… وجاء التغيير بأسرع من المتوقع فدهم الثوار المطالبون به بدمائهم قبل ان يكونوا قد اعدوا أنفسهم لـ«اليوم التالي»، فإذا «السلطة» معلقة في فضاء «المرحلة الانتقالية» التي قد تكون جسر العبور الى «النظام الجديد» كما قد تكون امتداداً بالمؤقت للنظام الذي أسقطت الثورة رأسه وبقيت كتلته العظمى قائمة تظهر التماوت في انتظار ان تهدأ أمواج الغضب فتعيد سيرتها الأولى لتعذر وجود البديل، أقله في اللحظة الراهنة.
ولأن أهل النظام العربي يجتمعون في حلف غير مقدس فقد تصدى من افترض نفسه في مأمن من «الثورات» يستحث الإدارة الاميركية على التدخل لوقف المد الثوري، وحاولت فعلاً، لكنها حين تبينت أن الأمواج أعلى من ان تستطيع صدها لجأت الى الخيار الثاني: محاولة استنقاذ «النظام» عن طريق التضحية برأسه، والسعي الى احتواء حركة التغيير بتبني مطالبها «الديموقراطية» بوصفها «ام الديموقراطيات» في العالم اجمع..
فإذا كانت الإدارة الاميركية هي مصدر الشهادة لأي نظام بالديموقراطية فلها، بحكم الولاية الشرعية، ان تقرر حجم التنازلات التي لا بد منها، ومن يبقى، ومن يذهب، وإلى أين يذهب، ومن يقفز الى الحكم ممثلاً للثورة في اجتياز الامتحان الديموقراطي بنجاح.
بعد انتفاضة تونس وإسقاط الطاغية زين العابدين بن علي جاء وكيل وزارة الخارجية الاميركية جيفري فيلتمان، فالتقى من افترض أنهم «البديل الجيد» ومنحهم تزكيته، ورجع مطمئناً، ليفاجأ بأن شباب الانتفاضة يرفضون خياره ويواصلون حركتهم المباركة في اتجاه إعادة صياغة كاملة للنظام، تحقيقا لتصورهم الذي لم يكن مكتملاً، فكان لا بد من السير اليه بخطوات قصيرة في قلب الحذر.
أمَّا مع تفجُّر مصر بالثورة، واعتصام شبابها في الميدان حتى إسقاط النظام، فقد تدَّخل الرئيس الاميركي باراك اوباما شخصياً، وظل على الخط مع الرئيس المرفوض، يحاول إقناعه، بينما واصل أركانه الاتصال مع قيادة القوات المسلحة حتى إعلان القرار «بتنحي» الرئيس… وكانت تلك ذروة المحاولات لاستنقاذ النظام واسترضاء الثورة بقطع «رأسه» لعل ملايينها ترضى فتخلي الميدان لوهم الانتصار الناقص. لكن الحيلة كانت مكشوفة فرفضها الثوار، ولسوف تتكرر الحيل بإسقاط الرموز الفاقعة للنظام مهما كان عددهم، فالمهم ان يبقى النظام كنهج في الحكم بسياساته المرفوضة جميعاً.
فواشنطن تدرك جيداً ان ثورة مصر ستزلزل النظام العربي القائم تحت حمايتها في معظم الدول العربية مشرقاً ومغرباً.. ثم انها رأت، بالعين المجردة، تداعيات هذه الثورة على الاوضاع في الجزائر والمغرب، قبل ان تتفجر المذابح الجماعية التي اندفع الى ارتكابها الحاكم بأمره في ليبيا، مهدداً شعبه بحرب اهلية لا تنتهي، تشمل الى التجويع، تدمير منابع النفط وإعادة تقسيم البلاد الغنية بثراوتها الطبيعية وبالتاريخ النضالي المجيد لشعبها ورمزه العظيم عمر المختار.
…وها هي الانتفاضة الشعبية العارمة تتواصل في اليمن ضد رئيسها- الخليفة – شيخ مشايخ القبائل أمير المؤمنين علي عبد الله صالح الذي يرفض مغادرة موقعه بسلام، وإن كان تنازل عن التجديد وكذلك عن التوريث، مفترضاَ انه بذلك قد يشتري رضا شعبه فيبقى، وقد يحفظ الوحدة بين الشمال والجنوب، وهي التي كلفت الكثير من الدماء.
كان ذلك كله قبل تفجر الغضبة الشعبية في البحرين ضد الشيخ الذي صير نفسه ملكاً، والذي استهان بتاريخ النضال المجيد لشعب الجزيرة الصغيرة، والذي كان «النوارة» في كل منطقة الجزيرة العربية بسبقه الى التعليم وإلى التنظيم النقابي ثم الحزبي، وبرفضه الهيمنة الأجنبية او الالتحاق بشاه إيران وظل يعلي راية العروبة من حول القاعدة العسكرية البريطانية التي تحولت مع سيادة العصر الاميركي الى مركز القيادة المركزية للأساطيل الاميركية التي تتولى «حراسة» منابع النفط وممراته، وبالتالي «الدول» الواقعة في المسافة الفاصلة بينها.
[[[[[[
كل الوطن العربي يتغير، وأهل النظام العربي يتهاوون ويسقطون، ولكن الانتفاضات المجيدة تفاجأ بأنها لا تملك خريطة للتغيير، وبالتحديد لمرحلة ما بعد الطغيان.
ذلك ان أهل النظام العربي قد ألغوا بدائلهم المحتملة، وهكذا فقد تترتب على خلعهم نتائج لم يتوقعها او لم يتحسب لها أهل الانتفاضات، وبينها التدمير المتعمد او التلقائي للدول. وها هو النظام الليبي يكلف «الوريث المحتمل» بأن يوجه إنذارا صريحاً، وعلى شاشات الفضائيات، بتدمير البلاد في حرب أهلية لا تنتهي.
لقد دمر أهل النظام العربي الدول التي حكموها وأفرغوها من أي مضمون يتصل بحقوق أهلها فيها.
كان الحاكم الفرد هو الدولة جميعاً… ولعل النموذج الفاقع كان معمر القذافي الذي ألغى الدولة تماما. صار وحده الدولة، ولا مؤسسات الا ما ابتدعه من أشكال التنظيم وإلا ما أقطعه لأبنائه من مواقع السلطة ومراكز الإنتاج.
حتى في الدولة الأعرق، مصر، همش الطغيان الدولة وأفرغها من مضمونها: نصب على إداراتها ومرافقها مجموعة من المنافقين والنصابين والانتهازيين المحصنين بالولاء، ومر الزمن بطيئاً فالتهموا امكانات الدولة وباعدوا بينها وبين الشعب حتى انكرته فاضطر لان ينزل بنفسه الى الميدان لكي يحاول استعادتها.
وفي اليمن، التي بالكاد عرفت معنى الدولة، ثار الشعب ضد طغيان حاكمه ونزل الى الميدان، لكنه سيواجه مشكلة كبرى ان سقط الحكم لان الثائرين لا يملكون بديلاً واضحاً. فما هو الجامع المشترك بين القبلية والاشتراكية، بين الجمهورية والإمامة، وبين العصبية المذهبية ووحدة الدولة.
في البحرين التي حاول نظامها الملكي الطارئ ان يقدم نفسه بصورة عصرية ولكنه لم يستطع ان يتخلص من عقدة «الأقلية» فاتهم «الأكثرية» بالولاء لإيران ليبرر قمعها… مع أن هذه الأكثرية قد رفضت، ربما قبل مولده، ادعاء إيران بتبعيتها لها في استفتاء شعبي أجرته الأمم المتحدة، مغلبة عروبتها ووطنيتها على انتمائها المذهبي.
مع ذلك فالأمر في البحرين أسهل اذ ان شعار الثورة تحويل نظام الحكم الى «ملكية دستورية»، لكن مثل هذا المطلب سيجابه برفض مطلق من قبل أنظمة الحكم المطلق القائمة في الجوار، التي زينت ذاتها بأشكال دستورية، لكن السلطة بقيت في أيدي مجموعة قليلة من أصحاب السمو الملكي والمعالي الذين يملكون الأرض ومن وما عليها.
[[[[[[
وسط فوضى التغيير هذه، تتقدم الإدارة الاميركية، التي كانت ترعى مجموع هذه الأنظمة المتهاوية وحكامها، لتطرح البدائل بمنطلق العمل لتحديد خسائرها وربط علاقة ما مع حكومات التغيير الجديدة.
ومن اجل هذه الغاية فهي تجرب أساليب متعددة، بينها:
÷ سحب اليد من الأنظمة المتهاوية والمبادرة الى احتواء الانتفاضات في محاولة مكشوفة للفصل بين الطاغية المحلي والمهيمن الأجنبي.
÷ تصوير الترابط بين القضايا العربية وبين الرغبة في التغيير في الداخل وكأنه اشغال للانتفاضة بما لا يعني شعبها، وليس من اولوياته: ما لنا وفلسطين؟! ما لنا ولبنان؟! ما لنا والعراق؟! ما لنا واليمن والبحرين؟! تكفينا همومنا فلننصرف الى مشكلاتنا الثقيلة في الداخل ومتى استقرت أوضاعنا نلتفت الى الآخرين لنرى ان كان بوسعنا مساعدتهم.
هنا لا بد من مواجهة أسئلة تفرض نفسها ومنها:
هل هي مصادفة ان كل هؤلاء الطغاة الذين يتوالى سقوطهم كانت واشنطن مرجعيتهم، وكانت لأنظمتهم علاقة ما بإسرائيل، معلنة أو مستترة؟
ثم، الا يلفت النظر والاهتمام هذا الارتباك الظاهر في دوائر الحكم في اسرائيل تجاه هذه الانتفاضات العربية المتلاحقة، التي لم تستطع بعد ان توصل زخمها الى ميدان العمل الوطني الفلسطيني.
وانها لمفارقة لافتة ان يعيش الإسرائيليون ليالي القلق وأن ينكبوا على دراسة هذه الانتفاضات العربية وتأثيراتها المحتملة على الدولة التي قامت بالاحتلال والتي تعمل على تمكينه وتوسيع رقعته حتى يشمل الأرض الفلسطينية جميعا، مستفيدة من حال الانسحاق العربي، في حين تتابع التنظيمات الفلسطينية صراعاتها التافهة على سلطة تذهب بالوطن والقضية، بينما هي مركز الاجماع العربي العتيد ومصدر قراره؟
المفارقة الثانية ان تتجرأ الإدارة الاميركية، بينما العرب يعيشون عصر انتفاضة متعاظمة ومؤهلة لان تسقط واقع المهانة والذل، فتتصدى لتواجه بحق الفيتو في مجلس الأمن مشروع قرار تافه يدين توسع الاستيطان الإسرائيلي في الأرض الفلسطينية المحتلة!
لم يكن قراراً ضد وجود إسرائيل او ضد توسعها على حساب ما أعطي للفلسطينيين من أرضهم، بقرار سابق من مجلس الأمن ذاته، او ضد القرار العنصري الجديد باعتبار إسرائيل دولة يهود العالم، والذي يفرض على مليون وربع مليون من أهل فلسطين الذين صمدوا في أرضهم التي انتزعت منهم، ان يقسموا يمين الولاء للدولة التي تلغيهم وتسقط حقهم بأن يكونوا بشراً فضلاً عن أن يكونوا «مواطنين» ولو من الدرجة الثانية او الثالثة!
مع ذلك فقد شهرت واشنطن الفيتو بوجه كل العرب فابتلعوا ألسنتهم وأطاعوا..
[[[[[[
ان الآمال ما تزال معلقة على «الميدان»، على وعي شباب ثورة مصر وعلى تنبههم الى المحاولات الخبيثة لاحتواء حركتهم المباركة، ومساومتهم على أهدافهم وتعزيز النزعة المحلية عندهم عبر إيهامهم بأن لا شأن لهم بما يجري من حولهم في الأرض العربية، وأن الالتفات الى الشؤون العربية قد يشغلهم عن إنجازهم الوطني التاريخي.
لقد أكدت ثورة مصر معززة بانتفاضة تونس قبلها، وبالانتفاضات العربية المتوالية في المشرق والمغرب بعدها، ما كان ثابتاً في اليقين: ان المصير العربي واحد، وأن النهوض العربي عملية متكاملة، وأن لمصر دورها الذي لا غنى عنه، وأن العرب ليسوا مجرد عبء، بل هم قد يكونون مصدر حماية ومصدر دعم لثورة مصر التي يرون فيها مستقبلهم.
وكلمة الحسم تبقى لثوار مصر: الاستمرار حتى إسقاط النظام، كل النظام، فإن أنجزت هذه المهمة في مصر اطل الغد العربي بهياً في مختلف أنحاء الوطن العربي الكبير.
… وإلا أمكن احتواء الانتفاضات وخنقها بالإقليمية والجهوية والتنازلات الشكلية والضغوط الاميركية والتهديدات الإسرائيلية، وعادت الأنظمة القديمة وقد غيرت اعلامها لتلغي الغد العربي «فيجيء حسن الجحش بديلاً من حسين الجحش» وتتوالى المأساة فصولاً.
ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية