بقدر ما يتزايد عدد المطبوعات السياسية، صحفاً يومية ومجلات أسبوعية، في مختلف أنحاء الوطن العربي، مشرقاً ومغرباً، تكاد تختفي الحياة السياسية حتى الاندثار، وتنطوي الصحف التي كانت مؤثرة في القرار السياسي أو عليه على ماضيها وهي التي كانت تبشّر بالأحداث الكبرى أو تشرحها لتبررها، سواء أكانت انتصارات أم هزائم.
في ماضي الزمان العربي، وحين كان للعرب دور مؤثر في السياسة الدولية، كانت القاهرة هي مركز الحدث في الوطن العربي جميعاً، سواء بالفعل أم برد الفعل، بل إن تأثيرها كان يتجاوز الحدود العربية وترصد صحفها بعنوان «أهرام» محمد حسنين هيكل، أساساً، لقراءة الحركة السياسية، باحتمالاتها وتداعياتها، ليس داخل مصر فحسب، بل في مختلف أرجاء الوطن العربي، وانطلاقاً من أن قاهرة جمال عبد الناصر هي مركز القرار عربياً، والباقي ردود فعل بالموافقة أو بالاعتراض.
وحتى في أيام أنور السادات ظلت القاهرة هي المركز، ولو إلى حين، وإن اختلفت الوجهة السياسية للقرار… برغم الانشقاق العريض الذي صدع الموقف العربي وحوّله مواقف متواجهة كادت في لحظات معينة تفتح الباب لحروب عربية ـ عربية (بين مصر وليبيا، كما بين سوريا والعراق وإن لأسباب مختلفة…).
أما بعد فتح مسار الصلح مع العدو الإسرائيلي (كامب ديفيد) فقد تعدَّدت مراكز القرار، عربياً، وتم تجاوز الثوابت التي كانت معتمدة، ولو نظرياً، فإذا بعراق صدام حسين يشن الحرب على إيران الثورة بقيادة الخميني، وإذا بالعدو الإسرائيلي يقتحم حدود لبنان الجنوبية وتصل قواته إلى قلب العاصمة بيروت، مروراً بالقصر الجمهوري في بعبدا… وعلى الطريق بينهما ترتكب بعض الميليشيات الطائفية وتحت تغطية النار الإسرائيلية مذبحة صبرا وشاتيلا في بعض مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، بعد «طرد» القيادة الفلسطينية من بيروت ومعها قوات الفصائل المسلحة التي أبعدت إلى أقصى حدود الوطن العربي غرباً وجنوباً، وصولاً إلى اليمن.
كانت بيروت، بعد القاهرة ومعها، عاصمة الإعلام والثقافة عموماً… بل إنها اعتبرت، ذات يوم، مكبر الصوت، أو الناشر والشارح والمترجم لسياسات مصر جمال عبد الناصر. أما بعد غيابه فقد اجتهد كل من صدام حسين ومعمر القذافي وبعض الخليج (فضلاً عن ياسر عرفات) لاتخاذها منبراً، لكن الأحوال كانت قد اختلفت جذرياً، وتعاظمت الخلافات العربية حول مركز القرار وأدوار الدول فيها، ما سهل لـ «الأغنى» أن يتقدم ليقاسم «الأقوى» الدور السياسي… تمهيداً لأن يحاول احتكاره في وقت لاحق، وإن ظلت لسوريا حافظ الأسد حصانة مميزة، برغم فقرها، خصوصاً أن الحنكة السياسية وحسن قراءة خرائط الاستراتيجيات الدولية كانت أشد تأثيراً من الذهب. وكان من نتيجة ذلك أن دمشق قد نجحت في توظيف بيروت في خدمة مشروعها السياسي، متجاوزة بذلك «فقرها» المادي بدهاء قيادتها السياسية.
أما اليوم، فإن عاصمة الإعلام العربي قد صارت إلى أهل الذهب في الجزيرة والخليج، قبل الحديث عن مدى تأثيره السياسي، وما إذا كان في مصلحة وحدة الأمة ومشروعها السياسي العتيد أم أنه يناقض في التوجه والممارسة هذا المشروع، ويقلب المعادلة فيقزم دور الكبير (كمصر) ويعظم دور الصغير (كقطر)… ويلغي قيماً ومفاهيم كانت في طريقها إلى الرسوخ ليحل محلها سياسات طالما كانت موضع اعتراض من قبل «الجماهير العربية»، يوم كانت تملأ «الشارع» بهتافاتها المدوية وشعاراتها ذات الرنين المطرب كالوحدة والحرية والاشتراكية، فضلاً عن تحرير فلسطين.
إن في الوطن العربي اليوم، وخلافاً لما كان بالأمس القريب، أكثر من 320 مطبوعة سياسية، يصدر ـ أو كان يصدر ـ أكثر من نصفها في سوريا، تمشياً مع النظام الحزبي الذي له صحفه المركزية ثم صحفه الجهوية، ثم الصحف المتخصصة (الشباب، المرأة، العمال، الجامعات، الجمعيات التي تشكل عصب الحزب… الخ.) وحوالي مئة مطبوعة بين يومية وأسبوعية ومتخصصة في اليمن، تليها المغرب (28 مطبوعة) فالجزائر (23 مطبوعة) فالكويت (22 مطبوعة) فالبحرين (6 مطبوعات) فقطر (4 مطبوعات) تليها تونس (4 صحف) وانتهاء بعُمان (3 صحف).
هذا بالطبع عدا المواقع الإلكترونية التي باتت تستعصي على الحصر، في المشرق كما في المغرب، على حد سواء. على أن تزايد عدد الصحف والمجلات ومعها المواقع الإلكترونية لا يعكس بالضرورة حيوية سياسية، ولا يعبّر عن احتدام الصراع السياسي، بل إنه يعبّر، في الغالب الأعم، عن الضياع السياسي وعن الافتراق والتنافس داخل «الخط الواحد»، بعدما انقسم هذا الخط على نفسه وتم تشتيت القوى التي كانت ذات يوم موحدة في تنظيم واحد أو مؤتلفة في «جبهة وطنية».
وعلى سبيل المثال، فإن الصحف السياسية محدّدة، قانوناً وعرفاً، في لبنان، بحوالي مئة امتياز. لكن ما يصدر، حالياً، من الصحف اليومية هو أقل من عشر صحف، ومعها ثلاث مجلات سياسية. أما الباقي فامتيازات مجمدة لا تظهر إلا في انتخابات النقابة. وعندها فقط تظهر الأرامل أو الأيتام الذين آلت إليهم الامتيازات في «حرب» الأصوات بالثمن.
ثم إن الزعامات وحتى الوجاهات السياسية قد دخلت معركة التحديث في وسائل الإعلام، فصار لكل زعيم أو وجيه أو نجم اجتماعي أو مطرب أو مطربة موقعه أو موقعها الالكتروني، بما يغني عن الصحافة المكتوبة.
الأخطر أن السياسة قد اندثرت في الوطن العربي، بعدما تحولت إلى احتكار لأصحاب السلطة وأصحاب المال، وفي الغالب الأعم للتحالف الشيطاني الذي يجمع بين هؤلاء وأولئك فيلغي دور «الشعب» أو يكاد.
يعني هذا ببساطة إلغاء «الرأي العام»، وبالتالي إلغاء الرقابة الشعبية على الحكم. ولقد كان هذا مفهوماً في عصر الملكيات المطلقة او الزعامة السياسية المفردة. أما الحديث عن الديموقراطية وحكم الشعب بالشعب فمجرد لغو، قبل الإشارة إلى سقوط أسطورة الانتخابات كإحدى وسائل التعبير الديموقراطي عن إرادة الناس.
لا حكم ديموقراطياً في أي بلد عربي… إذاً لا صحافة حرة ولا إعلام حراً في أي بلد عربي. والاستشهاد بالمواقع الديموقراطية وانفلاتها بعيداً عن الرقابة الرسمية هو حديث عن الفوضى الإعلامية أكثر مما هو تأكيد لتعميم مناخ الحرية. فالفقراء قد «يثرثرون» بشعاراتهم الثورية على المواقع، وقد يفيدون منها للتعارف وللتواصل، لكن الخطوة التالية، أي الاتفاق على التحرك بالنزول إلى الشارع مثلاً، وتوحيد هتافات الاعتراض فمرصود ومرصود مرصود… بل إنه يسهّل وصول عسس النظام إلى معارضيه وإفشال تحركهم قبل مباشرته.
على ماذا يدل تعاظم أعداد الصحف في البلاد العربية متزامناً مع تناقص تأثيرها على الرأي العام الذي تساعده ثقافته السياسية، أو ربما إحساسه البديهي بالصح والغلط على التمييز بين المتشابهين، وعلى الاعتكاف وعدم المشاركة في الحياة السياسية، ولو بالرأي؟
إن الصحافة العربية، عموماً، تعاني أزمة مصير.
والعلة في هذه الأزمة لا تكمن في حجم الإنفاق على الصحف أو تناقص حجم الإعلانات (فالصحف الملكية والأميرية وأهل النظام عموماً تطفح بالإعلانات التي تؤكد الولاء والإخلاص في التبعية لأصحاب القرار)، بل هي تكمن في خواء الحياة السياسية، بل انعدامها، ووضع «الرعايا» أمام خيار محدد: إما الخضوع والانصياع لما يقرره أولو الأمر فينا، وأما الدخول في مغامرة ستنتهي بهم إلى الإفلاس حتماً، مع خسارة رصيدهم المعنوي لعجزهم عن إكمال الطريق.
وعنوان الأزمة الوحيد هو: انعدام السياسة في الوطن العربي.
فالسياسة، بمعناها الأصلي، أجلّ من أن تختصر بموالاة أهل النظام أو الاعتراض على أشخاصهم. إنها صراع بالمبادئ والنضال من أجل الغد الأفضل، والشعب بحقوقه الكاملة، وأخطرها أن يكون صاحب القرار في شؤون وطنه، وبالتالي في اختيار النظام السياسي وقياداته التي يراها الأقرب إلى برنامجه العتيد.
أما في بلاد بلا أحزاب أو تنظيمات شعبية قادرة ومؤهلة على النضال من أجل حقوق الناس في بلادهم، فسيظل الملك هو الملك، وهو صاحب الحق بالقرار، ولو خاطئاً.
إن الأنظمة العربية تتشابه إلى حد التطابق، وتكاد تسقط الفروق بين «الجمهورية» منها و «الملكية» و «الأميرية» و…الاتهامات بالدكتاتورية، التي يتبادلها بعض القيادات ضد بعضهم الآخر في حالات الخلاف والتصادم وسرعان ما ينسونها فيبتلعونها في حال «التصالح» و «الوئام» حرصاً على «مصالح الأمة».
العلة ليست في الصحافة، بل في مَن يمتلك الصحافة وسائر أجهزة الإعلام، وهذا يعيدنا إلى قلب الدائرة بالسؤال البديهي: هل الحرية حق بديهي من حقوق الإنسان أم هي منحة من الحاكم لرعيته المخلصة؟
] تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية