يتعذّر على أي كاتب أن يباشر الكتابة، اليوم، متجاوزاً غياب «الأستاذ» الذي أخذنا عنه بعض أصول المهنة محمد حسنين هيكل..
ولعل بين ما يخفّف وجع الغياب أن الفقيد الكبير قد كتب وقال، على امتداد سبعين عاماً أو يزيد، ما يشكل ذخيرة ممتازة لأي دارس أو مهتمّ بفهم التطورات الدراماتيكية التي حفلت بها المنطقة العربية، مشرقاً ومغرباً، فبدلت في جغرافية بعض دولها، وكادت تُخرج أهلها ـ بالصراعات والخلافات التي بلغت حد الحرب أحياناً ـ من هويتهم إلى الضياع وافتقار اليقين حول مصيرهم، كشعوب قبل الدول وبعدها.
ولعل قرار المملكة المغربية بإرجاء (بل إلغاء) القمة العربية التي كان يُفترَض أن تُعقد بعد شهر من اليوم، يؤكد استحالة التلاقي بين قادة الدول العربية حتى إشعار آخر، وبالتالي استحالة اتفاقهم ولو على الحد الأدنى، كما كان يحدث في القمم السابقة.
صحيح أن القمة بدأ اعتمادها في زمن جمال عبد الناصر، قبل ثلاث وخمسين سنة كأرض لقاء بين القادة العرب، ولو متخاصمين، لتسوية الخلافات وإعادة توحيد الموقف. ولكن كان لها مَن «يدير» أعمالها مغلّباً روح المصالحة وتسوية الخلافات وإعادة توكيد الاجتماع على الأهداف المشتركة، وبينها الأمن القومي ومواجهة العدو الإسرائيلي وتوفير الدعم لشعب فلسطين وتعزيز التعاون بين الدول العربية.
وبرغم غــــياب مهــــندس القمة العربية، الرئـــــيس الراحل جـــمال عبد الناصر، فقد استمرت القمة حتى خروج الرئيس أنور الســــادات عليها واندفاعه إلى الصلح مع إســــرائيل، مباشرة بعد حـــرب أكتوبر المجيدة العام 1973. وبــــعدها تواصَلَ انعقاد القمة، شــــكلاً، لكنها لم تعُد مؤهلة لاتخاذ قرارات جـــــدية، خصوصاً أن «الـــــقادة» قـــــد انقســموا إلى معسكرين، فانكشف عجزها عن اتخاذ قرارات جدية تستوجب «الإجماع» أو توافق الأكثـــــرية على حد أدنى من التــــعاون (كبديل عن التــــكامل) والسير بخطــــى أضعفهم بدلاً من وحدة الموقف في القضايا المصيرية.
إن اعتذار المغرب مفهوم تماماً، سواء تمّت قراءته من خلال علاقاته المميّزة مع المملكة العربية السعودية ومحورها الخليجي، أو تمّت في ضوء الأوضاع المأزومة التي تعيشها العلاقات العربية ـ العربية، والتي وصلت في بعض الحالات إلى حد القطيعة الآخذة إلى الاحتراب أو إلى الحرب الفعلية، كما في اليمن.
ولعل تأمُّل خريطة الواقع العربي تكشف معطلات القمة:
ـ فالمملكة العربية السعودية ومعها دول «مجلس التعاون الخليجي» (في ما عدا سلطنة عمان) تخوض حرباً حقيقية ضد اليمن، وهي حرب بلا أفق، ومع ذلك فهي تضغط على سائر الدول من أجل الانضمام إليها فيها، (أو مساعدتها على الخروج من هذا المستنقع الدموي بماء الوجه، طالما أن الانتصار فيها مستحيل، بشهادة الكلفة المدفوعة حتى الآن..).
ـ ومصر لا تبدو متحمّسة، فالقمة قد تُحرجها، خصوصاً أنها تعيش ظروفاً حساسة وتحاول ترميم صورتها ودورها القيادي، بينما تضطرها أوضاعها الاقتصادية الصعبة إلى تحاشي التصادم مع دول النفط العربية بالقيادة السعودية.. وتكفي قراءة الموقف المصري من الحرب السعودية على اليمن لإدراك مدى الحَرَج الذي عاشته وما زالت تعيشه القاهرة، بعدما تعذّر عليها أن تلعب دور الوسيط، خصوصاً أن علاقاتها مقطوعة مع إيران. وفي المقابل، فهي تحفظ ذكريات مرّة مع الرئيس اليمني المخلوع علي عبد الله صالح، في حين أنها لا تحتفظ بعلاقات واضحة أو وثيقة مع «أنصار الله» (أو «الحوثيين»، كما يُطلق عليهم السعوديون للإشارة إلى مذهبهم المحتَسَب شيعياً..).
ـ أما الجزائر التي غابت عن المسرح السياسي منذ أن غيّبت الأزمة الصحية رئيسها عبد العزيز بوتفليقة عن دائرة الفعل، وإن ظل القرار رهينته، فلا تبدو متحمّسة للانخراط مجدداً في ميدان الخلافات العربية ـ العربية.
ـ وأما العراق الذي أصّر على أن تنعقد القمة العربية السابقة فيه، ولو بمَنْ حضر، فإنه يعيش في هذه اللحظة أوضاعاً صعبة للغاية، حيث يحتلّ تنظيم «الدولة الإسلامية ـ داعش» نصف مساحته تقريباً. ولديــه مشــكلة تــزداد تعقــيداً بين «مكوناته»، شيعة وسنة وأكراداً. فالحـــكم بغالبيته الشيعية مرتبك ومفــــلس بعد عملية نهب منظم لخزينته. والصراع على السلطة ينهك الشــــيعة ويضــــرب العلاقات بينهم وبين السنة إلى حد المطالبة بـ «إقليم سني» على غرار «الإقليم الكردي»، في حين «يستقل» الشـيعة بما تبقى من العراق. ومفهومٌ أن مثل هذا التقسيم يلغي «الدولة».
فإذا ما انتبهنا إلى أن «داعش» ما زال يحتفظ بـ «عاصمته» في الموصل وأنحاء أخرى من بلاد الرافدين، متحدياً قوات التحالف الدولي بالقيادة الأميركية وأساطيل طيرانه التي نجحت ـ بحسب الناطق العسكري الأميركي ـ في تدمير الخمس من قوته داخل العراق، ليتبين أن عودة الدولة العراقية إلى سابق عهدها ما زالت أقرب إلى الحلم منها إلى الواقع. ولقد أضيفت على المصاعب الداخلية توريط القوى العراقية، وبالتحديد «الحشد الشعبي» الذي ترعاه إيران تدريباً وتسليحاً، في الحرب في سوريا وعليها.
وعليه، فإن القوات المسلحة الأميركية قد عادت إلى العراق من باب إعادة تدريب الجيش، الذي يُفترض أنها قد درّبته سابقاً، والحقيقة أنّها «خرّبته» سابقاً وزرعت فيه بذور الشقاق، ثمّ أكملت الصراعات العراقية تخريبه بالنَّفَس الطائفي.
ـ وأما سوريا فما تزال تحت الحرم، ممنوعة عليها المشاركة في أي اجتماع يُعقَد تحت راية الجامعة العربية ـ التي استقالت فيها من دورها الطبيعي.
ـ وأما ليبيا فبلا دولة، مع أن الضغوط الدولية (وبعض العربية) قد توصّلت لإعلان تشكيلة حكومية قاطعها البعض وغاب عنها بعض آخر، وشارك فيها البعض الثالث مرغَماً.
ـ ثم نأتي إلى لبنان البلا دولة: فإضافة إلى مصائبه الكثيرة التي تشلّ الحكم فيه وتكاد تلغي مؤسسات الدولة، بدءاً من رئاسة الجمهورية، مروراً بمجلس النواب المقفل على الفراغ، وانتهاء بالحكومة المعطلة عن الفعل، فقد «اعتكرت» علاقاته بالسعودية، فجأة ولأسباب غير مفهومة في الفترة الأخيرة.. وهو سيذهب إن دُعِيَ بوفد منقسم على نفسه، ما سيُعطّل صوته. وبالتأكيد فإن حكومته ستكون سعيدة بإرجاء القمة إلى موعد غير معروف، تماماً مثل عودة الدولة فيه إلى الوعي، وبالتالي إلى الوجود.
على هذا، فلو أن القمة قد انعقدت، فسيكون ذلك حدثاً فريداً في بابه: الدول المؤسسة للجامعة العربية إما غائبة وإما مختصمة إلى حد الحرب. و «الدول الهامشية» كالسودان والصومال وجيبوتي ومعها جزر القمر لا تكفي لاستيلاد نصاب ولو توفّر النصاب فسيغيب القرار، حتى لو اشترى الذهب أصوات الفقراء التي كانت دائماً معروضة للبيع في ظل تهاوي الدولة فيها.
على أي حال، فمن الأفضل في اللحظة الراهنة تغييب القمة العربية، حتى لا تتبدّى فضائح الوضع العربي الراهن بكامل مخاطرها على حاضر هذه الأمة ومستقبل أجيالها الآتية… وحتى لا يُفتضح أمر حكام الحروب الأهلية أو الحروب ضد الأشقاء وكلها انتحارية، وأخطر ما فيها أنها تهدّد باغتيال الغد العربي، وتكاد تقضي على آمال الأجيال الجديدة في حياة طبيعية، ولو في ظل الفقر بعيداً عن الحروب الأهلية والفتن الطائفية والمذهبية.
ونكــــاد نحسد أستاذ الأجيال، صحافياً، محمد حسنين هيكل، على أنه غادر في لحــــظة ما قبل الهاوية التي تُدفع إليها أمتنا بأقطارها جمــــيعاً، بحيث تكاد تُخرَج من التاريخ، تاركــــة لإسرائيل ومَن خلفـــــها ومعها أن تقرّر مــصائر أجيالنا الآتية.
] تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية.