تزايدت اهتمامات القيادة السياسية في مصر بالشؤون اللبنانية خلال السنتين الماضيتين، فوجهت دعوات رسمية الى بعض أقطاب اللعبة السياسية الداخلية، وكانت قريبة من فكرة اختيار قائد الجيش لرئاسة الجمهورية (وهو ما حصل فعلاً، قبل عام)، كما أنها تتابع يومياً تقريباً، مجريات «معارك» الانتخابات اللبنانية المقرر إجراؤها في السابع من شهر حزيران ـ يونيه ـ المقبل.
ولعل الهدف المباشر مسح الانطباع الذي ساد في لبنان عشية الحرب الإسرائيلية عليه (تموز ـ يوليو ـ 2006) بأن مصر اقتربت من فريق السلطة (14 آذار ـ مارس) بأكثر مما يسمح حجمها ودورها كمرجعية عربية شاملة تتطلع إليها الدول العربية جميعاً اذا ما احتدمت الخلافات الداخلية بين قواها السياسية لتلعب دور «الوسيط النزيه»، الساعي الى توطيد الوفاق الوطني، لا سيما أن مصر أكبر من أن تكون طرفاً في خصومة بين الإخوة.
ولقد وجهت القاهرة دعوات رسمية الى عدد من القيادات السياسية في لبنان، من رسميين كبار، في طليعتهم رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان، وسياسيين مختلفي التوجهات (بينهم سعد الحريري، زعيم ائتلاف الأكثرية النيابية ـ ورئيس تيار المستقبل) وعمر كرامي، الرئيس الأسبق للحكومة، وسمير جعجع قائد التنظيم (المقاتل سابقاً) «القوات اللبنانية»… إضافة الى رئيس المجلس النيابي نبيه بري، في زمن سابق، أما رئيس الحكومة فؤاد السنيورة فكان دائم التواصل مع القاهرة، فإن تعذرت الزيارة الرسمية جاء في زيارة خاصة، أو استغل إجازة عائلية قصيرة ليلتقي بعض المسؤولين إضافة الى الاتصالات الهاتفية الدائمة مع الرئاسة ووزارة الخارجية ودوائر أخرى في دست الحكم في مصر.
اليوم، وعشية احتدام المنافسات في المعركة الانتخابية، طرأ عنصر جديد قد يؤثر على موقف القاهرة الرسمية، هو ما يتصل بالموقف من «حزب الله» بعد كشف «الشبكة الأمنية» التي قيل إن عنصراً من هذا الحزب كان مكلفا بقيادتها في مهمة يراها مقدسة هي إيصال المساعدات، بأنواعها، الى شعب فلسطين تحت الحصار الإسرائيلي في غزة هاشم، المفصولة والمعزولة والمطوقة بأسباب الموت الإسرائيلي من جهاتها كافة، منذ أقدمت إسرائيل على محاصرتها.. حتى الموت، ثم على دكها بحراً وبراً وجواً وبمختلف أنواع الصواريخ وقذائف الدبابات والمدفعية وقنابل الفوسفور الأبيض، على امتداد اثنين وعشرين يوماً من القتل المنظم.
هنا محاولة لقراءة الخريطة الانتخابية في لبنان بملابسات التحالف والافتراق بين القوى السياسية فيه، والتي تدرس القاهرة، في تقديرنا، موقعها منها.
لأن لبنان هو «مركز الكون»، في عيون أبنائه، وربما في عيون العديد من الدول، كبراها وصغراها، البعيدة منها خلف المحيطات، والقريبة منها قرب العين من الحاجب، فإن الانتخابات النيابية فيه، تكاد تكون بالنسبة لأهله كما بالنسبة لتلك الدول، أخطر حدث عالمي في هذا القرن!
من هنا طغيان الاهتمام بهذا الحدث اللبناني الجلل على كل ما عداه من تطورات، بما فيها الزيارتان التاريخيتان لكل من بابا الفاتيكان بندكت السادس عشر لكل من الأردن وفلسطين (أو ما بقي منها) وللكيان الإسرائيلي (الذي لا تعرف له حدود نهائية)، ومن بعده الرئيس الأميركي باراك أوباما، الذي سيطل على عالمنا العربي من عاصمته القاهرة.
وبمعزل عن الأهمية الاستثنائية لهاتين الزيارتين التاريخيتين، فإن مواعيدهما تثير من الأشجان أكثر مما تبعث على الفرح… إذ إن كلا منهما تؤكد انعدام قيمة دولنا العربية، بل شعوبنا ذاتها: فالبابا يجيئنا في ذكرى «شطب» فلسطين من الخريطة لتسهيل إقامة «دولة اليهود» ـ إسرائيل ـ فوق أرضها وعلى حساب شعبها وحقوقه وتاريخه فيها.
وأما الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما الذي أثار انتخابه موجة من التفاؤل سببها البديهي مقارنته بسلفه التكساسي السيئ الذكر فإنه يأتي الى مصر في موعد يتضمن شيئاً من الاستفزاز (غير المقصود؟!)، إذ يتصادف وصوله مع الذكرى الثانية والأربعين للحرب الإسرائيلية على مصر ومعها سوريا (والأردن وشعب فلسطين وسائر العرب) في 5 حزيران ـ يونيه ـ 1967، حيث مكنت الغفلة إسرائيل من مفاجأة العرب وإلحاق الهزيمة بمجموع جيوشهم في حرب خاطفة ضاع بعدها مصيرهم من أيديهم، وما زالوا يدورون لاستعادته، توسلا، من أيدي المتحكمين فيه، نتيجة عجزهم عن القرار.
ما علينا، لنعد الى موضوعنا الأخطر وهو الانتخابات الكونية في لبنان… وهي كونية لأن لكل دولة في العالم، الأكبر فالأصغر، رأياً فيها وموقفاً منها، بل لأن للعديد من الدول مرشحين فيها، بل «لوائح» كاملة… وإذا استخدمنا عبارات القوى المتصارعة لرأينا فيها مواجهة بين «معسكر الاستقلال والحرية والديموقراطية» الغربي التوجه وإن اعتمر بعض أطرافه الكوفية والعقال، ورطن بلغة القرآن الكريم، و«معسكر الشر» ـ بالتعبير الأميركي ـ الذي يضم سوريا وإيران بشعارات الثورة الإسلامية و«حزب الله» والقوى الوطنية المتحالفة معه.
ذلك أن الشرخ العميق الذي أحدثته في الداخل اللبناني جريمة اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، قبل أربع سنوات إلا قليلاً، قد استولد حالة احتدام سياسي خطير، لأن «اللعبة السياسية» وجدت في الجريمة مجالاً رحباً للاستثمار… ولم يتورع أطرافها المحليون كما الأجانب، عن تحريك المواجع باستثارة المشاعر الطائفية والمذهبية في هذا البلد الصغير والدقيق بتوازناته والذي اتسع، لظروف مختلفة لثماني عشرة طائفة مرشحة للتزايد… أوليس هو بلد الهاربين من الاضطهاد الديني أو العرقي أو الطائفي في أوطانهم؟!
ثم تفجر الاحتدام السياسي خلافاً عميقاً كاد يبلغ حافة الحرب الأهلية، وبين المسلمين سنة وشيعة على وجه التحديد.
منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري لم يعد لبنان هو ذلك المصيف ـ المشتى، المكتبة والمنتدى، الكتاب والصحيفة، المقهى والملهى وملتقى التقاطعات السياسية والاقتصادية والثقافية، ومجمع التناقضات والتحالفات والمصالح ومركز التنصت والاستخبار المفتوح لكل الدنيا وعلى كل الدنيا.
كانت جريمة الاغتيال زلزالاً عنيفاً خلخل الثوابت وقواعد التوازن في الوطن الصغير، خصوصاً أن بين أول تداعياته الخطيرة كان خروج الإدارة السورية، برجالها وعسكرها وضبطها للإيقاع وفق برامج كانت «تواطأت» عليها مع من أولتهم في ظل سيطرتها مقاليد الحكم والنفوذ في مختلف الميادين.
فقدت «الدولة» المركبة، كما الدومينو، على قوى بعضها قديم مجدد وبعضها الآخر مستحدث، «المركز» و«مصدر القرار» فيها، وانفتحت الأبواب على مصاريعها أمام كل قادر على اجتذاب حصة من كعكة لبنان الشهية، حيث تتقاطع مصالح الدول والقوى والجماعات، سياسياً واقتصادياً وأمنياً…
وفي ظل لوثة الدم تم إسقاط ما بات يسمى الآن «نظام الوصاية» القديم لتنشأ أنظمة وصاية جديدة، متعددة الهويات، مختلفة الأغراض.
أما في السياسة، ولأسباب تكتيكية، فقد تم التحالف الرباعي بين كل من: «حزب الله» وحركة «أمل»، و سعد الحريري (نجل رفيق الحريري) وتياره الذي يعرف الآن باسم «تيار المستقبل» والحزب التقدمي الاشتراكي (وليد جنبلاط) الحليف الخامس غير المعلن في التحالف الرباعي. وحزب «القوات اللبنانية» بقيادة سمير جعجع، الذي كان سعد الحريري قد سعى لإخراجه من السجن بعفو خاص.
لكن هذا التحالف الانتخابي الذي استولد حكومة فؤاد السنيورة الأولى، لم يعمر طويلاً، وتدخلت قوى دولية وعربية مؤثرة لفرطه مباشرة في أعقاب الحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز (يوليو) 2006، والتي اتخذت من أسر بعض الجنود الإسرائيليين لمبادلتهم بأسرى لبنانيين وفلسطينيين ذريعة لها.
ثم تفجر التحالف خلافاً عميقاً بعد السعي لإقرار مشروع المحكمة الدولية، قفزاً من فوق رئيس الجمهورية والمجلس النيابي، وبموجب اتفاق(بروتوكول) خاص تدخلت الدول الكبرى لإقراره عبر الأمانة العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الذي كان قد أصدر في أعقاب جريمة الاغتيال قراره الرقم 1595 قراراً بأن يكون التحقيق في هذه الجريمة «دولياً»، وأنشأ لهذا الغرض لجنة تحقيق دولية رأسها في البداية ضابط مخابرات ألماني طاردته الاتهامات في حيدته منذ اللحظة الأولى..
ولقد كان سهلاً الانحدار بالخلاف السياسي الى وهدة الشقاق الطائفي والمذهبي، فاتهام إيران وسوريا معاً يصيب «حزب الله» مباشرة، ويسهل بعد ذلك إثارة ما يحفظه التاريخ من صراعات مذهبية تعود الى فجر التاريخ الإسلامي وعصر الخلافة الراشدية التي لا تزال تجر ذيولها، بما يسهل استثمارها اليوم.
تعدد الورثة بأكثر مما يمسح ضيق «الساحة» للتوافق، وكان طبيعياً أن تنفتح أبواب الصراع على النفوذ على مصاريعها، وأن تنشأ تحالفات غريبة، وأن يتلاقى خصوم في مواجهة عدو لهم جميعاً.
أعاد الانقسام استيلاد الشعور بالغبن لدى المسيحيين الموارنة الذين رأوا في اتفاق الطائف الذي أنهى ـ نظرياً ـ الحرب الأهلية سنة 1989، انتقاصاً من دورهم، اذ هو أعاد توزيع السلطة منتزعاً من رئيس الجمهورية الصلاحيات المطلقة التي كانت له منذ إنشاء الكيان السياسي (1920)، وتحديداً منذ جلاء الاحتلال الفرنسي وإعلان استقلال الدولة (1943)، ليحصرها في مجلس الوزراء، مما أعطى لرئيس الحكومة (المسلم السني، وبنسبة أقل للوزراء) صلاحيات واسعة، في حين أتاح لرئيس المجلس النيابي (الشيعي) أن يكون السيد المطلق في البرلمان.
وفي ظل هذا «الشعور بالغبن»، وانقسام المسلمين سنة وشيعة الى حد التصادم، أمكن إعادة إحياء قانون انتخابي عام، مشهور بقانون الستين، يتلخص في فرز طائفي شبه مطلق، بحيث تنتخب كل طائفة نوابها… وتحت شعار «تحرير» الأقلية المسيحية من استرهان الأكثريات الإسلامية، شيعية وسنية، لها.
وهكذا أسقطت الانتخابات من قبل إجرائها بالضربة الطائفية القاضية، بعدما أدت غرضها الديموقراطي العظيم: شرخت لبنان الى فيدراليات طوائفية منفصلة (نفسياً) متصلة عملياً لأسباب بحت معيشية.
([) ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية
( في الأسبوع المقبل، يمكن تقديم خريطة تفصيلية
لحرب الدول والطوائف والمصالح في الانتخابات
اللبنانية.. اللاغية للديموقراطية!)