تعيش المنطقة التي كنّا نسمّيها، بالأمل أو بالتمني? «الوطن العربي» حالة غير مسبوقة من التمزق وافتقاد القيادة والتضامن، ولو بحده الأدنى، في حين أنها تواجه مخاطر مصيرية تتهدّد شعوبها وليس فقط دولها الغنية أو الفقيرة، لا فرق.
لم يسبق أن غطت دماء أهالي هذه المنطقة أرضها بمثل الغزارة التي تغطيها الآن، ومن دون أهداف جليلة تستحق مثل هذه التضحيات المجانية. بل إن هذه الدماء توظف ضد الأهداف الوطنية (فضلاً عن التطلعات القومية). وأبسط دليل أن مجمل الدول العربية تعيش مرحلة من عدم الاستقرار والتي قد تصل، في حالات معينة، إلى حدّ تهديد الكيانات القائمة: فالدول الغنية تنزف مواردها المالية، فضلاً عن بعض كادراتها العسكرية، في حين أن الدول الفقيرة تنزف استقرارها، بل ووحدتها الداخلية في حالات معروفة ومحدّدة.
سقطت المؤسسات، ولو رمزية، التي كانت تجمع القيادات العربية في قمة سنوية دورية. ووصل الخصام بين العديد من هذه القيادات إلى حد القطيعة الكاملة، بل إلى الحرب المباشرة بالطيران (كما في حالة اليمن) والحرب بالواسطة، سلاحاً وتمويلاً وتجنيداً، كما هي حالة سوريا.
حتى الدول التي لم تتورّط في حروب ضد «أشقائها» أو «جيرانها» من العرب، مثل الجزائر والمغرب، تهرب من نيران المشرق، وإن حرص المغرب على نوع من التضامن الرمزي، ولأسباب ملكية، مع السعودية? وبدافع من حماية العروش أكثر مما بدافع الأخوة وحماية المصالح المشتركة.
يفتقد العرب دور مصر التي منعتها أثقال مشكلاتها الداخلية، الاقتصادية أساساً، ثّم الأمنية التي يلعب فيها حملة الشعار الإسلامي دوراً خطيراً، من تحمّل «المسؤولية القومية» التي طالما نهضت بها في منتصف القرن الماضي والتي شملت معظم أقطار «الوطن العربي الكبير»، من أدناه إلى أقصاه.
ويفتقدون العــــراق، دوراً ودولة ذات ثقل سياسي وعسكري واقتصادي، وقد تركـــته مغامرات صدام حسين العسكرية، سواء في حربه ضد إيران، أو في غزوة الكويت البائسة? فضـــلاً عن سلوكه الامبراطــــوري المكلف بغــــير مردود، أرض صراع بين «مكوّنات الطائفية والمذهبية، فضـــلاً عن تضخم النزعة الانفصالية عند الأكراد (لا سيما البرازانيين منها).
أما سوريا فقد تصبح مأساة العصر، إذ تدخل الحرب فيها وعليها عامها السادس وطوفان الدم يجتاحها من أدناها إلى أقصاها، مستدعياً مختلف أصناف التنظيمات الإرهابية? وبالذات تلك التي تحمل الشعار الإسلامي. وفي إحصاء أولي يمكن احتساب خمسين تنظيماً مقاتلاً بأحدث أنواع السلاح وأعظمها فتكاً، تأتي من مصادر عديدة، بينها بعض دول الخليج بعنوان قطر، معززة بالخصومة السعودية التي نزلت من السياسة إلى المواجهة المباشرة عبر تسليح بعض المنظمات المقاتلة على الأرض، والتي تتقاطع – ميدانياً – مع ورثة «القاعدة» ممثلين بـ «جبهة النصرة»، فضلاً عن تنظيم «داعش» الذي كبر في سوريا قبل أن ينطلق بجحافله منها إلى العراق.
ومن الموصل وهي ثاني أكبر مدن العراق، أطلق أبو بكر البغدادي دعوته مقدّماً نفسه «خليفة» على المسلمين جميعاً، وليس على العرب وحدهم، مستنداً إلى دعم تركي وتسهيلات تركية شبه معلنة (تأمين الطريق لأسطول سياراته الآسيوية الحديثة) والقاعدة الخلفية لتعزيزاته العسكرية قبل أن يستولي على ثكنات الموصل والمنطقة المجاورة بكل ما فيها من السلاح الثقيل، دبابات ومدفعية ومصفحات وذخيرة.. فضلاً عن مئات الملايين من الدولارات التي كانت في خزائن البنك المركزي فيها.
وهكذا تمدّدت الحرب لتشمل العراق مع سوريا، مع اشتباكات وتفجيرات دورية في بعض أنحاء لبنان، بعاصمته بيروت وضواحيها، ثمّ لتنتقل حاملة الموت إلى بعض أقطار المغرب (ليبيا أساساً حيث بات لـ «داعـــــش» قواعد فيها? وكــــذلك تونس) بل إنها تخطت حدود الوطن العربي، بما في ذلــــك اليمن جنوباً فضلاً عن السعودية، لترمي بالنار قلب باريس وبعض أنحاء أوروبا.
وهكذا انشغلت تونس، التي منها انطلقت شرارة انتفاضات التغيير، بهمومها الدموية الثقيلة، خصوصاً وقد ضرب وحدة ميدانها التنافس بين القوى السياسية القديمة (ورثة البورقيبية) وبين الإسلام السياسي ممثلاً بـ «الإخوان المسلمين» الذين حاولوا تقديم نموذج «أهدأ» و «أكثر وعياً» من «رفاقهم» في أقطار عربية أخرى، ومصر على وجه التحديد.
كذلك فإن «الإخوان المسلمين» قد تحايلوا على انتفاضة الميدان في مصر وانتهزوا غياب التنظيم عن ملايين المنتفضين المحتشدين في الميادين بلا خطة وبلا قيادة وبلا رؤية سياسية موحّدة تصلح برنامجاً للتغيير السياسي. والأهم من ذلك الفوضى? خصوصاً وقد حاول «الإخوان» المتعجّلون انتهاز الفرصة للسيطرة على الحكم بمؤسسات الدولة جميعاً، مستدرجين الجيش إلى التدخل منعاً لمخاطر الفوضى والتصادم، فكان أن تحرّك فخلع «الإخوان» وتولى زمام الأمور لفترة انتقالية نشهد هذه الأيام ختامها مع الانتخابات النيابية التي غاب عنها «الناخبون» ربما بسبب اليأس? خصوصاً أن البطالة السياسية الطويلة قد استهلكت مَن كانوا مرشحين للعب دور حيوي، سواء من متخرجي الأحزاب القديمة، تقليديين أو مجددين (ناصريين ووطنيين وماركسيين وتقدميين عموماً) يفتقدون المرجعية الفكرية المؤهلة لمواجهة مشاكل العصر المختلف جذرياً عما سبقه من عصور…
وقد ساهم في التعجيل في شطب تجربة «الإخوان» أنهم قد حاولوا أن يتخذوا من التجربة التركية نموذجاً، بغير مراعاة لاختلاف الظروف والتباين الواضح بين «التدين المصري» كفعل إيمان قدري، وبين «إخوان» تركيا ممن لهم برنامج مجرَّب ولهم رعاية أميركية بل غربية شاملة، محصنة بعلاقة مميزة مع العدو الإسرائيلي. وكل ذلك طارئ ومستجدّ وغير ملائم مع شعب متديّن ولكن له تجربة مريرة مع استخدام الشعار الديني في السياسة بغير برنامج واضح معزز بالتجربة الناضجة والدعم الدولي المفتوح باعتباره «الإسلام الغربي» أو ذلك النوع من الإسلام الذي يقبله الغرب? خصوصاً أنه لا يتوجه إليه «فاتحاً» أو «هادياً» بل خاضعاً وملتزماً بنموذجه في الديموقراطية، كما في اعتبار الولايات المتحدة الأميركية «الرائد» و «القائد».
وهكذا تناقلت الدائرة في حصار إرادة التغيير العربي…
من جهة أولى: أخفقت الانتفاضات الشعبية، ولأسباب كثيرة يمكن استنتاجها بسرعة، أولها غياب القيادات المؤهلة والمجربة، وثانيها غياب البرنامج السياسي الواضح والمحدد. والذي على أساسه يمكن بناء جبهة وطنية عريضة وقادرة ومؤهلة لتنفيذ برنامجها.
من جهة ثانية: فتح هذا الإخفاق الباب أمام «قوى الردة»، ممثلة بالنظام القديم وسائر المتضرّرين من التغيير، للقيام بانقلاب مضاد معزّز بكل القوى «المعادية» في الداخل أساساً ثمّ في الخارج، للتقدم نحو استعادة مواقعها في النظام الجديد، باعتبارها المؤهلة لمحاورة «العالم» وبالتحديد مؤسساته المالية، وكلها تحت الهيمنة الأميركية (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) ويمكن إضافة «الدول المانحة» بعنوان السعودية وأقطار الخليج التي لها شروطها السياسية في تقديم القروض أو المنح أو الهبات والشرهات التي لا يمكن أن تبني «دولاً».
من البديهي أن يشجع هذا الإخفاق القوى المحافظة، وبالمصادفة: تبين أن هذه القوى هي مالكة الثروات الخرافية والتي تقدر – بالتالي ـ على المنح أو المنع أي على فرض شروطها أو «تطويع» قوى التغيير، وفقاً للمبدأ المعروف: «مَن يعطي لها حق الامرة»… وبالتالي فقد باتت السيادة للابسي العباءات المذهبة، الذين تكشفوا عن أصحاب قدرات هائلة في التأثير على قرار التغيير في الدول الأخرى، لا فرق بين شقيق أو صديق.
هذا العرض لا يعني أن صاحبه قد انضمّ إلى نقابة اليائسين، فالتغيير آتٍ لا محالة، لأن ذلك هو منطق التاريخ ومنطق الضرورة.
والميدان ميدان مفتوح بعد، بالأمل وبتجربة القدرة، ولا بدّ من العودة إليه، إن لم يكن اليوم فغداً.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية