يعيش الوطن العربي بمختلف أقطاره، حالة اضطراب غير مسبوقة لم يكن في تصور أحد ان تتسع ميادينها لتشمل المشرق والمغرب جميعاً.
في الشارع انتفاضات شعبية عارمة تتجاوز بعفويتها وزخمها أحلام جيل أو جيلين من أبناء هذه الأمة، الذين تصوروا أن الكيانات التي أقيمت في ظلال أعلام الاستقلال، بعد جلاء المستعمر الأجنبي أو إجلائه، هي «دول» كغيرها من دول العالم، لها دساتير وقوانين ومؤسسات تحترم حقوق الإنسان، يعطيها جهد عقله والزنود وتعطيه الأمان مع الكرامة والتقدم «كمواطن».
لكن الحقيقة التي تكشفت عبر ممارسات «الأنظمة» التي ألغت المؤسسات قد جعلت «الرئيس» هو «الدولة»، وأسقطت الشعب كمصدر لشرعية السلطة موكلة الى الأجهزة الأمنية حماية النظام من «الداخل»، أما «الخارج» فمن اختصاص الرئيس وحده.
وعلى امتداد دهر الحكم بالقمع، ذوت إرادة الشعب وضربه اليأس، بعدما افترق النظام عن علة وجوده، فهيمن على الدولة وجعلها في خدمة السلطان و«ربعه» تاركاً للرعايا مهمة البصم على تمديد الولاية مرة ومثنى وثلاثاً والى أقرب الأجلين.
تحولت الجمهورية الى «مشيخة» يحكمها ويتحكم بشعبها ومصيرها الرئيس ـ الشيخ الذي غالباً ما تجاوز الملوك بصلاحياته.
صار أهل النظام العربي ملوكاً ورؤساء جمهوريات وسلاطين وأمراء نفط في حلف واحد، قد يختلفون في ما بينهم، ولكنهم يتفقون في مواجهة شعوبهم، ويسكت كل عن عيوب الآخر حتى لا يكشف هذا الآخر عيوب سائر أهل النظام، فينكشف الجميع أمام رعاياهم الذين لا يجوز أن يعرفوا أسرار الهيكل. فمن الأضمن لسلامة النظام العربي ان يظل الشعب بعيداً عن صراعات القصور التي يمكن حلها بوسائل مختلفة أولاها الذهب وآخرتها السيف ضامن سلامة الجميع.
من باب «الإنصاف» الاعتراف بأن الدكتاتوريات الجمهورية العربية قد زودت الأنظمة الملكية البدوية بمزيد من أسباب القوة الاعتبارية: يكفي أن الفروق بين هذه وتلك قد امّحت فلم يعد الرعايا يستطيعون التمييز بينها إلا بدرجة الدموية في القمع. ذلك ان الجمهوريات لم تكن تملك من الذهب لشراء الصمت فلجأت الى تهديد رعاياها بفك عرى الوحدة الوطنية، والعصا لمن عصى.
ولقد انتشرت فضائح النظام العربي في العالم كله بما يسيء الى كرامة الإنسان العربي في كل أرضه… وسرعان ما تحولت هذه الإساءات الى استثمار مجزٍ للدول الأجنبية التي أخذت تستثمرها لتظهر وكأنها أكثر حرصاً على حياة الرعايا العرب وعلى حقوقهم في وطنهم من النظام الذي يحكمهم الى الأبد!
توالدت المنظمات الدولية تحت لافتات التعاون أو النهوض بالمجتمع أو الدفاع عن حقوق المرأة أو الطفل أو حماية البيئة الخ فصارت شبكات ذات تأثير، كمصدر للمعلومات عن الداخل، ثم ان من أنشأها سواء تحت لافتة الأمم المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أو الجمعيات التبشيرية كان يفيد منها سياسياً في نسج علاقاته مع النظام، لا سيما أنه قد بات يعرف عن هذه المجتمعات أكثر مما تعرفه الأجهزة الأمنية التي لا تهتم إلا بما تفترضه مصدر خطر على النظام.
صار «الغرب»، أميركياً بالأساس وأوروبياً عموما في داخل الداخل العربي. ومكنته معلوماته، فضلاً عن حاجة «النظام» إليه من ابتزازه سياسياً.
ذلك حديث آخر.. فلنعد الى حلف أهل النظام العربي الذي تصدع تماماً ويبدو انه دخل مرحلة الانهيار.
واضح، بداية، ان الأدوار قد انقلبت تماماً الآن: فالممالك التي كانت تنزوي متلفعة بالصمت لا تطمح لأكثر من أن ينساها فيهملها – ولو باليأس – أصحاب الدعوة الى التغيير، وتحاول جاهدة أن تشتري سلامتها بالذهب تدفعه للأقوى في الخارج، عربياً ودولياً، تتصدى الآن لقيادة الهجوم على شركائها السابقين.
فالممالك والسلطنات والإمارات التي كانت مشيخات تعتمد القاعدة الدائمة: أهم وسائل الدفاع هي الهجوم مستفيدة من تساقط أنظمة القمع في الجمهوريات الملكية التي ظلت تدعمها حتى اليوم الأخير.
لقد استعادت هذه الأنظمة التي طاردتها تهمة التخلف والغربة عن العصر، اعتبارها بقدر ما شوّه القمع سمعة الجمهوريات، وانكشفت حقيقة أنها أشد ظلماً لرعاياها من ملكيات الاستبداد التي قامت بالسيف ومعه الدينار وهي تستمر بالدينار ومن خلفه السيف.
هل يحتاج الاجتماع الدولي الذي انعقد في «ابو ظبي» شروحاً لموقع الأنظمة الملكية في القرار الدولي حول مصير الدول العربية التي كانت جمهوريات فحوّلها حكامها الى إقطاعيات خاصة؟!
لقد جاء الغرب كله، بقيادته الاميركية، الى الإمارة المذهبة الصغيرة، تحت عنوان إيقاف المذبحة في ليبيا وإسقاط القذافي، لكي يحكم الخطة ويوزع المسؤوليات وتقاسم الأعباء: العسكر من الحلف الأطلسي وبعض الطيران أميركي، وللبدو حق المشاركة الرمزية فيه، والإدارة أميركية، والتمويل عربي كديون تستعاد من مردود مبيعات النفط الليبي. وعلى إسرائيل الحاضرة في كل الوفود ذات القرار أن تغيب عن الصورة. أما إيران فيجب أن تحتل دور العدو لاستحضار «محور الشر». ولا بد من شيء من النفاق لثورة مصر، ووعود بالمليارات لها ولانتفاضة تونس. ولا بد من التحريض على سوريا، ومن خلفها المقاومة في لبنان، ولا بد، بالطبع من إسقاط فلسطين من جدول الأعمال وعدم الإشارة إليها والى ما يجري فيها ولها ومن حولها بأية كلمة. هذا توغل خطر في حقل ألغام.
هل من الضروري التذكير بأن مثل هذا الحشد الملكي العربي لم يجتمع مرة من أجل نصرة قضية فلسطين، أو من أجل وقف الحرب الإسرائيلية على غزة، مثلاً، أو من أجل استنقاذ الشعب اللبناني من أزماته التي تنذر بالفتنة… هذا مع تناسي موقف هؤلاء جميعاً من الحرب الإسرائيلية على لبنان في صيف العام 2006 والتي لم تنكر وزيرة الخارجية الاميركية كوندليسا رايس دورها القيادي فيها؟
القيادة في اجتماع ابو ظبي لمن هي أهم وأخطر من كوندي: فها هي السيدة هيلاري كلينتون تمشي ملكة، تتعطف على بعض الوزراء العرب بكلمة أو هزة رأس أو إيماءة سريعة، فترتسم ابتسامات عريضة على وجوه الشيوخ الذين شرفتهم بأن استمعت منهم مباشرة الى فروض الطاعة والولاء.
لا يحتاج الرعايا الى بيان يشرح لهم ما تقرر في هذا المؤتمر الخطير.
هم يقرأون الصور فيفهمون. ثم ان قرارات الحرب والسلام أخطر من ان تترك للشارع.
يستحق تغيير النظام أو إسقاطه في عدد من الدول العربية الى أكثر من الانتفاضة الشعبية. يستحق اجتماعاً على أرفع مستوى لدول حلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي والأنظمة الملكية العربية تحت الرعاية الاميركية.
لا بد من احتواء الانتفاضات التي أنجزت مهمتها في مصر وتونس. لا بد من تهيئة البدائل في اليمن وسوريا. لا بد من تسوية الأمور في البحرين. لا بد من إعادة تجميع «الحلفاء» الذين تفرقت صفوفهم في لبنان لمواجهة «حزب الله» ومنعه من الهيمنة على الحكومة الجديدة.. بل تمهيد المسرح لإشغاله ومن ثم إنهاكه في حرب أهلية تشطب كلمة المقاومة من القاموس العربي.
صار أهل النظام العربي فريقين: من يرفض الخضوع لإرادة الميدان سيضطر الى مواجهة الإرادة الدولية، أما من جاء به الميدان فعليه أن يدرك أن أسباب حياته في أيدي أشقائه الأغنياء الذين يعطونه بقدر ما يكون ضمانة لسلامتهم، بمعنى حصر النار في بلاده والعمل بجد لمنعها من التمدد. عليه ان يعمل اطفائياً بالأجر لحصر غضب شعبه داخل أسوار بلده.
لقد انتهى عصر الثورة الدائمة.
وانتهى أيضا عصر القومية والعروبة وأسطورة الوحدة العربية أو الاتحاد أو حتى التلاقي في أفياء مؤسسة عجوز مثل الجامعة العربية.
انه زمن النفط والدم، مرة أخرى.
وإذا كانت الشعوب تبذل دماءها من أجل التغيير، فإن أهل النفط يبذلون مالهم من أجل حرف التغيير عن مساره ليقتصر على تغير الحاكم الذي فقد شرعيته، كشرط لضمان بقاء النظام ولو مع بعض الإصلاحات التجميلية.
إننا في عصر الهتاف: الملوك يريدون تغيير الرؤساء.
بافتراض أن الذهب أهم من الشعب وأخطر وأقدر على التغيير.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية