تابع المواطنون العرب في سائر ديارهم كما في المغتربات الحراك الشعبي الذي تفجر تظاهرات غضب في شوارع بيروت شارك فيها آلاف من المواطنين.
كان «الصاعق» فيها موضوع «النفايات» الذي توسع ليشمل جوانب المأزق السياسي الذي يعيشه هذا الوطن الصغير، في ظل عجز فاضح للطبقة السياسية الحاكمة (وأحياناً من موقع المعارضة) عن معالجة الأزمات المتعاقبة والمتوالدة من ذاتها، والتي تهدد البلد الجميل بمخاطر جدية لا تجد من يعالجها.
العنوان السياسي المضمر، قبل النفايات وبعدها، يبقى للشلل الذي يضرب الدولة نتيجة الشغور في موقع رئاسة الجمهورية الذي تقارب مدته الخمسمئة يوم بلا موعد محدد أو مرتقب لإجراء انتخابات رئاسية في هذا الوطن الصغير متعدد الطوائف والمذاهب، التي طالما كانت ملاعب او مواقع نفوذ للأقوى والأقرب من الدول العربية وللغرب بقيادته الأميركية مع تأثيرات فرنسية لأسباب تاريخية.
يتصل بذلك أن مجلس النواب معطل بالانقسام السياسي الحاد، وبالتالي فلا جلسات تشريع ولا معالجة لشؤون البلاد على اختلافها، المالية منها والاقتصادية والاجتماعية، بغض النظر عن أن هذا المجلس قد انتهت ولايته منذ أكثر من سنتين وهو لا يلتئم إلا ليمدد لنفسه خلافاً للأصول وقواعد الديموقراطية.
وفي ظل هذا الانقسام السياسي القابل دائماً للتحول إلى طائفي، فإن الحكومة الائتلافية والتي تجمع معظم القوى السياسية ذات الثقل الشعبي ليست موحدة في قرارها، وهي ـ عملياً – تقوم مقام رئيس الجمهورية إضافة إلى صلاحياتها الدستورية. ومن هنا اعتبر بعض الوزراء الموارنة أن «من حقهم» الادِّعاء بأنهم يمثلون رئاسة الجمهورية ولهم حق «الفيتو» على القرارات التي يعتمدها مجلس الوزراء. وهكذا تم تعطيل الحكومة وشلها عن اتخاذ أي قرار، في حين أن أوضاع الدولة جميعاً تعاني من الاهتراء.
الدولة تعيش بلا موازنة، والحكومة «تتحايل» على صرف النفقات، ومن بينها رواتب الموظفين، وكذلك ابتداع الصيغ القانونية لإقرار الحصول على قروض وهبات بينها ما هو مقدم من مؤسسات دولية (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وبعض الدول أو الصناديق العربية) فضلاً عن الوفاء بالتزامات وموجبات لا مجال لإرجائها، وإلا عصفت الرياح بسمعة البلاد والدولة العاجزة.
وصحيح أن النظام في لبنان أقوى من الدولة بما لا يقاس، وانه هو «الأساس» والدولة نتيجة تصبح معها الحكومة تفصيلاً، وأن لبنان عاش، عملياً، لسنوات من دون دولة، بالمعنى القانوني والعلمي «للدولة»، وعاش أيضا بحكومتين، أحياناً، نتيجة الانشقاق السياسي، وبلا حكومة ولمدد طويلة في أحيان أخرى. إلا أن النظام ظل صامداً بما يمثل من قوى دولية وعربية تصونه وتحميه لأنه حيوي جداً لمصالحها في المنطقة عموماً، التي أسقطت عنها هويتها العربية واخترعت لها هوية بديلة هي «الشرق الأوسط.».. وربما يراد أن يكون لبنان نموذجاً لها.
وهذا هدف إستراتيجي يتمثل في إسقاط الهوية الجامعة لشعوب هذه المنطقة التي قسمت دولاً وفقاً لمصالح الدول الاستعمارية بريطانيا وفرنسا وبالتحديد مع نهاية الحرب العالمية الأولى، حيث اعتمدت الطوائف والمذاهب لحماية تلك المصالح وعلى رأسها النفط الذي كانت بشائره الأولى قد أطلت، فضلاً عن الغاية القصوى وهي التمهيد للكيان الإسرائيلي، الذي سيقام ـ بالقوة ـ على أرض فلسطين، باعتماد الدين أساسا لدولته.
في عودة إلى الحراك الشعبي في بيروت، لا بد من الشهادة له بأنه كان سلمياً، وأنه جمع في أفيائه هيئات ومنظمات مما بات يسمى «المجتمع المدني» التي صار له من يرعاه في «الاتحاد الأوروبي» ومؤسسات أميركية للمساعدة وجهات دولية أخرى (ألمانيَّة أساساً وفرنسية بحدود معينة).
معظم هذه الهيئات «شبابية»، وفي قيادات بعضها من اقتبس الخبرة من بعض أشكال النشاط الشعبي ـ الاجتماعي، في دول غربية بعيدة، بغير عنوان سياسي وإن كان مضمونه ـ بالمعنى العام ـ سياسياً.
وكان طبيعياً أن تحاول بعض الأحزاب والتيارات السياسية أن تبادر إلى إثبات حضورها وعدم الغياب عن تحرك يرفع مطالب شعبية محقة، خصوصاً وأن «النفايات» التي ملأت الشوارع وسدت الطرق تحولت إلى «قضية وطنية»، فضلاً عن أنها فضحت الطبقة السياسية جميعاً، بالحكومة العاجزة عن اتخاذ قرار بسبب من خلافات مكوناتها، والمجلس النيابي المقفل بالخلافات السياسية، وقصر الرئاسة الشاغر من شاغله الدستوري (رئيس الجمهورية).
ولقد تفرج الأشقاء العرب على «الديموقراطية» في لبنان، حتى وهي لم تتجاوز «الصورة»، فحسدوا اللبنانيين أيما حسد، وتبارت وسائل الإعلام، الدولية والعربية التي تملك هامشاً ولو ضيقاً للحرية، في نقل هذا الحدث الجلل واستصراح الكتّاب والمعلقين المتفرغين.
وفي حين يشكو اللبنانيون من «عداء» نظامهم لمطالبهم المشروعة، فضلاً عن مطامحهم، باعتباره يوفر فرصة للصراخ في التظاهر (المضبوط) أو في أجهزة الإعلام من فضائيات وصحف خاصة إضافة إلى وسائل التواصل الاجتماعي التي جعلت أسرار الممارسات والسياسات الحكومية مشاعاً مفتوحاً، في حين أنه لا يحل أي مشكلة من مشاكل حياتهم، فإن أشقاءهم العرب المحرومين من حق التظاهر والتعبير عن رأيهم من دون خوف من الاعتقال والتحقيق المهين والسجن بلا محاكمة أو بمحاكمة معروفة أحكامها سلفاً، يجدون في هذه الحرية تزكية للنظام في لبنان ما يجعله أفضل بما لا يقاس من الأنظمة التي تحكمهم وهم محاصرون في قلب الصمت.
وبسبب من القمع المنهجي الذي تمارسه السلطات ضد شعوبها في معظم الأقطار العربية، تصبح هذه الديموقراطية القاصرة في لبنان مطمحاً عزيزاً ومطلباً من دون خرق القتاد خارجه.
صارت تظاهرة، مجرد تظاهرة تخرج في شوارع بيروت، المدينة الساحرة والجاذبة للعرب في مختلف ديارهم حتى كادوا يعتبرونها عاصمة الثقافة والإبداع الفكري والسبق إلى العصر، تفرح الأشقاء العرب قليلاً وتحزنهم كثيراً، لأنهم لا يتمتعون بحرية التظاهر إلا انفجاراً، ولا هم قادرون على التعبير عن آرائهم إلا بالتورية أو بالهمس أو بالصمت يأساً من أنفسهم فضلاً عن يأسهم من أنظمتهم التي قد لا يتذكرون متى قامت ـ وغالباً بالانقلاب العسكري أو بانفجار غضبهم من هيمنة قوى سياسية بالشعار الديني الذي لا يستطيع إخفاء غربتها عن العصر وتخلفها.
إنها تظاهرة بيروت، حتى لو تعددت وتزايد الحشد في التظاهرات المقبلة، السياسية ولو أنها فئوية، تعطي شهادة لنظام عاجز عن تحقيق مطالب شعبه، بل إنه يرفض الاعتراف بوحدة شعبه ويريده أن يبقى طوائف ومذاهب مختلفة، وبالتالي يفرض عليه الخيار بينه وبين الحرب الأهلية.
مع ذلك فإن هذا النظام، رأسمالي المضمون والوجهة، يفتدي أو يبرر نفسه بديموقراطية شكلية، فيسمح ببعض مظاهر الحرية السياسية بمنطق أن «الشعب متعدد الهوية» انطلاقاً من التعدد الطائفي والمذهبي وطمساً للهوية الوطنية الجامعة.
ومع ذلك، وبسبب من بؤس الأنظمة العربية السائدة والتي تقهر شعوبها «بالزعيم القائد» وعصبته، أو بالملك مطلق الصلاحية والذي يتكرم على رعاياه بين الحين والآخر ببعض بعض حقهم في ثروة بلادهم الطبيعية، يتبدى النظام السياسي في لبنان وكأنه التجسيد الأكمل للديموقراطية حيث حق الكلام والكتابة والنشر والنقاش المفتوح على الهواء، عبر الشاشات متعددة الولاءات مع الغرض التجاري بل قبله، متاح لكل من يرغب. فالكلام يذهب مع الهواء، فإذا ما تجاوز الحدود تم قمعه بالوسائل الديموقراطية الحديثة، ذلك أن المعارضة السياسية كما موالاة أهل الحكم تخضع لسقف معروف ومحدد بالتواطؤ الضمني مع القيادات السياسية والطائفية والمذهبية، وجميعها من «الأبناء الشرعيين» للنظام الذي لا يقهر، لأنه محمي دولياً وعربياً، فضلاً عن طوق النجاة الطائفي الذي يعطل حركة التغيير ويمنعها من تحقيق أهدافها.
إن في لبنان عشرات الأحزاب السياسية التي تتراوح منطلقاتها وأهدافها بين الوطنية والتقدمية والدينية والمذهبية. فلكل طائفة حزبها آو أحزابها السياسية، بمن في ذلك الأرمن الذين حافظوا على أحزابهم الأرمنية الأصلية والتي تؤكد على أصولهم وتميزهم من دون الخروج على «الوحدة الوطنية» والدولة في لبنان.
والنظام يبرر نفسه بكونه الحاضنة لمجموعة من الأقليات الدينية والطائفية وذات الأصول المختلفة، وبالتالي فالديموقراطية فيه مختلفة جذرياً بمضمونها كما بممارساتها الفعلية ولا علاقة لها بالديموقراطية كما تشهد لها بل تعيش بها الدول في الغرب والشرق.
ومن أسف أن يكون النظام القائم في لبنان قد باتت له في أذهان المواطنين العرب في مختلف أقطارهم صورة زاهية تشغلهم عن مضمونه، لأن أوضاعهم في بلادهم مزرية، سياسياً واجتماعياً وثقافياً، بحيث يتلقى النظام في لبنان تزكية لا يستحقها، على الأقل في نظر «رعاياه» الذين يعيشون في ظلاله الوارفة، بينما إخوانهم يعيشون خارج العصر تتهددهم رياح الحرب الأهلية بمضمون طائفي أو مذهبي، في ظل أنظمة قمع لا ترحم ومستعدة لتدمير البلاد فوق رؤوس الرعايا المعترضين على قدر الله، والذين حق عليهم العقاب.
ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية