تتبدى الأرض العربية التي كانت الى ما قبل عقود قليلة أوطاناً بدول لها مقاعدها في الجامعة العربية والجمعية العامة للأمم المتحدة، ومجموعة دول عدم الانحياز، وكأنها مشاعات برسم التقاسم كيانات من طبيعة مختلفة، بعضها على أساس عرقي وبعض آخر على أساس طائفي أو مذهبي وبعض ثالث ينتظر تحديد تبعيته ليمكن تحديد هوية كيانه قيد الدرس.
قلة من «الدول» العربية تعيش حالة اطمئنان الى حدود كيانها السياسي وهوية شعبه… فمع التفلت من الهوية الوطنية – القومية الجامعة، بات بالإمكان ان تتخذ من الجغرافيا هويات «جنوب السودان»، كما كان بالأمس «جنوب اليمن» دولة قبل دمجها بالدولة الأم – اليمن ـ التي تبدو اليوم مهددة في وحدتها، فضلاً عن «جمهورية الصحراء»، والصحراء كما تعلمون بلا حدود، كما أنها تتسع لدول شتى وبهويات بلا حصر..
ثم ان العديد من هذه الدول القائمة الآن «تستضيف» قوات فصل دولية فرضتها عليها الجهات الدولية بعد اشتعال او إشعال أنماط من الحروب الأهلية التي تختلط فيها الأديان بالطوائف بالعودة الى الأصل المذهبي حيناً أو الى الجذر القبلي أحيانا.
لقد أفقد أهل النظام العربي، بمجملهم، هذه الأرض هويتها الأصلية، العربية تحديداً، اذا ما اعتمدت اللغة والائتلاف الاجتماعي ووحدة المصير..
حتى اصغر الأقطار العربية، مساحة، لبنان، صارت «وحدته» موضع بحث نتيجة لانقسام شعبه الصغير عبر الصراع على السلطة فيه، او الصراع على هوية كيانه السياسي الذي أنشئ من خارجه، أصلا، ثم تم تعديله بقرار ثان من خارجه أيضا.
بل إن اكبر الأقطار العربية وأكثرها ثباتا، عبر التاريخ، مصر، ترتفع فيها الآن نغمات انفصالية، بعضها يتخذ الطابع الديني، وبعضها الآخر يحاول ان يبرر ذاته بهويات سابقة على التاريخ(النوبة)، خصوصاً مع تعاظم النزعة الانفصالية على أساس قومي وعرقي في الجار السوداني الذي يترنح كيانه السياسي حالياً بينما يتهدده خطر التمزق على أساس جغرافي ـ قومي ـ قبلي الى ثلاث دول وربما أربع، واحدة منها فقط هي التي عرفناها منذ أن أنشأ «الغير» كيانه السياسي الحالي: جمهورية السودان.
لا ضرورة للتوغل عميقاً في التاريخ، فقبيل نهاية الحرب العالمية الأولى بانتصار الحلفاء كان قد تم الاتفاق على تقسيم سوريا الطبيعية الى أربع كيانات سياسية: سوريا، الأردن، فلسطين ولبنان… ثم جاء «وعد بلفور» بإعطاء فلسطين للحركة الصهيونية، مستبقاً قيام الدول الثلاث الأخرى، فعلياً.
وعلى هامش هذا التقسيم وكضمانة لاستقراره أقيم الكيان العراقي، أما شبه الجزيرة العربية فلدولها حكايات أخرى جرت صياغتها في ما بعد: المملكة العربية السعودية بحدودها الراهنة في بداية الثلاثينيات، وأقطار الخليج التي كان اسمها الساحل العماني والتي كانت تحت الاستعمار البريطاني، فقد تم دمجها في دولة الإمارات العربية المتحدة، بينما استقلت عنها قطر فضلاً عن البحرين، وتركت عمان لسلطانها، واستقر الاستعمار البريطاني في جنوبي اليمن الذي كان عبارة عن محميات على رأس كل منها شيخ متوج!
ما لنا وللماضي، لنعد الى واقعنا الراهن، وهو يتجاوز المأساة الى الفجيعة الوطنية – القومية ـ الإنسانية:
البداية، كما الحال الراهنة بانتظار الختام مع فلسطين، التي كانت ولا تزال موضوع الصراع من أجل تأكيد الهوية الوطنية لهذه المنطقة بدولها المختلفة.
كانت فلسطين ولا تزال هي القضية وهي الهوية. هي الطريق الى الوحدة والمنعة والحرية والاستقلال والديموقراطية، والفشل في حسمها هو الطريق الى التفكك والتبعثر وافتقاد القيمة والارتهان عن حماية الكيان السياسي.
وكل ما نشهده الآن هو محصلة الفشل في مواجهة المشروع الصهيوني الإمبريالي الذي ذهب باستقلال من اعتبر نفسه مستقلاً كما ذهب وسيذهب بهوية الأمة جميعاً.
ولنعرض واقع ما بعد العجز عن المواجهة في فلسطين:
ان السودان، في هذه اللحظة، كيانات تضم أشتاتا من القوات الدولية المرشحة للتزايد بعد إقرار الانقسام الفعلي بين الشمال والجنوب، وفي انتظار تقرير مصير الجنوب، وهي قوات تفصل بين العين والعين وبين الأم والأبناء.
ثم ان العراق تحت الاحتلال الاميركي مهدد في وحدة كيانه السياسي، خصوصاً أن الخلافات المحتدمة بين قواه السياسية التي عادت إليه بعد سقوط حكم الطغيان، من المنافي القريبة والبعيدة، وفيها دول عربية مجاورة ودول غير عربية فضلاً عن الدول الأجنبية، بريطانيا أساسا والولايات المتحدة الاميركية.
وحتى إشعار آخر فإن كيان العراق موضع بحث، خصوصاً في ظل الخلافات المحتدمة بين قواه السياسية، والتي هي في بعضها نتيجة تصادم مصالح بين قوة الاحتلال الاميركي وقوى التأثير المجاورة، عربية وإيرانية وتركية…. وهذا الواقع شجع الأكراد على المبالغة في مطالبهم الجغرافية (الإلحاح على ضم كركوك وما جاورها، وحتى الموصل، بما فيها من منابع غزيرة للنفط) وفي مطالبهم السياسية التي تعطيهم استقلالاً ذاتياً يكاد يكون انفصالاً كاملاً..
ولقد أدى الضعف العربي الذي تفاقم حتى التبعثر والتناثر بعد احتلال العراق الى تصاعد نغمات الانفصال على أساس عرقي أو طائفي، خصوصاً أن الاحتلال الاميركي الذي تلاقت أغراضه مع الرغبة بالانتقام لدى إيران (التي حاربها صدام حسين باسم العرب لمدة ثماني سنوات طويلة ومكلفة بالدم والمال) لم يجد مانعاً من التواطؤ لاستدراج الدول العربية المحيطة بالعراق الى طلب حمايته مباشرة، أو بشكل غير مباشر..أي انه تلاقى مع نزعة إيران (الشيعية) الى الانتقام سرعان ما استغلها لإعادة تكتيل العرب في معسكره بذريعة منع الاجتياح الإيراني (بل الفارسي!) للمنطقة بهويتها ومذهبها السني.
وهكذا حوّل الاميركيون (ومعهم بنسبة ما البريطانيون، وبنسبة أقل الفرنسيون) منطقة الخليج العربي الى ما يشبه حاملة طائرات ضخمة لأساطيل اميركية، في حين كادت البوارج والمدمرات تغطي مياه الخليج، فيما تقف حاملات الطائرات الاميركية عند مدخله استعداداً لأي طارئ!
أما لبنان، المهدد دائماً في وحدته، فقد استغلت «الدول» ودائماً بالقيادة الاميركية، جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري لكي تحوله الى ارض صراع مفتوح، بدأ سياسياً ضد سوريا التي ظلت قواتها فيه لمدة ثلاثين سنة بتوافق دولي بعنوان اميركي، ثم أمكن تحويله ـ بقدرة قادر ـ الى صراع مذهبي بين السنة والشيعة تحت عنوان الجريمة التي أصابت الجميع في الصميم.
وها نحن نجد الشعب اللبناني، بفئاته جميعاً، موزعاً بين «قاتل» و«مقتول»، معرّضاً بعضه لمحاكمة دولية تشارك فيها «الدول» بحسب قوتها، أميركا فبريطانيا ففرنسا فألمانيا… ومع هؤلاء جميعاً وقبلهم المستفيد الأول من زرع الفتنة في لبنان، إسرائيل، التي قاتلها مجاهدو المقاومة فيه لمدة اثنتين وعشرين سنة حتى كان جلاء قواتها، ثم صمدوا في وجه حربها عليه في تموز ـ آب ( يوليو ـ اغسطس) 2006 لمدة ثلاثين يوماً طويلة، وكبدوها خسائر فادحة خرجت بعدها تجر أذيال الخيبة.
هكذا أمكن تحويل المحكمة الدولية الى أداة للفتنة الداخلية وتحولت جريمة الاغتيال الى سبب للشقاق بين الأخوين، فتبدى أحدهما قاتلاً والثاني قتيلاً، في حين ان الاثنين بين الضحايا الذين سيتزايدون بلا حصر اذا ما نجح مدبرو الفتنة في توسيع دائرة الحريق من لبنان الى العراق الى الكويت فالبحرين وصولاً الى اليمن على الناحية الأخرى من شبه الجزيرة العربية، وتحت شعارات «معركة الجمل» أو صفين في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين!
في هذا الوقت، وبينما كل دولة عربية مشغولة بجراحها ومآسيها، توفرت لإسرائيل الفرصة الذهبية لإعلان ذاتها «دولة يهود العالم»، مع إضفاء صفة الديموقراطية لتمويه العنصرية، فإذا هي «الدولة اليهودية الديموقراطية» التي يتوجب على كل قاطن فيها أن يقسم يمين الولاء لها… وهذا ما ينذر بكارثة عربية جديدة تتناول، على وجه التحديد، من تبقى من أهلها الأصليين، أي الفلسطينيين، داخل كيانها السياسي، وهم من يطلق عليهم تسمية «عرب الداخل».
في حين ان الشعب الفلسطيني الباقي، حتى هذه اللحظة، داخل الضفة وفي قطاع غزة، تذوب أرضه يومياً وعلى مدار الساعة، إذ تنتزع منه ليبنى فيها المزيد من المستوطنات لآلاف ألاف المستوطنين، سواء الموجودون داخل الكيان الصهيوني الذي يوسع ذاته على مدار الساعة، أو الذين يستقدمون من أربع رياح الأرض ليكونوا «مواطنين» إذا هم أقسموا يمين الولاء لدولة يهود العالم الديموقراطية.
أما المفاوضات التي ارتفعت رعايتها الكريمة الى مستوى البيت الأبيض ورئيسه الأسمر ذي الجذور الإسلامية، فيمكنا ان تتوقف وان تستمر بالشروط الإسرائيلية الى ما شاء الله، فهذا تفصيل لا يستحق التوقف عنده… ويمكن السلطة أن تعلن في شبر الأرض المتروك لمكاتبها، إمبراطورية عظمى وليس دولة عادية كباقي الدول..
في هذه الأثناء سينقسم العرب أكثر فأكثر، وسيخرج الكثير من حكامهم من هويتهم العربية، وسيخرجون معهم دولهم التي قد تتغير خرائطها من دون ان يتغير حكامها، فالحكم نعمة إلهية يسبغها القوي القادر على من يشاء ويمنعها عمن يشاء، والأمر لله، من قبل ومن بعد.
ستندثر أحلام الوحدة، والوطن العربي الأكبر، وستقوم على هذه الأرض دول جديدة تزيد من أصوات «العرب» في الأمم المتحدة، وان نقصت قيمتهم في كل مكان، وسترفرف «الأعلام الوطنية» القديمة والمستحدثة في حماية الأساطيل الاميركية وجنود الحراسة الإسرائيليين، في حين ستنعم الشعوب بديموقراطيتين بدل واحدة: أميركية عريقة ويهودية مستجدة، وينتهي عصر الجاهلية العربية الجديدة من دون أن يتبدل حاكم واحد! فالأمر لصاحب الأمر، كما تعلمون، في كل عصر وأوان، ولا تهم كثيراً اللغة التي يعبر عن نفسها بها، ولا هوية الدولة التي يحملها…
البداية فلسطين. الماضي فلسطين، والحاضر فلسطين، والمستقبل يكون متى كانت فلسطين رايته وهدفه وطريقه.
أما في غياب فلسطين بل تغييبها فلن يكون «عرب» ولن تكون لهم دول مهما تزايدت الرايات المزركشة!
وهكذا بدلاً من الوحدة العربية يحقق أهل النظام العربي لشعوبهم الوحدة الكونية، ولا يهم أن يكونوا في موقع التابع… ففي العصر الاميركي كل الشعوب سواء، وكل الناس سواسية كأسنان المشط!
ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية