طوت مصر صفحة «الإخوان المسلمين» كقوة مؤهلة للحكم بحكم تاريخها السياسي.
ولقد أسهم «الإخوان» في التعجيل بطي هذه الصفحة بكفاءة منقطعة النظير، وفي سرعة قياسية، ولن تنفع مقاومتهم في استعادة القبول الشعبي الذي توفر لهم، ذات لحظة قدرية، فرفع مرشحاً قيادياً في صفوفهم إلى سدة الرئاسة.
كانت الفرصة أجمل من حلم، وجاء السقوط أقسى من كابوس عليهم.
كانت فترة انتقالية بين ثورتين، لا هم أطلقوا الأولى، وإن كانوا أعظم المستفيدين منها، ولا هم تنبهوا إلى أن ممارساتهم في الحكم هي التي سببت انطلاق الثورة الثانية.
لا هم عرفوا كيف يحكمون، وها هم بعد السقوط المدوي لا يعرفون كيف يراجعون تجربتهم، تمهيداً لأن يعودوا إلى موقع المعارضة، بعدما اكتووا بنيران الحكم الذي فشلوا أن يسوسوه فخلعهم.
في أي حال تستحق تجربة «الإخوان» مع السلطة وفيها مراجعة نقدية صارمة ومتعددة الأبعاد لهذا التنظيم ذي التاريخ الحافل بالصدامات مع السلطة، على اختلاف من شغلوها، سواء في العهد الملكي أو في العهود الجمهورية.
وأول ما تكشفه هذه التجربة، أن الشعار الديني المجرد لا يكفي لتبرير السيطرة على مقاليد الحكم، في غياب برنامج واضح ومحدد يخاطب حقوق الشعب وأهدافه فضلاً عن تمنياته.
ماذا يعني رفع الشعار الإسلامي في مجتمع أكثريته الساحقة من المسلمين، وهم في مصر على وجه التحديد، من الصادقين في إيمانهم، ومن المتطرفين في ممارستهم الشعائر الدينية… وتكفي مشاهدة طوابير الفقراء الذين قد يستدينون للذهاب إلى العمرة، سنوياً، فضلاً عن آلاف الآلاف ممن يقصدون الديار المقدسة لأداء فريضة الحج، وفي الغالب الأعم أكثر من مرة… بل لعل أعداداً هائلة من المصريين قد ذهبوا فأدوا فريضة الحج بدل المرة الواحدة مرات عدة، علماً أن مداخيلهم الطبيعية لا تمكنهم من ممارسة مثل هذا الترف، وليسوا من الخطاء إلى درجة الإلحاح في طلب الغفران إلى هذا الحد.
أما طوابير المصلين الذين يملأون الشوارع أمام المساجد فأكثر من أن تحصى، وأمنع من يشكك احد في إيمانهم.
وفي العودة إلى التجربة السياسية فإن ابرز عناوينها كانت النزعة الاحتكارية والرغبة بالتفرد في السلطة واستبعاد الآخرين، كل الآخرين، بمن في ذلك من كانوا في موقع الحليف أو الصديق، فضلاً عن «المنافسين» الذين لم يكونوا خصوماً، لكن ممارسة «الإخوان» هي التي أبعدتهم واستعدتهم ودفعتهم إلى الخصومة دفعاً.
منذ اليوم الأول تصرف «الإخوان» وكأنهم يثأرون لأنفسهم من تاريخ مصر الحديث ويحاولون، وقد وصلوا إلى السلطة، أن يعوضوا كل ما فاتهم من خيراتها ومغانمها وفي أسرع وقت ممكن. وهكذا فقد تنكروا لمن مكنوهم من الوصول إلى الرئاسة منذ اليوم الأول: تعهدوا بإقامة حكومة، بل حكم ائتلافي، ثم تنكروا لتعهدهم بطريقة مستفزة. جاءوا بالشركاء في إسقاط «عهد الطغيان» ممن كانوا الرواد في تفجير «ثورة 25 يناير» 2011، فحاوروهم وطمأنوهم إلى أنهم سيكونون الشركاء، ثم استبعدوهم عن الحكومة، ثم عن القرارات اللاحقة التي كانت تهدف إلى إعادة صياغة مواقع القرار في السلطة الجديدة. بل أنهم اختاروا السير في الاتجاه المعاكس تماماً: شكلوا لجنة لصياغة دستور جديد من جماعتهم ومناصريهم مع تمثيل رمزي للحلفاء السابقين، فلما اعترض هؤلاء تركوهم يخرجون من اللجنة، ومضوا في إقرار الدستور الأشوه عبر استفتاء شعبي أظهرت نتائجه «الرسمية» أن أكثر من ثلث المصريين، وفي تقديرات أخرى أكثر من النصف، قد تحفظوا عليه بل وجاهروا برفضهم لبعض نصوصه المشوهة لمعنى الديموقراطية وتكريسه لنزعة التفرد واستبعاد الآخرين.
أما على المستوى العربي فقد اندفع «الإخوان» عبر رئيسهم المنتخب، ينافقون السعودية، وهم يعرفون تماما أنها لا تقبلهم ولا تصدق تعهداتهم… ثم انعطفوا في اتجاه قطر التي لا تحظى بسمعة طيبة في الأوساط الشعبية، داخل مصر أو خارجها، مستندين إلى مباركة التنظيم الدولي لـ«الإخوان المسلمين» وبركات الشيخ يوسف القرضاوي الذي لا يحفظ له «الميدان» في القاهرة ذكرى عطرة، خصوصاً أن ذهابه إليه مع تفجر «ثورة يناير» قد فضح استعجال «الإخوان» السيطرة على السلطة. ثم إن «الكرم القطري» قد تأخر كثيراً، فلما تم الإعلان عن تقديم «المساعدات العاجلة» لحكم «الإخوان» تولّد المزيد من الشبهات واستفز المصريين الحساسين جداً لكل ما يتصل بكرامتهم الوطنية.
في الوقت ذاته، كانت دولة الإمارات تعتقل العشرات من المصريين العاملين فيها بعد اعترافهم بالانتماء إلى تنظيم «الإخوان» وتوجه إليهم اتهامات أمنية خطيرة، وتقدمهم إلى المحاكمة، وتفرض قيوداً شديدة على العمالة المصرية فيها.
بالمقابل رفض حكم «الإخوان» محاولات الحكومة العراقية تقديم المساعدة، لا سيما في مجال النفط والغاز، واعتبر ذلك نوعاً من التحــرش الإيراني المرفوض.
كذلــك فقــد تســبب الرئــيس مرسي في توتير العلاقــات مع إيــران مــن دون تبرير، حــين زارهـا مضــطراً لتسليم رئاسة الدورة الجديدة لمؤتمر عدم الانحياز.
أما في ما يتصل بالعلاقة مع النظام السوري فقد اندفع حكم «الإخوان» إلى أبعد ما يقبل به الشعب المصري، وبالذات قواته المسلحة… إذ أن هذا الشعب يميز بين النظام القائم وبين الشعب السوري، وتربطه وشائج قوية وميدانية مع القوات المسلحة السورية، وبالتالي فإن معارضته الشديدة للنظام لا تطال الجيش في سوريا، الذي يحفظ له جيش مصر إخوة الدم في العلاقة التاريخية الوطيدة. وفي سجلات الجيش المصري أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قد أوفد وحدات مقاتلة إلى سوريا في العام 1957، لمواجهة التهديدات التركية آنذاك، كذلك فإن دولة الوحدة التي لم تعمر إلا ثلاث سنوات وبضعة أشهر قد متنت رفقة السلاح بين الجيشين… ثم جاء القتال المشترك على الجبهتين المصرية والسورية في حربي 1967 و1973 فوطد «الإخوة بالدم» بغض النظر عن النتائج الميدانية للحربين.
ولعل إعلان الرئيس المخلوع محمد مرسي، في خطابه الأخير، قراره بقطع العلاقات مع دمشق قد سرع في تحديد ساعة الصفر للتغيير الذي تولى قيادته الجيش تحت لواء قائده عبد الفتاح السيسي.
باختصار: لم ينجح حكم «الإخوان» في إقامة علاقة طبيعية مع أي من الدول العربية. حتى مع تونس التي يتولى «الإخوان المسلمون» موقعاً قيادياً أساسياً في سلطة ثورتها التي لعبت دور الشرارة في تفجير «ثورة يناير» في مصر.
بالمقابل فأن رئاسة الدكتور محمد مرسي قد تسببت في مجموعة من الإشكالات مع بعض الدول الأوروبية، أبرزها ألمانيا… في حين لم تنفع محاولات «الإخوان» في كسب التبني الأميركي لسلطتهم المستولدة قيصرياً في مصر، برغم ما أغدقوه على المسؤولين الأميركيين من وعود الالتزام بموجبات سياستهم في المنطقة، وأخطرها ما يتصل بمشاريع الاستيطان التي تلتهم أراضي الضفة الغربية ولا تترك للفلسطينيين ما يفاوضون عليه.
أما روسيا، وبعدها الصين، فقد تصرف الرئيس مرسي خلال زيارتيه لهما، وكأنهما لرفع العتب عن كاهله، لم يكن لأي مـن الزيارتــين برنامــج محــدد بقصد الوصول إلى تمتين العلاقات، سياسياً واقتصادياً، حتى لا نقول بقصد استعارة من علاقات وثيقة كادت تبلغ حدود التحالف ذات يوم.
لقد حقق الدكتور محمد مرسي نتائج قياسية في خسارة الأشقاء والأصدقاء، بقدر ما نجح تنظيم «الإخوان» في خسارة ملايين المصريين الذين أعطوا أصواتهم للمرشح الذي لم يعرفوه هرباً من المرشح الآخر الذي يعرفون عنه أكثر مما يجب.
فقط مع إسرائيل نجح الدكتور مرسي في التعبير عن إخلاصه واعتزازه بصداقة هذا الكيان الذي أقيم بالقوة فوق أرض فلسطين وعلى حساب حقوق شعبها فيها، والذي قاتل العرب، ومصر في الطليعة منهم، على امتداد ستين عاماً، وما يزال يقاتلهم على حقهم في مستقبلهم فوق أرضهم.
لقد أثبت حكم «الإخوان» كفاءة نادرة في تحويل المحايدين من جماهير الشعب المصري إلى خصوم، وفي سرعة قياسية، كما خسر بالسرعة ذاتها ثقة القوات المسلحة التي وجدت نفسها في مأزق قد يجرها إلى التصادم مع أهلها، إذا استمرت في موقفها «المحايد»، فحاولت التنبيه وأكــثر من مرة، فلــما وُوجهــت بالرفض المتكرر لتحذيرها من أن السياسة المعتمدة ستغرق مصر بدماء بنيها تحركت لمنع الكارثة… متحملة مخاطر اتهامها بالرغــبة بالاســتيلاء على الحكم وإعادة العسكر إلى السلطة. ولعل استنفارها الشعب ودعوته للنزول إلى الشارع، يوم الجمعة الماضي، كانت تعكس رغبتها في إظهار القرار بإسقاط حكم «الإخوان» وكأنه تجسيد للإرادة الشعبية وليس انقلاباً عسكرياً.
هل انتهت فرصة «الإخوان» في العمل السياسي كحزب له جماهيره ومن حقه أن يشارك في الحياة السياسية في البلد الذي شهد ميلاده كتنظيم قبل خمس وثمانين سنة، ثم شهد خيبته في إقامة حكم رشيد حين أتاحت له الأقدار أن يقفز إليه في غفلة من القوى الأخرى، وفي ظل تفرقها وعدم توحدها في جبهة مؤهلة لقيادة البلاد في هذه المرحلة الحرجة من تاريخها؟
هذا سؤال متروك لقدرة «الإخوان» على استيعاب دروس التجربة المرة واستخلاص النتائج الصحيحة. أما العرب في مختلف ديارهم فإنهم يتابعون أخبار مصر بقلق، متمنين أن تتجاوز مصاعب المرحلة الانتقالية وأن تنجح في إقامة الحكم الرشيد الذي سيكون الفضل في بلوغه إلى صمود الشعب في الميدان، حارساً لحقوقه ومطالبه طوال ثلاثين شهراً من التضحيات.
حمى الله مصر.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية