في حين يشكو اللبنانيون من خواء الحياة السياسية في وطنهم الصغير المحاصر بمناخات الحرب الأهلية العربية التي تكاد تنسينا العدو الإسرائيلي أو تشغلنا عنه، فإن الأشقاء العرب يحسدونهم على الحيوية السياسية التي يتمتعون بها. وتتزاحم الفضائيات العربية ـ عادة ـ وهي تستفتي أو تستنطق «المراقبين» في بيروت، وهم في الأغلب الأعم من الصحافيين، حول لقاء بين «قطبين» أو تيارين أو حزبين سياسيين، ومدى تأثيره على معركة الرئاسة المنومة بقرار دولي ـ عربي منذ سنة ونصف السنة حتى إشعار آخر.
أبرز دلالة لهذا الاهتمام المبالغ فيه بالحياة السياسية (وتطوراتها) في لبنان هو تشوق الإخوان العرب إلى حياة سياسية ما في أقطارهم حتى لو كانت فولكلورية، كما في بيروت، تنسيهم ولو للحظات، مآسي الحروب الأهلية التي تلتهم نيرانها حاضر بلادهم وتهدد مستقبل أهلها، بل ووجودهم فيها.
ذلك أنه على امتداد الوطن العربي فوق المساحة الهائلة بين اليمن والمغرب الأقصى يسود نوعان من الأصوات:
ـ أصوات الحكام ووزرائهم وأجهزة إعلامهم وهي تشهّر بحكام عرب آخرين.
ـ أو صدى التفجيرات، هادمة العمران وعمليات الاغتيال الجماعي والمصادمات الدموية بيــن الــقوات المــسلحة للنظــام والمعارضات المســلحة ســواء «الوطنــية» مــنها أو «الأممية»، مثل «داعش» و «النصرة» المتفرعة عن «القاعدة».
في ما عدا ذلك وفي الفاصل بين هذه الأصوات، يسود صمت عميق لا يخترقه إلا تشييع الجنازات وعويل المشيعات والمشيعين وصور التدمير العشوائي الذي يطال المؤسسات الرسمية والأملاك الخاصة ويحصد أعداداً متزايدة من الضحايا، رجالاً ونساء وأطفالاً.
وباستثناء تونس التي حاولت قوى العهد السابق بالشراكة مع «الإسلاميين» الذين انتبهوا إلى خطورة التورط في استلام السلطة فتراجعوا واكتفوا بشراكة قابلة للتعديل في ظل تراجع الأحزاب الأخرى أو تشققها، فإن الشعوب في سائر أقطار الوطن العربي تبدو وكأنها قد خرجت أو أُخرجت من الحلبة السياسية ليسود الفراغ ممثلاً بالحزب الواحد الذي لا يعني غير تفرد «الشخص» بالحكم، وإن هو حاول تمويه هذا التفرد بجبهة سياسية تقام ـ بقراره ـ على عجل، للتخفيف من حدة قراره بمصادرة الحياة السياسية.
هكذا تتبدى صورة ما كان يسمى «الوطن العربي» أشبه ببحيرة من دماء أبنائه، بينما تعبث بأمنه، وفي مختــلف الأرجــاء، عصــابات إرهابــية هائلــة التسليح تــرفــع الشــعــار الإسلامي، «القاعدة» بداية ثّم «الدولة الإسلامية» (داعش) مــعززة بخليفتــها العراقي، وبينهما العشرات من التنظيمات العسكرية المحلية العاملة لإسقاط هذا النظام أو ذاك في المشرق أو المغرب (حتى لا ننسى ليبيا وما يجري فيها ولها).
على هذا فلا حياة سياسية في مختلف أرجاء الوطن العربي: اندثرت الأحزاب القومية واليسارية عموماً، والشيوعية خاصة، ولحقت بها الأحزاب الوطنية التقليدية («الوفد» في مصر كنموذج، الأحزاب اللبنانية غير الطائفية) وبُعثت من الماضي تنظيمات ومجموعات متطرفة تحمل الشعار الإسلامي كـ «الإخوان المسلمين» والمشتقات التي تموه الاسم وتحتفظ بالمضمون ذاته.
في المقابل، فإن التنظيمات أو التجمعات الشبابية التي استولدتها الانتفاضات الشعبية في مصر خاصة، وفي تونس وأنحاء أخرى من الوطن العربي، والتي كان سلاحها في التحرك والحشد وسائل التواصل الاجتماعي، قد عادت إلى الظل محبطة، أو متحوطة خوفاً من المطاردة البوليسية التي لا تتردد عن اتهامها بالتآمر على النظام والعمل السري لمصلحة الخارج.
تّم إقفال الشارع العربي، وبالدم أحياناً، خوفاً من انتفاضات جديدة يستولدها عجز الأنظمة الجديدة التي صادرت الحكم باسمها وأحياناً بشعاراتها، وانزوى ثوار الميادين في كنف اليأس، أو حزموا حقائبهم سعياً إلى الهجرة إلى بلاد ليست بلادهم حيث يمكنهم الاحتفاظ بلقب «ثوار المنفى». والمنفى ليس مكاناً محايداً، بل فيه أجهزة مخابرات أجنبية وجواسيس للنظام الذي صادر الانتفاضة. وتدريجياً، يذهب الثوار إلى الصمت في ظلال الخيبة ويطلقون العمل السياسي محتفظين بالذكريات المرة للانتفاضة التي عزّ عليـــها الانتصار.
ربما لهذا كله تكتسب «الحياة السياسية في لبنان، وهي خاوية من أي مضمون تغييري، وهجها الإعلامي، لأن الإعلام هو المصدر الأساس لوجودها واستمرارها، مع وعي الجميع أنها نوع من الفولكلور الرديء لا روح فيه ولا صلة له بالمستقبل، كما أنه مقطوع الصلة بالماضي، يوم أن كان في لبنان (كما في أقطار عربية أخرى) أحزاب سياسية ونقابات عمالية وتنظيمات طلابية.
وصحيح أن بعض هذه الأحزاب والتنظيمات كانت على صلة بمثيلاتها في أقطار عربية، أو فروعاً للحزب الواحد («البعث» و «حركة القوميين العرب» أو الحركة الشيوعية) لكن ذلك جميعاً قد اندثر ليستقر في ذاكرة التاريخ. بل إن أولئك الحزبيين الذين كانوا بمجملهم «تقدميين» قد ضربهم اليأس فانقلب بعضهم على ما كانه مرتداً إلى طائفته أو مذهبه، في حين غادر الكثير منهم موقعه الوطني والقومي، ليلتحق بـ «داعش» ـ أي «دولة الخلافة الإسلامية في العراق والشام»، انتقاماً من ماضيه باغتيال مستقبله.
أما في لبنان فإن معظم الأحزاب، أو أقواها، إذا ما شئنا الدقة، ذات منبت طائفي، تغذيها النكاية أو تأكيد الذات مقابل القوى الطائفية الأخرى، وهذا ينطبق على المسلمين والمسيحيين (فـ «حركة أمل» و «حزب الله» من الشيعة بالمطلق، و «تيار المستقبل» فضلاً عن تجمعات الإسلاميين المدنيه هي للسنة، و «القوات اللبنانية» و «الكتائب» و «التيار العوني» هي للموارنة، «الحزب التقدمي الاشتراكي» للدروز، وإن ادّعى الجميع أنهم «علمانيون» أو أنهم دعاة لعلمانية الدولة! وهوادّعاء سيثبت بطلانه مع التطرق ـ مثلاً ـ إلى طائفة الرؤساء، أو إلى قانون الانتخابات أو إلى توزيع مواقع الفئة الأولى في الإدارة الرسمية على الطوائف.
ومن اللافت أن تتحمس بعض الدول العربية، التي تحكم بالشعار الإسلامي، مرفوعاً فوق سرايات الحكم فيها للأكثر تعصباً من القوى السياسية في لبنان، مسيحية بالأساس، أو ذات توجه مذهبي، وبذريعة مواجهة خطر الاجتياح الإيراني، وهي تقصد التنظيمات السياسية الشيعية، و «حزب الله» على وجه التحديد.
ومعروف أن توظيف الطائفية في العمل السياسي «تقليد لبناني عريق»، لأن النظام السياسي في لبنان قائم على التوازنات الطائفية، والتي يتم توزيع الرئاسات الثلاث على أساسها، وكذلك الوزارات والمقاعد النيابية والإدارات العامة وصولاً إلى «المياومين».
وبالتالي، فلا يمكن أن يكون النظام السياسي في لبنان نموذجاً يحتذى في بلاد كانت قد تجاوزت «الدين» ـ نظرياً – عبر عقيدته أحزاب ينص برنامجها السياسي على العلمانية ومحاربة الطائفية أو المذهبية واستبعادها عن الشأن السياسي وبالتالي عن الحكم.
مع ذلك، فإن معظم العرب «يحسدون» لبنان على الحيوية السياسية التي تملأ الصحف والإذاعات والشاشات مع أنها في مضمونها لا تعكس أي حيوية، بل لعلها تفضح الخواء السياسي فيها، لأن اللغة «سياسية» أما المضمون فطائفي بحت. ولولا ذكريات الحرب الأهلية، بمرارتها الثقيلة، لتسببت هذه «الحرية» الفالتة من أي عقال في حرب أهلية جديدة.
إن الحياة السياسية في لبنان نوع من الفولكلور، مثل الدبكة والتبولة والكبة النية، أما المؤثرات الفعلية في صناعة الرؤساء والوزراء والنواب فمصدرها الأصلي هو «الخارج» مباشرة أو عبر سفاراته وممثلياته الديبلوماسية في لبنان، مضافاً إليها صوت الطرف العربي الأقوى في هذه اللحظة…
وعلى هذا، فلا حياة سياسية في لبنان مهما علا ضجيج التصريحات وفصاحة البيانات والردود «الحربية».
وفي كل الحالات، فإن لبنان ـ بنظامه السياسي الطوائفي ـ ليس النموذج المرتجى لمستقبل الحياة السياسة العربية، بشعارات التغيير المدوية والمعبِّرة عن الاحتياج الفعلي لتغيير جذري يتجاوز الشكل إلى المضمون.
ولنتذكر دائماً أن «الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم..».
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية