تكاملت هيئة المحلفين الدوليين التي سوف «تراقب» الممارسات الديموقراطية في الانتخابات النيابية، وهي في عرف أغلبية اللبنانيين، منذ أن باشروا ممارستها، عملية تزوير نموذجي يصعب كشفه لتداخل المالي بالعقائدي والديني بالطائفي والمذهبي والعربي بالإقليمي والدولي.
سيتقدم الناخبون، غداً، وقد أشهروا طوائفهم الى صناديق الديموقراطية تحت عيون الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر ومنظمته للديموقراطية، تتبعهم عيون وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت ومنظمتها للديموقراطية، وعيون المراقبين الذين أوفدهم الاتحاد الأوروبي، ثم عيون بعض الهيئات المتفرعة عن الأمم المتحدة، وعيون المراقبين الأتراك وبعدهم مباشرة عيون المراقبين التابعين لجامعة الدول العربية.. فما دام الكل يراقب ما يمكن مراقبته فلماذا يتخلف السيد عمرو موسى عن هذه الحفلة المغرية؟!
هذا من دون أن ننسى السفارات وموظفيها والمتعاونين وما أكثرهم، والمتبرعين لأعمال الخير ومناصرة الديموقراطية وهم بالآلاف!
الميزانيات المعلنة المخصصة لمراقبة الناخبين اللبنانيين الشطار في التحايل على المراقبين بأجر، تزيد على العشرين مليون دولار!
أما الميزانيات غير المعلنة التي خصصها أقطاب اللوائح الانتخابية، والتي ستساهم فيها دول ثرية عرفت بضعفها أمام «أعمال الخير الديموقراطية» فقد وصلت عبر الشائعات الى نحو المليار دولار، وان كان بعض المتحفظين يقدرها بنصف هذا المبلغ.. فقط!
وإذا ما افترضنا أن عدد الناخبين الذين سيتوجهون الى صناديق الاقتراع لن يزيد على المليونين (مع الزور والتزوير) فمعنى ذلك أن الصوت الواحد سيكلف مئتين وخمسين دولاراً.
هذا يعني أن كلفة النائب الطبيعي في دائرة انتخابية صغيرة، الذي قد لا يحتاج الى أكثر من عشرين ألف صوت، ستصل الى حوالى خمسة ملايين دولار!
أما كلفة لائحة انتخابية في دائرة كبرى لها سبعة نواب مثلاً فلسوف تزيد، قطعاً، عن ثلاثين مليون دولار .. عدا السهو والغلط!
لهذا تختفي الدول العربية الفقيرة، كمصر وسوريا.. واليمن، ولا يتسع المجال إلا للدول العربية (أو الإقليمية) والكبرى فضلاً عن العظمى الغنية فالأغنى، والله رزاق كريم!
[[[
لأن كل شيء في لبنان «مدوّل» فمن البديهي أن تكون الانتخابات الجديدة المقرر إجراؤها يوم الأحد في السابع من حزيران ـ يونيه ـ أشبه «بحرب سياسية طاحنة» بين الدول أو القوى الدولية المعنية بالشأن اللبناني، أي بموقع لبنان على خريطة الصراعات، أكثر مما هي معنية بلبنان دولة متهالكة وشعباً مثخناً بالجراح ومنهكاً بالصراعات العربية والدولية التي تتخذ منه أحياناً «منصة» للهجوم، وأحياناً «حصناً» للدفاع عن مصالحها.
ولأن لبنان 2009 يعيش مناخاً من الاضطراب يغلب عليه الطابع الطائفي والمذهبي حتى لو تم تمويهه بالشعار السياسي، فإن الصراع في هذه اللحظة قد ينزلق الى مهاوي الفتنة، خصوصاً في غياب «ضابط الإيقاع» وحامي التوازنات الدقيقة فيه.. وقد كان «عربياً» بالأساس، وان شاركه الأميركي بنسبة معلومة.
لقد تجاوز الصراع السياسي الحدود المشروعة أو المألوفة، وسادت نبرة التحريض الطائفي والمذهبي، وانفتح الباب على مصراعيه أمام كل أنواع «الحروب» التي تتهدد المنطقة العربي جميعاً في استقرارها وفي سعيها الى التقدم، بل في سلامة كياناتها السياسية (العراق تحت الاحتلال الأميركي نموذجاً، السودان المهدد في وحدته، فضلاً عن الصومال وما جاوره الخ)..
ونتيجة لهروب العرب من ميدان فلسطين ومواجهة المشروع الإمبراطوري الإسرائيلي الذي يلتهم على مدار الساعة ما تبقى للفلسطينيين من أرضهم في الضفة الغربية بالمستعمرات الاستيطانية، فقد انصرفوا عن مواجهة عدوهم الإسرائيلي «مختارين» عدواً آخر هو إيران، بما يسهل عليهم تزوير طبيعة الصراع ونقل ميدانه الى المسرح الطائفي بل المذهبي، حيث تكمن موروثات الفتنة بين المسلمين.
ولأن لبنان يعيش حالة من التوتر السياسي أعقبت جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وترافقت مع حملة تشهير غير مسبوقة بالنظام السوري، فقد صار بالإمكان تجاوز السياسة الى تلميحات طائفية مقصودة، بحيث يتم توجيه الاتهام من منطلق طائفي، بل مذهبي، فيصيب أهل النظام السوري مباشرة، ويمكن مط الاتهام بحيث يصيب إيران ومعها الشيعة عموماً وبالتحديد منهم «حزب الله» في لبنان بقيادته ومجاهديه وجمهوره العريض.
كانت الإدارة الأميركية السابقة (جورج بوش) تشرف مباشرة على الشؤون اللبنانية، وكان لها رأيها في كل تفصيل.. وكان هذا «الرأي» يتحول الى سياسة معتمدة من طرف الدول العربية التي لم تكن تكنّ الكثير من الود للنظام السوري، والتي كانت تنظر بكثير من الحذر الى الدور الإيراني المتزايد نفوذاً في المنطقة.
وتم تشكيل الحكومة الأولى بعد الانتخابات عام 2005، وكان بديهياً أن تشارك قوى التحالف الاضطراري القائم آنذاك فيها، ومن ضمنها من يمثل «حزب الله» بطبيعة الحال، إضافة الى حركة «أمل» التي كان رئيسها نبيه بري المرشح الوحيد لرئاسة مجلس النواب.
[[[
في الثاني عشر من تموز 2006 أقدمت إسرائيل على شن حرب تدمير شاملة على لبنان بذريعة أن مقاومين من «حزب الله» أقدموا على أسر جنديين إسرائيليين لمبادلتهما بمئات الأسرى من اللبنانيين والفلسطينيين الذين كان قد مضى على أسرهم سنوات طويلة.
تبدل المشهد اللبناني بأساسياته وتفاصيله.
فرطت التحالفات الانتخابية، وساد جو من التوتر في العلاقات بين من كانوا حلفاء حتى الأمس القريب… بل انهم سرعان ما انقلبوا الى خصوم نتيجة الزج بموضوع المحكمة الدولية لمحاكمة قتلة الرئيس الحريري في اللعبة السياسية. وأعيد استحضار «الشبح السوري»، ثم أضافت اليه الخصومة الحادة بين الإدارة الأميركية والنظام السوري، ومن قبله ومعه النظام الإيراني، أسباباً للتفجر، مع قلبه من السياسة الى الطائفيات والمذهبيات.
عاد العرب، مرة أخرى، عربين..
وبديهي والحالة هذه أن يعود اللبنانيون طوائف ومذاهب، خصوصاً أن الخصومات العربية القديمة ـ الجديدة اتشحت بشيء من الطائفية والمذهبية المموهة بالنووي الإيراني..
وأُسقطت إسرائيل، تدريجياً، من خانة الأعداء.. وتوالت عليها المبادرات العربية، بما أضعف المفاوض الفلسطيني، الضعيف أصلاً بانقساماته التي دمرت الإطار الجامعة، منظمة التحرير، وجعلت السلطة مسرحاً لتقاسم النفوذ الى حد الصراع المسلح بين المنظمات، واغتيال تجربة الانتخابات النيابية التي كان يفترض أن تشكل بنتائجها الإطار الجامع بين الفصائل.
صارت فلسطين سبباً إضافياً للانقسام بدل أن تكون قاعدة للتوحد.
استمر التوتر يتفاقم في الشارع وفي مؤسسات السلطة التي ضربها الانقسام بالانحلال، حتى تعذر انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلفاً لإميل لحود. وعاشت الجمهورية اللبنانية مرة ثانية ولمدة ثمانية أشهر بلا رئيس (المرة الأولى حين ترك الرئيس الأسبق أمين الجميل موقعه مع نهاية مدته الدستورية، دون أن يتمكن المجلس النيابي من انتخاب خلف له، لأنه حتى اللحظة الأخيرة ظل يأمل أن يرشو سوريا بكل ما تطلب لقاء التجديد له، لكن سوريا لم توافق، فبقي الموقع شاغراً)..
في الخامس من أيار (مايو) 2008 أصدرت الحكومة (التي طعن في شرعيتها) قراراً يهدد سلامة المقاومة وقيادتها، عبر السعي لكشف شبكة الاتصالات الداخلية، التي كان يعرف الجميع بوجودها، ويسلمون بحق المقاومة في حفظها لتأمين سلامة المجاهدين وسرية التحركات بين القيادة والجبهة على الحدود مع فلسطين المحتلة.. وهي الشبكة التي لم ينجح العدو الإسرائيلي في كشفها وبالتالي في تدميرها.
وفي السابع من أيار (مايو) 2008 قام مقاتلون من «حزب الله» و«أمل» والحزب السوري القومي الاجتماعي بعمل عسكري محدود، هدفه إجبار الحكومة على التراجع عن قرارها… فتراجعت وسط جو من التوتر الشديد الذي سرعان ما اتخذ صورة صراع طائفي مذهبي، مما أنذر بفتنة غير محدودة.
في هذا الجو بادرت قطر الى بذل مساعيها الحميدة، وانضمت إليها جامعة الدول العربية، فعقد مؤتمر الدوحة الذي جمع الأطراف المتخاصمين في بيروت، فتوصلوا الى وفاق سياسي شمل التوافق على شخص رئيس الجمهورية (قائد الجيش آنذاك العماد ميشال سليمان)، وعلى حكومة تشارك فيها المعارضة بنسبة الثلث زائداً واحداً، ويكون فيها من يمثل رئيس الجمهورية إضافة الى التحالف الذي كان ركيزة الحكومة السابقة.
عاد الأطراف الى بيروت متوافقين، وكان من ثمار توافقهم قانون أعرج للانتخابات، يتمثل بالعودة الى قانون عتيق كان قد صدر قبل خمسين سنة، وهو شهير بقانون الستين، ويقضي بفرز طائفي شبه كامل، بحيث تنتخب كل طائفة نوابها، تقريباً، ومن دون تدخل من «الخصوم» أبناء الطوائف الأخرى.
[[[
وهكذا سيذهب الناخبون بعد أيام وقد عادوا رعايا لطوائفهم ومذاهبـهم ولكل طائفة أو مذهب مرجعيتها… وفي جو محموم، لا يخفف منه هذا «الاستقلال الذاتي» لكل طائفة، المصفح بالتأييد العربي والدولي.
بعد ذلك يمكنك أن تتابع وأنت تضحك توالي الوفود من هيئات دولية (الأمم المتحدة) وأميركية وأوروبية لمراقبة الانتخابات، مما أثار الغــيرة لدى الأمانة العامة لجامعة الدول العربية فقررت إيفاد بعثة ممتازة لمراقبة اللعبة الديموقراطية في لبـنان، إذ ان تراث هذه الجامعة في العمل الديموقراطي عريق ويمكن اعتماده نموذجاً فريداً في بابه!
إن البازار مفتوح الآن في لبنان: كن طائفياً وخذ دولارات، كن مذهبياً وخذ مزيداً من الدولارات..
فالدولارات أعظم مروج للديموقراطية، خصوصاً في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية.
واللبنانيون سعيدون بهذا الموسم الديموقراطي الذي سيضخ في لبنان مئات الملايين من الدولارات الديموقراطية لتزكية الطائفيات.. تمهيداً للفتنة الآتية وقد تم تغليفها بالذهب، الذي نخاف أن يحرق هذا الوطن الصغير والجميل!
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» في مصر