
ومن حق أهل النظام العربي أن يخافوا، بعد اطمئنان طال أمده الى خضوع شعوبهم ليأسها من التغيير… خصوصاً أن أجهزة الأمن في مختلف دول الرأس الواحد قد تم تدريبها جيداً على أيدي المخابرات المركزية الاميركية الحريصة كل الحرص على «الاستقرار» في الدنيا العربية… مما يوسع المدى أمام إسرائيل لاستكمال جهدها الدائب في مسح فلسطين عن الخريطة، واستبدال أهلها منذ فجر التاريخ وحتى اليوم بطوابير المستوطنين المستقدمين من أربع رياح المعمورة لكي تقوم «الدولة المركزية للشرق الأوسط»: إسرائيل.
لقد سقط النموذج المعتمد لأهل النظام العربي: دكتاتور يستولي على السلطة من خارج الإرادة الشعبية بل وبالتضاد معها. يصادر إرادة شعبه ومصادر دخله وثروته الوطنية التي يعتبرها إرثاً شخصياً يوزعه بين أفراد عائلته. يقرر، وحده، مواقف دولته، بلا الرجوع الى أية مؤسسة، يحل الأحزاب والنقابات ويعيد تشكيلها بتنصيب أزلامه في قيادتها، يمدد ولايته بلا نهاية، اذ يعتبر نفسه «المنقذ» الذي أوفدته السماء لإنقاذ الشعب من الضلالة. يحارب الشيوعيين لأنهم ملحدون والإسلاميين لأنهم مؤمنون أكثر من اللازم، والقوميين لأنهم يمدون بصرهم الى خارج الحدود، والوطنيين لأنهم لا يسلمون بدكتاتوريته… يخاصم العروبة اذ يضعها في وجه الاقليمية. يفتح البلاد للنفوذ الأجنبي، في السياسة والاقتصاد، ويقرب أزلامه من النهابة فيوليهم على الاقتصاد، وتصبح السياحة أهم من الصناعة، والمشاريع الاستثمارية التي يشارك فيها أهم من الزراعة… وهكذا تروج تجارة الرقيق، ويقصد أهل النفط تونس للترويح عن النفس.
[[[[[
من الضروري تسجيل مجموعة من الملاحظات على سلوك أهل النظام العربي إزاء الحدث التاريخي في تونس، ثم إزاء الانتفاضة التي لما تكتمل في الجزائر:
في البداية كان الصمت المطبق. لعلهم اعتبروها «انتفاضة حرامية» تقمع في ساعات، أو تعالج (على الطريقة الجزائرية) بالإفراج عن بضعة مليارات لخفض كلفة الحياة اليومية وشراء غضب الناس الى حين.
ثم توالت الاتصالات على «الزين» لعل أهل النظام العربي يسمعون منه ما يطمئنهم على أوضاعهم… ولم يتورع بعضهم عن عرض المساعدة عليه، بل ان واحداً منهم نصح الشعب التونسي بأن يترك الزين ينهي ولايته الرئاسة لأنه الأفضل لتونس…
وفي حين دارت وزيرة الخارجية الاميركية في أرجاء المنطقة العربية تطمئن أهل النظام العربي على مصيرهم وتثير عندهم المزيد من المخاوف من الخطر الإيراني، فإن الرئيس الاميركي لم يكلف نفسه توجيه كلمة رثاء في صديقه «الزين» الذي فقد عرشه، بل توجه من فوق جثته للإشادة بالديموقراطية والمناداة بحرية الرأي والتعبير.
ضمير الشعوب العربية في هذه اللحظة، والمعبر عن آمالها، هو الشاعر التونسي العظيم الراحل ابو القاسم الشابي… فعلى ألسنة الجميع قصيدته الخالدة التي مطلعها:
«إذا الشعبُ يوماً أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بُد لليلِ أن ينجلي
ولا بُد للقيد أن ينكسر»
يمكنك أن تختار أي بلد… ففي كل دولة يحكمها دكتاتور بقبضته الدموية ألف سبب وسبب لتفجر الشعب بانتفاضة ياسمين جديدة.
المهم أن يريد الشعب… والباقي تفاصيل!
ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية