أعلنت جامعة الدول العربية، خبر وفاتها من فوق أعلى منبر دولي في العالم: مجلس الأمن، بشهادة أعضائه جميعاً، الخمسة دائمي العضوية من «الكبار» أصحاب حق الفيتو، والعشرة المتبدلين بتبدل المواقف والأدوار… وفي حين وقف الأمين العام لهذه الجامعة العريقة يتقبل التعازي، فقد بادر رئيس الدورة – بالإعارة او بالإيجار- يعلن اسم الوريث الشرعي: مجلس التعاون الخليجي القادر بذهبه الأسود او بغازه الأبيض على تعويض غياب المؤسسة التي كانت، ذات يوم، معقد آمال العرب في الحد الأدنى من التضامن والتكاتف من اجل الحق في مستقبل أفضل لشعوب هذه الأمة التي فرض على أقطارها التقسيم ثم اقتطعت منها فلسطين للإسرائيليين ليقيموا عليها دولة يهود العالم.
والحق ان إعلان وفاة الجامعة العربية لم يكن مفاجئاً تماماً للمجتمع الدولي… فقبل بضعة شهور ذهب الأمين العام السابق لها يعلن دخولها في غيبوبة تمنعها من أن تقرر، ويطلب من مجلس الأمن ان يتولى، باسمها، تفويض الحلف الأطلسي بتحرير ليبيا من حاكمها المتجبر، حتى لو أدى الأمر الى تمزيق هذه البلاد مترامية الأطراف، الغنية بنفطها والفقيرة بتجربتها السياسية مما قد يأخذها الى حرب أهلية تمزق وحدتها وتجدد الاشتباكات التي لمّا تنطفئ نيرانها تماماً بين قبائلها وأعراقها، تحت الشعار الإسلامي وفوق الأرض الغنية بنفطها الخفيف وغازها الثقيل.
في وقت لاحق، ستعلن عودة «الاتحاد المغربي» الى الحياة بجرعات من نسمات الربيع العربي الذي اسقط الهوية الجامعة عن الدول التي كانت تنضوي تحت لواء الجامعة العربية، بأمل أن تقودها الشراكة في وحدة المصير، فضلاً عن وحدة المصالح، الى نوع من التكامل الاقتصادي – الاجتماعي – الثقافي، تشبهاً بالاتحاد الأوروبي او بالتجمعات التي قادت اليها المصالح دولاً كانت مختلفة جداً فتقاربت بدافع الضرورة، ومن فوق الخلافات السياسية.
هكذا تعزل – بداية – مصر، الدولة – الأم، وصاحبة الحق الشرعي بالقيادة، وتترك لفقرها وما ينتج من اضطرابات اجتماعية واقتصادية تؤثر على الدور فتضعفه، خصوصاً انه قد يضطرها الى تنازلات موجعة، يجبرها على طلب العون ممن شروطه ثقيلة، بحيث يصعب على الكرامة ان تقبلها.
هل من الضروري التذكير بأن انفصال جنوب السودان عن شماله إنما كان يشكل ضربة قوية لموقع مصر ودورها، وفضلاً عن شطبه السودان كدولة مؤثرة، وكشعب لم يقصر يوماً في نصرة القضايا العربية، قبل ان يتولى حكمه عسكر الإسلام السياسي فيضيّع وحدته ودوره، وما زالت مخاطر انفصالية إضافية تتهدده، وتهدد معه الأمن القومي لمصر بانعكاسها على شريان حياتها: النيل!
طبعاً اختفت او غيبت تماماً حقيقة وحدة وادي النيل، وصار النيل بذاته سلاحاً قد يستخدم لتطويع مصر او لجرها الى حروب مع شركاء المصير في قارتها السمراء.
أما في المشرق فقد أقامت دول مجلس التعاون الخليجي سوراً مصفحاً من حولها، بذريعة حماية ذهبيها الأسود والأبيض، من طمع أشقائها، او من جبروت الجار الكبير، الإيراني، في حين فتحت أرضها وأجواءها، ومياهها للقواعد والأساطيل العسكرية الاميركية اساساً والغربية عموماً.
ولقد ظل هذا المجلس مجرد إطار للتــلاقي بالاضــطرار بين دول لم تكن – بمعظمها – موجودة عند قيام جامعة الدول العربيـة، بل كانت، في ما عدا السعودية وسلطنة عمان، مجموعة مشيخات صحراوية يحكمها – مجتمعة – ضابط بريطاني.
..وكان ان تفجرت إيران بالثورة التي رفعت الراية الإسلامية شعاراً وجعلت فلسطين قبلتها، فقصد الملوك والأمراء والمشايخ صدام حسين مستنجدين بقوة العراق لوقف المد الإيراني الثوري، فكانت «حرب الخليج» التي أنهكت العراق وإيران معاً، وكان هذا بالضبط هو المطلوب، وإن استدعى رد فعل أحمق لاحقاً من طرف صدام حسين إذ أقدم على غزو الكويت، وهو ما مكن الاميركيين من شن «حرب تحرير الكويت» بمشاركة عربية فعالة، أدت الى شق جامعة الدول العربية وتلاشي دورها بوصفها الضحية الأولى لتلك الحرب التي مهدت للغزو الاميركي واحتلال العراق وإعدام صدام حسين.
ولقد يسرت تلك الحروب المتواصلة أمر إعادة تحريك الفتنة بين السنة والشيعة للتغطية على النتائج السياسية المتمثلة بعودة القواعد الاستعمارية الى تلك المنطقة.
تدريجياً، صار مجلس التعاون الخليجي، الذي بقي لسنوات طويلة مجرد إطار شكلي لتقارب بلا أفق بين أطرافه، مؤسسة خطيرة، لها تحالفاتها مع أقوى قوة في العالم، وتملك امكانات هائلة تيسر لها شراء أساطيل من الطائرات الحربية والمدنية التي لن تحتاجها، ولكنها تحمي استمرار تدفق النفط الى دول الغرب، وتدفق عائداته الى الخزانة الاميركية حيث تتوه عن طريق الخروج عائدة الى أصحابها في الجزيرة والخليج.
وعندما تفجر غضب الشعوب العربية في وجه أنظمة القمع التي حكمته دهوراً صار مجلس التعاون الخليجي، بقدرة قادر، حاضنة «الربيع العربي»، والمروج للثورات وقائد الحملة السياسية، ومن ثم العسكرية، ضد بعض تلك الأنظمة التي لم تستوعب – بالسرعة اللازمة – الدور الجديد المكلف به الأمراء والمشايخ الذين منحوا دوراً في الشؤون العربية في عواصم القرار الكوني، خصوصاً إنهم مستعدون لأن يلعبوا دور القناع او دور الممهد وبالطبع دور الممول، او حتى دور المزود بالسلاح، كما دلت التجربة في ليبيا علناً، وكما تدل الوقائع الميدانية في سوريا، وإن بطريقة مموهة، لاختلاف الظروف.
لقد سقطت جامعة الدول العربية بالضربة القاضية… فالدول المؤسسة مشغولة بأوضاعها الداخلية: مصر تبحث عن طريقها الى الدولة القوية والمنيعة بعد الثورة الشعبية الرائعة التي صودرت قبل ان تبلغ غايتها، والعراق متروك لمخاطر الحرب الأهلية والتمزق بين «مكوناته» الطائفية والعرقية والإثنية، وسوريا متروكة لمصيرها في ظل انشقاق خطير بين السلطة والمجتمع ينذر بالأسوأ.. حتى ان رئيسها بشار الأسد اخذ يتحدث، مؤخراً وبعد طول مكابرة، عن خطر التقسيم الذي يتهدد هذه الدولة التي كان لها دور متميز ومؤثر في خدمة القضايا العربية جميعاً، وفي الطليعة منها قضية فلسطين.
وتبقى اليمن التي رفض أهل الثروة من أركان مجلس التعاون الخليجي ضمها بملايين الفقراء الى هذا التكتل المذهب.. وواضح ان هذه الدولة التي أعادتها الى الحياة الثورة، ثم أجبرت الإرادة الشعبية قياداتها في شمال البلاد كما في جنوبها على التقدم نحو الوحدة، تبدو الآن مهددة في وجودها وليس في وحدة كيانها السياسي فحسب.
ولقد دأب مجلس التعاون الخليجي على رفض انضمام هذه الدولة الفقيرة الى نادي أغنيائه متذرعاً بحجج واهية، لكن الحقيقة انه لا يريد إشراك ملايين الفقراء من أبنائها الذين أسهموا إسهاماً عظيماً في بناء حواضره وفي إنعاش اقتصاده وفي نعيم رخائه.
بالمقابل فإن مجلس التعاون الخليجي قد دفع ببعض من قواته المسلحة الى دخول البحرين لمواجهة الانتفاضة الشعبية السلمية فيها التي لا تطالب إلا بحق المواطنة لأهلها وهم – للمناسبة – من السباقين الى طلب العلم بل والى التفوق فيه، وكانوا دائماً الطليعة المثقفة والواعية من بين أبناء تلك المنطقة، ولم يعرفوا الطائفية إلا حين قرر النظام – ومن خلفه مجلس التعاون – استخدام هذا السلاح القذر لاتهام شباب الحركة الوطنية في البحرين بأنهم «عملاء» للإيرانيين، او بأنهم «مذهبيون» يسعون الى الفتنة بين السنة والشيعة.
أين تصير قضية فلسطين وماذا سيصيبها بعد الإعلان عن وفاة جامعة الدول العربية وانطفاء دورها؟
بين سخريات القدر ان المهمات الأخيرة التي سخر للقيام بها مجلس الجامعة بقيادة الشيخ القطري حمد بن جاسم آل خليفة، إنما تمت بعدما تنازلت فلسطين عن رئاسة الدورة لهذا الشيخ متعدد المواهب، الذي يتحلى بروح رياضية عالية، تمكنه من إنشاء علاقات حميمة مع بعض القادة الإسرائيليين، وهو كان من تولى الاتصالات الرسمية الأولى مع إسرائيل، برعاية مباشرة من واشنطن، والتي انتهت إلى إقامة مكتب تمثيل تجاري لدولة العدو في الإمارة التي تعوم فوق بحر من الغاز في الخليج العربي… وبديهي ان مثل هذا المكتب ما كان ليقوم ويبقى، لولا مجاورته لقاعدة العيديد، وهي اكبر قاعدة عسكرية اميركية خارج الأراضي الاميركية.
يبدو السؤال عن فلسطين وكأنه من خارج السياق… فقد غدت هذه القضية العربية المقدسة من مسؤولية هيئات دولية أبرزها «الرباعية»، خصوصاً بعدما انشغل أهلها عنها، سواء «سلطتها» التي لم تعرف بعد كيف تتوحد، أو الدول العربية التي كانت تظهر الاهتمام إما لأسباب داخلية وإما لاستدراج عروض خارجية، ثم انصرفت عنها لتغرق في محلياتها، لا سيما بعد تفجر الميادين بالغضب والضياع بين موجبات الثورة والخوف من الفوضى بعد سقوط الأنظمة ولا بديل.
ومن موجبات الأمانة الاعتراف بأن التعرض للقضية الفلسطينية في هذه اللحظة أمر يفوق طاقة الأنظمة على احتماله.
وهكذا تبدو القضية متروكة للمقادير… فقيادات الداخل في الأسر، وقيادات الخارج مسترهنة ومستضعفة بخلافاتها التي لا تنتهي.
الخلاصة ان جامعة الدول العربية قد اغتالها أهلها، ولكنها لا تجد من يقيم لها حفل التأبين اللائق، لأن أحداً لا يريد ان يتحمل المسؤولية عن اغتيالها.
وليست مصادفة ان يغدو مجلس التعاون الخليجي المرجعية العربية المعتمدة دولياً… وأن تنتبه دول المغرب العربي، من ليبيا وحتى موريتانيا، الى ضرورة النأي بنفسها عن أولئك «العرب» الذين يخلطون بين الدولة والثورة فيخسرون مرتين.
ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية