يتقدم الإسلاميون نحو مواقع القرار في السلطة في أكثر من بلد عربي، وإن ظلّت مصر هي ارض المواجهة الأخطر.
وإذا كان قد بات مكرراً ومعاداً القول إن هؤلاء المحازبين لتيارات إسلامية متباينة الشعار والهدف لم يكونوا هم قادة الانتفاضات التي حشدت الملايين في «الميدان»، بل ولم يشاركوا فعلياً فيها إلا في وقت متأخر وفي ظروف ملتبسة، فالواقع يؤكد أن هذه القوى كانت تملك ـ بالخبرة التاريخية – القدرة على المبادرة وطرح برامجها القديمة بعد إعادة صياغتها بما يتلاءم مع اللحظة السياسية الراهنة.
ولقد نجحت التجربة في تونس، حتى إشعار آخر، لأن الإسلاميين وعوا، ومنذ اللحظة الأولى، أنهم لن يستطيعوا احتكار السلطة، حتى لو كانوا الأقوى بين التنظيمات السياسية التي قاتلها النظام حتى شرد مناضليها بين المنافي والمعتقلات وقبور الصمت. وهكذا، لجأوا وبسرعة خاطفة الى إقامة تحالفات مرتجلة ولكنها تؤمن العبور الآمن إلى مشروع النظام الجديد الذي يجري استكماله وسط تفجرات للقلق من هيمنة «الأقوى» في هذه اللحظة، لأنه الأفضل تنظيماً وليس الأجدر بأن يكون «القائد» العتيد لتونس الجديدة.
ولقد تواضع الإسلاميون في ليبيا، بفصائلهم المختلفة، فلم يتصدوا لقيادة البلاد المهددة في وحدة كيانها وقدرة «القيادة» التي استولدها ضغط الخارج (دولياً وعربياً) على تشكيل واجهة سياسية تغطي الاستباحة الأطلسية بالنار، لتلك «الدولة» التي تجتمع لحماية تدفق نفطها الى أوروبا دول العالم كله، بذريعة تلبية نداء العجز العربي الذي أطلقته جامعة الدول العربية وأوصلته الى مجلس الأمن الدولي، فكان ما كان.
أما في المغرب فكان التواضع من جانب العرش، إذ قرر الملك – في لحظة ارتفاع المدّ الإسلامي هذه – أن يستبدل ركيزته السياسية ممثلة، بالأحزاب التقليدية التي دمرتها تجارب تولي السلطة بينما القرار ليس في يدها، بحزب «التنمية والعدالة» الذي ارتضى الدخول في شراكة غير متكافئة، لعل المثل الصارخ على اختلالها صور ولي العهد ـ الطفل وكبار القوم، مدنيين وعسكريين، يتزاحمون على تقبيل يده الشريفة!
ولأن للإسلاميين في سوريا صورة غير محببة شعبياً «بسبب من تجاربهم السياسية الملطخة بكثير من دماء الاغتيالات بالرصاص أو بالتكفير»، في العقود الماضية، فقد اجتهدوا ـ تحت الرعاية التركية – أن يعدلوا في برنامجهم السياسي العتيق، كما في واجهة قياداتهم، بما قد يجعلهم مقبولين أميركياً (ومن أهل النفط)، وقد يدخلهم عصر التغيير من بوابة الديموقراطية.
أما في اليمن فقد وزع الإسلاميون أنفسهم على معسكري الحكم والمعارضة، ليضمنوا لأنفسهم حصة في السلطة، كائناً من كان المنتصر تحت «رعاية مجلس التعاون الخليجي» معززاً بالخوف من تنامي القوى التي تنسب نفسها إلى تنظيم القاعدة الذي يحظى برعاية قوى متعارضة، ويتلاقى على أرض «الجنوب» مع المعارضة العائدة إلى ميدان المطالبة بالانفصال وإعادة جمهورية اليمن الديموقراطية بعاصمتها عدن إلى الحياة في «الجنوب» بعدما كان الظن أن هذا الجنوب قد عاد إلى وطنه الأم في العام 1990 سلماً ثم في العام 1994 حرباً.
على أن الامتحان الأخطر لمشروع الإسلاميين، إخواناً وسلفيين، يبقى مصر ومستقبل السلطة، بل النظام فيها، خصوصاً أن مصر كانت مهد ولادة «الأخوين العدوين» اللذين يصعب تحديد حقيقة العلاقة بينهما، وهل هي علاقة تنافس قد يصل إلى الخصومة أم علاقة تكامل قد تنتهي الى الشراكة في مواجهة القوى المنافسة من «العلمانيين» الذين قد يقتضي التكتيك تكفيرهم، أو أقله فرض الامتحان اليومي عليهم في إيمانهم، أمام مجتمع متدين عامة.
يتبدى للمراقب، خارج مصر، أن الإسلاميين قد نجحوا في إثارة فوضى منظمة في لحظة فاصلة من تاريخ أكبر وأقوى دولة عربية، وبينما يعود شعبها الى الميدان وقد أنهى عصر تغييبه وتهميشه.
ويحار المتابع في تفسير العلاقات الملتبسة بين الإسلاميين ـ بشقيهم – وبين المجلس العسكري، خصوصاً أن تجربة «الميدان» قد كشفت نوعاً من التواطؤ بينهما في مواجهة الشباب الذين فجروا الانتفاضة وقادوا حركتها على امتداد شهور، حفلت بالعديد من المناورات والتحالفات المريبة والمواجهات، ولكنها صبت جميعاً في مصلحة الطرفين، حتى لقد ذهب الظن بالبعض إلى افتراض وجود شراكة من نوع ما، أو تلاق في المصالح يتصل بطبيعة نظام المستقبل في مصر ومواقع الأطراف الفاعلة فيه.
ولقد عزز هذا الانطباع قدر من الرضى الأميركي، بل الرعاية الاميركية، كما ذهب البعض إلى الافتراض، لهذا التحالف أو التكامل، ولو مؤقتاً وبما يخرج شباب الميدان ـ بتلاوينهم الفكرية والسياسية – من دائرة الفعل، مستبقياً لهم شيئاً من التمثيل الرمزي، للتدليل على ديموقراطية التحالف المستجد بين الخصمين التاريخيين: «العسكر» و«الإخوان».
ولقد تأكد هذا التحالف، او فلنعتبره تلاقياً في المصالح، خلال الإنجاز الأول الذي استولد قيصرياً ومشوهاً، وهو الإعلان الدستوري… فقد وضع هذا الإعلان ألغاماً قاتلة على طريق إنهاء النظام القديم، بل ومكن من مد عمره، خصوصاً أنه استتبع بمحاكمة سينمائية للرئيس المخلوع حسني مبارك ونجليه ولأركان نظامه.
لم تكن تلك فترة سماح للنظام القديم برئيسه وأركانه فحسب، بل لقد أمكن خلالها الإفادة من افتراق شباب الميدان، الذين حاولوا استدراك النقص في تنظيم قواهم وتوحيد صفوفهم لخوض الانتخابات التي فرضت مواعيدها وقوانينها قبل إنجاز الدستور.
في ظل هذه الظروف كان طبيعياً أن يحصد الإسلاميون أكثرية المقاعد في المجلسين، وأن ينحسر نفوذ شباب الميدان، وأن تتظهر عوامل فرقتهم وتوزعهم على تيارات متقاربة ولكنها غير موحدة، وأن تتبلور حقيقة كانت مطموسة أو مهمشة وهي أن أجهزة التواصل الحديثة «الإنترنيت» و«التويتر» و«الفايسبوك» لا تُنشئ أحزاباً ولا تنفع قاعدة لجبهة سياسية بين قوة شبابية لا تملك الخبرات التنظيمية ولا هي نجحت في التلاقي على برنامج سياسي موحد يواجهون به جحافل الإسلاميين، إخواناً وسلفيين، الأغنى بالمال والتجربة والتحالفات، في الداخل والخارج.
وفي ظل هذه الظروف كان طبيعياً أيضاً أن تتكشف علاقات لم تكن واضحة للمجلس العسكري ببعض أركان النظام القديم(!) الذي لم يصبح قديماً بعد، وأن يندفع عدد من هؤلاء إلى إعلان ترشيح أنفسهم للرئاسة في ظروف مريبة، ووسط تشجيع معلن (بالصوت والصورة) وإحاطة عسكرية اتخذت شكل تظاهرة الشرطة العسكرية في حماية عمر سليمان وهو ذاهب إلى تقديم ترشيحه.
وبغض النظر عن التطورات المقبلة وكيف ستحسم معركة الرئاسة، وأين سيكون موقع المجلس العسكري ـ أو الجيش – في العهد المقبل، فلا بد من التوقف أمام بعض المظاهر المقلقة، ومنها:
÷ أن الإسلاميين، إخواناً وسلفيين، قد أكدوا أنهم الأكثر استعداداً لخوض هذه المعركة… فهم أصحاب الأكثرية في المجلسين، بما يوحي وكأنهم الأعظم شعبية في البلاد، ويهمش القوى السياسية الأخرى المختلفة عنهم ومعهم فكرياً وسياسياً، لا سيما أن الإسلاميين منظمون ومنتظمون خلف مرشحهم كالبنيان المرصوص.
ثم إنهم الأغنى مادياً، والأكثر كفاءة في إدارة المعارك، بمناوراتها وتكتيكاتها التي لا بد منها، ومما يسهل عليهم الأمر تعدد المرشحين الآخرين، والذين يمكن الطعن في ولائهم للثورة، باعتبارهم كانوا من أهل بيت «الطاغية».
÷ إن سوابق التواطؤ أو التكامل بين العسكر والإسلاميين، منذ بدء الكلام عن تعديل الدستور ثم إجراء الانتخابات، وصولاً إلى إرجاء البت بالدستور الجديد قبل معركة الرئاسة، وبحيث تجري بموجبه، ومن خارج شبهة التواطؤ بين الطرفين، كل ذلك يطلق في الجو شكوكاً وريباً جدية.. حول «مدنية» النظام الجديد وحول ركائز الديموقراطية التي ستعتمد قاعدة له.
÷ في ظل هذه الملابسات من الطبيعي أن تسود فوضى عظيمة في مصر بأرجائها كافة، وأن تتعاظم أسباب قلق المصريين على دولتهم بنظامها الجديد. ومن الطبيعي أن تتسع دائرة القلق، عربياً، لتشمل كافة الأقطار العربية، سواء حيث انتصر «الميدان» أم حيث ما زال في طور التحرك سعياً إلى التغيير.
ولعل الإسلاميين يعتبرون أن وصولهم إلى السلطة الآن، وبعد نضال استمر طيلة عقود، سواء خلال العهد الملكي، أو بعد اصطدامهم بثورة 23 يوليو، ومن ثم عبر «تحالفهم» أو «تواطئهم» مع الرئيس أنور السادات للتخلص من «الناصريين» وصولاً الى «تحالفهم المؤقت» مع مبارك، هو انتصار تأخر الاحتفال به لعقيدتهم ولجهادهم الطويل، وقد حان موعد قطف ثماره الشهية.
ومن حق الوطنيين داخل مصر، والعروبيين في مختلف أنحاء الوطن العربي، أن يقلقوا من هذا الهجوم الإسلامي لاحتكار السلطة فيها مع توجيه رسائل تطمين إلى الأميركيين، وعبرهم إلى الإسرائيليين، في حين أن هذه التيارات الإسلامية لم تجتهد كثيراً في طمأنة شباب الميدان، ومن ثم العرب خارج مصر، إلى ثوابت سياستها الوطنية وأولها فلسطين وهي عنوان المصير المشترك.
..وفلسطين هي العروبة وهي الإثبات القاطع على نجاح الانتفاضة وانتصار الميدان وفتح الباب أمام المستقبل في مصر- الثورة.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية