تدين الجيوش العربية للطبقة السياسية الحاكمة، مشرقاً ومغرباً، بفتح الطريق أمامها لتولي السلطة من موقع «المنقذ»..
كان سوء سلوك تلك الطبقة، سواء على المستوى العام أو حتى على المستوى الشخصي، واختلال علاقتها بالجمهور، أي الشعب، في طليعة المبررات التي اتخذها الضباط النافذون في الجيش من أصحاب الطموح للتقدم إلى «استعادة السلطة باسم الشعب من الذين خانوا الأمانة وأفسدوا في الأرض وسخروا الحكم لأغراضهم الخاصة وأضعفوا مناعة الوطن أمام الأعداء».
ولأن «الشعب» كان يعرف هذه المباذل والأخطاء التي يمكن ان تصل إلى حد الخطايا، ولأن الديموقراطية لم تكن عميقة الجذور في مجتمعات تخلصت بالكاد من المحتل الأجنبي الذي طالما شكل «الحامي» لأبناء الطبقة السياسية، بل وكثيراً ما «اخترعهم» وفرضهم على الشعب «كممثلين لإرادته».
.. ولأن الجيوش كانت عالماً مجهولاً تحيطه السرية وقدر من المهابة، فضلاً عن أنها كانت «التنظيمات الوحيدة» الشرعية والمشروعة في البلاد، يسمع بها الناس وعنها أكثر مما يعرفون دواخلها، ولا يرونها إلا في الاحتفالات والمناسبات الوطنية بنظامها المرصوص وأسلحتها البراقة،
… في حين انهم، مع الأيام، صاروا يعرفون الكثير من المخازي وحكايات الفساد عن الطبقة السياسية البعيدة عن همومهم، بل والتي كانت في حالات كثيرة مصدر همومهم،
تدريجياً، وعبر التجارب المريرة في أكثر من بلد عربي، صار ممكناً تصديق المقارنة «بين الذين خانوا مصالح الشعب ومن حاول أن يحميها»… وبين «الفاسدين والأطهار»، وبين «الذين تحوم الشبهات حول علاقتهم بالأجنبي وبين قلعة الوطنية ممثلة بالجيش الذي لم تقدم له الإمكانات المطلوبة وترك ضعيفاً في مواجهة العدو الصهيوني، وكلف بمهمات لا طاقة له بها على المستوى الداخلي..».
على ان القضية الفلسطينية، أو بتعبير أدق: العجز عن مقاومة المشروع الصهيوني والهزيمة العسكرية الفضائحية أمام «الجيش الإسرائيلي» المجمّع من مختلف أنحاء العالم والمدرب جيداً عبر إشراك بعض تنظيماته في معارك محددة في الحرب العالمية الثانية، كانت «المدخل الشرعي» إلى خلع الحكام ـ ملوكاً ورؤساء جمهورية ومنتخبين من أبناء الطبقة الوسطى أو الوجاهات ـ بتهمة التقصير والتسبب في ما أصاب الأمة والبلاد، قطراً قطراً..
بديهي ان هذه الشعارات والمطالب جميعاً كانت تتهاوى وتختفي مع وصول قادة الانقلاب من الضباط إلى السلطة (وإن ظل النموذج المصري خارجها لأسباب تتصل بطبيعة الدولة الراسخة في مصر ثم بطبيعة الدور العسكري الذي لعبه هذا الجيش في مواجهة الإسرائيليين مع فارق مريع في الإمكانات (السلاح والذخيرة والإمداد الخ)… ومع ذلك فقد بقي جيش الدولة ولم يخرج عليها بل عاد إلى القاهرة ليخلع الحكم الملكي بسجله الحافل بالفساد والانكسار أمام الاحتلال البريطاني من قبل حرب فلسطين).
في التجارب المشرقية كانت السلطة، أولاً وأخيراً، هي هدف العسكريين الذين تحركوا، قبيل الفجر، لمحاصرة القصور ـ جمهورية وملكية ـ وخلع القائم بالأمر وتولي السلطة. وكان الشعب يتبلغ، عبر الإذاعة ـ وكانت واسطة التواصل الوحيدة ـ اسم الجنرال الجديد الذي سيتولى سدة السلطة (لإنقاذ البلاد من مهاوي الفساد ومن أهل الحكم الذين خانوا الأمانة الخ الخ)..
صارت السلطة هي الهدف الأول والأخير، ومع الأخذ بعين الاعتبار الفوارق بين «الجنرالات» الذين خلعوا الحكام وتولوها بعدهم في أقطار عدة، إلا أن أحداً من هؤلاء لا يستطيع الادّعاء انه قد وصل إلى السلطة «ديموقراطياً»، وانه قد «جسّد إرادة الشعب» عبر انتخابات سليمة وعلى قاعدة برنامج سياسي محدد، وعبر منافسة طبيعية مع حملة برامج أخرى تهدف إلى خدمة مصالح الشعب وتحقيق مطامحه المشروعة إلى تقدم بلاده وتعزيز منعتها.
ليست هذه هي الحال في مصر التي يتقدم شعبها إلى الاستفتاء، اليوم حول دستورها الجديد، تمهيداً لانتخابات نيابية، ومن ثم رئاسية، سوف تتم خلال مهلة شهور ثلاثة، كما هو مقرر، يتبدى وكأن المرشح الأبرز لتولي السدة فيها هو الفريق أول عبد الفتاح السيسي.
بل إن مشروع الانقلاب العسكري قد هُزم في مصر مرتين خلال السنوات الثلاث الماضية: الأولى حين اكتفى «المجلس العسكري الأعلى» بأن يواكب الجيش انتفاضة «الميدان» التي كانت ترفض الحكم العسكري قطعاً، وهي قد عبّرت عن ذلك علناً وسدّت الطرق أمام الطامحين إلى استغلال الحركة الجماهيرية غير المسبوقة، مؤكدة الإصرار على «التغيير الجذري» وعلى تحرير الحياة السياسية من القيود وأسباب التحريم التي ألغت السياسة عملياً وحولتها إلى عملية شكلية بلا روح ولا هدف إلا خدمة السلطان.
أما المرة الثانية فكانت حين هزمت الإرادة الشعبية النظام القديم ممثلاً بأحد وجوهه ذي التاريخ العسكري في الانتخابات الرئاسية مقدمة عليه، كما على المرشحين الآخرين، الدكتور محمد مرسي، مرشح «الإخوان المسلمين».
كانت تلك لحظة فاصلة في تاريخ الحياة السياسية المصرية، إذ تكشفت مجموعة من الحقائق التي حكمت سير الأمور في السنتين الماضيتين:
1 ـ لم يكن في «الميدان» من القوى السياسية المنظمة وذات الرصيد الجماهيري من يعبر عن روح «الميدان» ومطالبه في التغيير الجذري بأفق وطني وتقدمي وعروبي.
2 ـ نتيجة ضعف القوى السياسية ذات البرامج الوطنية الديموقراطية تبدّى «الإخوان المسلمون» وكأنهم التنظيم السياسي الوحيد في مصر، خصوصاً وأن الكل يعرف الكثير عن قدراتهم التنظيمية وعن إمكاناتهم المادية الهائلة، وهم اجتهدوا في مخادعة جماهير «الميدان» والجيش في آن معاً.
3 ـ استطاع «الإخوان» وعبر سياسة الترهيب والترغيب تحييد الجيش لتأمين فوزهم بالرئاسة كما في الانتخابات النيابية (البرلمان ومجلس الشورى)، كما استطاعوا تمرير الاستفتاء على دستورهم برغم الاعتراضات الواسعة عليه.. بل ربما كان هذا الدستور الأشوه «الخطيئة المميتة» التي ارتكبها «الإخوان»، إذ استفز الجمهور المصري عامة وأكد أن هذا التنظيم التاريخي يعيش في ماضيه ولا علاقة له بالعصر.
4 ـ ثم سرعان ما تكشفت الارتباطات الخارجية لـ«الإخوان»، سواء مع الدول الغربية عموماً وبينها الإدارة الأميركية، ثم مع «رفاقهم» من «الإخوان» الذين يقودون الحكم في تركيا، فضلاً عن العلاقة مع التنظيم الدولي لـ«الإخوان المسلمين» والشيخ يوسف القرضاوي وكلاهما يستند إلى تمويل قطري معلن.
ويمكن إدراج موقف النفاق من إسرائيل وقد جسّدته رسالة الدكتور مرسي إلى شيمون بيريز، بما حوته من تعابير لا صلة لها بالكرامة الوطنية، قبل الحديث عن تجاوزها لقضية فلسطين وحقوق شعبها في أرضه.
… وهكذا عادت الأمور إلى البداية: «الميدان»!
وبالطبع فإن انحياز الجيش إلى «الميدان» هو الذي حسم الموقف، فاستجاب الشعب إلى دعوة الفريق أول عبد الفتاح السيسي ونزلت الجماهير «الميدان» في مشهد تاريخي نادر المثال، وتمّ عزل الدكتور محمد مرسي وخلع حكم «الإخوان» واعتبار تنظيمهم «إرهابياً».
وها هو الشعب المصري يقف أمام المحطة الفاصلة: هل يسجل السابقة التاريخية فيختار قائد الجيش رئيساً للجمهورية في انتخابات حرة؟
وهل يملك الفريق أول السيسي برنامجاً للحكم يحقق أهداف الثورة؟
وهل يمكن انضواء الأحزاب الوطنية والتقدمية والتنظيمات التي ولدها «الميدان» في جبهة وطنية عريضة تساند هذا الرئيس الآتي من الجيش وتحميه من النرجسية ومن الإحساس الدائم بأنه «المنقذ»، وتمكّنه من أن يكون «رئيساً للشعب كله»، وتنزع عنه عسكريته وتبعده عن السوابق العديدة التي تصدّى فيها عسكريون لأدوار إنقاذية ثم ابتعدوا بعد أداء المهمة (سوار الذهب في السودان)، أم يكمل مهمته على طريقة الجنرال شارل ديغول في فرنسا؟
المهم ألا يكرر الفريق أول السيسي تجارب المشارقة من أقرانه ورفاق سلاحه، سواء في دمشق أو بغداد أو صنعاء فضلاً عن ليبيا التي تخرج من الضياع إلى التيه.
.. هذا إذا ما قرر، فعلاً، ترشيح نفسه للموقع الذي يتردد المؤهلون لشغله في منافسة هذا «المنقذ»، ويخافون من تحمل المسؤولية وسط هذا الركام من المشكلات السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية التي تحتاج إلى أكثر من معجزة لعلاجها، من غير أن ننسى أن «الميدان» مفتوح دائماً لأهله القادرين على التغيير، مرة ومرتين وثلاثاً.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية