يعيش البيت الأبيض في العاصمة الأميركية واشنطن حالة من الغبطة في ظل موجة من «الأعياد» والاحتفالات، ذات الأبهة الملكية المؤكدة لنفوذه ونجاحاته غير المحدودة في دنيا العرب، والتي تجيء تتويجاً للإنجازات العسكرية وانتصاراته الباهرة.
سنستبق، هنا، المواعيد الرسمية المقررة للاحتفالات بالعيد الأخطر بدلالاته التاريخية، لنتحدث عن الحفل المهيب الذي سيشهد، أخيراً، الولادة الجديدة للمفاوضات الجديدة على المفاوضات بين حكومة إسرائيل، دولة يهود العالم، وبين «السلطة» التي تكاد تكون في موقع بلدية تحت الاحتلال في بعض البعض من الضفة الغربية لنهر الأردن.
ما علينا من التحديدات الجغرافية.. ان استعادتها في هذه اللحظة قد تعكر الاحتفال المهيب بالإنجاز التاريخي للرئيس الأميركي الأسمر ذي الجذور الإسلامية باراك أوباما، الذي دعا فلبى النداء، رئيس جمهورية مصر العربية، وملك المملكة الأردنية الهاشمية، ليكونا «الشاهدين» على جولة جدية من التفاوض على التفاوض، من أجل إقرار إسرائيل بحق الفلسطينيين الخاضعين لسلطات احتلالها في بعض البعض من أرضهم الوطنية.
إن وجود الشاهدين العربيين الساميين، اللذين سبق لهما توقيع معاهدات الصلح مع إسرائيل وإسقاط وصمة «العدو» عنها، والاعتراف بشرعية وجودها، مع تناسي هيمنتها واشتراطها معاونتها في ضرب «التطرف الفلسطيني» أو السكوت عن ضربه، كما جرى خلال الحرب على غزة قبل عشرين شهراً، سيسهل على إدارة الرئيس الأسمر، كما على رئيس وزراء إسرائيل المندفع في تطرفه الى حيث لا يستطيع مجاراته أي زعيم إسرائيلي طامع بخلافته، «إقناع» رئيس السلطة التي لا سلطة لها على «القبول بالمقسوم» وترك «القضية» للزمن… عملاً بحكمة القائد ـ المؤسس لدولة إسرائيل ديفيد بن غوريون من أن «بعض القضايا لا حل لها بل تترك تشيخ ثم تموت»!!
وبرغم ان الاحتفال سيكون مختصراً وشكليا، أو رمزيا، وأقرب لان يكون مدخلاً الى إعلان نوايا بتفاهم جديد بين رئيس حكومة إسرائيل ـ دولة يهود العالم، بنيامين نتنياهو، وبين رئيس السلطة الفلسطينية، المنتهية ولايته وبالتالي شرعيته الدستورية، رسمياً، والمطعون في تمثيله شعبه داخل الأراضي التي «منحتها» سلطات الاحتلال للسلطة ثم زرعتها بالمستوطنات، بدليل «انفصال» غزه، واعتراض نسبة مؤثرة من فلسطينيي الخارج، إلا أنه سيكتسب أهمية استثنائية لدى الرئيس الأميركي، لأنه سيمكنه من أن يقدم التفاهم الجديد للناخب ومن ثم للكونغرس «كإنجاز تاريخي»، لا يقل خطورة عن اتفاق كمب دايفيد، في عهد كارتر، أو عن اتفاق حديقة الورود في البيت الأبيض بين رئيس الحكومة الإسرائيلية إسحق رابين و«قائد الثورة» الفلسطينية ياسر عرفات، في عهد كلينتون.
والحق أن أحدا لم يفهم السبب في دعوة القائدين العربيين، المصري والأردني، الى حضور هذا الحفل المهيب شكلاً، والمفرغ عملياً من أي مضمون، إذا ما اعتمدنا المعلن رسمياً، أميركياً وإسرائيلياً، حول الهدف منه.
ربما اعتبر المراقبون أن المسؤولين العربيين قد دُعيا ليكونا «شاهدين» على لقاء عبثي، اقتيد اليه رئيس السلطة الفلسطينية بالإكراه، وعجز عن الاعتراض لأنه لا يملك قراره وليس أمامه ـ في المدى المنظور ـ أي بديل.
اللافت أن الوحيد الذي يأتي الى الاحتفال مزهواً بإخضاع الآخرين لشروطه هو رئيس الحكومة الإسرائيلية… وهو قد أعلن أنه «سيدهش المشككين» الذين يتفهم موقفهم، شرط أن يكون «شركاؤنا جديين»!! ثم إنه شدد على أن الاتفاق يجب أن يقوم على ترتيبات أمنية مرضية لإسرائيل، وعلى اعتراف الفلسطينيين بإسرائيل «دولة للشعب اليهودي» وعلى وضع حد نهائي للنزاع! مع انه لم يشر مطلقاً الى وقف التهام أراضي الضفة بالمستوطنات فإنه قد أعلن انه يعلم «أن هناك تشككا عميقا، بعد مرور 17 عاماً على عملية أوسلو… ومن الممكن فهم سبب هذا التشكك».
واذا كانت حاجة أوباما (وكذلك نتنياهو) الى وجود الطرفين العربيين السابقين الى مصالحة إسرائيل مفهومة، فما يظل مستعصياً على الفهم قبول الرئيس المصري والملك الأردني المشاركة في «احتفال» يجري بالشروط الإسرائيلية المعلنة، وفي ظل ضعف الرئيس الأميركي والذي قدم الكثير من التنازلات عن موقفه (الأصلي؟!) لإسرائيل .
قد يقول متفائل: إنه يصعب تصور أن يتجشم الرئيس المصري والملك الأردني عناء السفر الى واشنطن، ثم الوقوف من خلف رئيس حكومة إسرائيل ـ دولة يهود العالم، والى جانبه رئيس «السلطة» الذي يؤتى به كارهاً(؟) من أجل «الصورة» مع وعيه بخطورة الكلفة التي قد يترتب عليه أن يدفعها، فقط من أجل نصرة صديقهما الرئيس الأميركي الأسمر ومساعدته على الفوز في الانتخابات النصفية للكونغرس.
لا بد أن يكون لدى المسؤولين العربيين ما يطمئنهما على مستقبل «السلطة الفلسطينية» بقيادة صديقهما محمود عباس المواجه الشرس ـ ومن خارج الشرعية الدستورية ـ لنزعات التطرف والأصولية التي مكنت حماس من إنجاز «انقلابها» والاستيلاء على غزة بقوة السلاح.
ولا بد أن يكون لدى هذين المسؤولين ما يواجهان بهما شعوبهما، أو، أقله، القمة العربية المقبلة، التي يفترض أن تعقد بعد أسابيع قليلة من احتفالات الاتفاق الموهوم بين دولة يهود العالم وسلطة الشرطة البلدية في رام الله وبعض الضفة… لا سيما أنهما يقفزان بالتحاقهما بهذا الاحتفال في واشنطن من فوق مقررات القمم العربية، وتحديداً من فوق المبادرة العربية.
ولا يدري أحد هل استطاع الملك الأردني عبد الله بن الحسين إقناع الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز بالخلاصات التي انتهى إليها الاجتماع الثلاثي الذي جمعه في القاهرة الى الرئيس المصري حسني مبارك ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس…
… أم ان اللقاء الخماسي الذي دعا اليه الرئيس الأميركي في البيت الأبيض في واشنطن سيكون بمثابة الإعلان عن بدء جولة جديدة من جولات التفاوض على التفاوض بين الإسرائيلي المصفح الآن بالمساندة الأميركية الصريحة، وبالتسليم بالعجز عن الاعتراض، عربياً، وبتلهف المفاوض الفلسطيني الى أي وعد، مجرد وعد، بفتح كوة في جدار الحصار الخانق الذي يقبع خلفه، وهو ينظر بعينين كليلتين الى ذوبان الأرض الفلسطينية.
بقي أن نستذكر أن احتفال البيت الأبيض لن يقتصر على التسليم العربي بإسرائيل دولة يهود العالم بل إنه سيكون مناسبة لإبلاغ الضيوف العرب بالإنجاز الأميركي الخطير الذي اتخذه الرئيس أوباما للتخفيف من حرجهم أمام صور المآسي المرعبة التي تجري في العراق تحت الاحتلال الأميركي.
والإنجاز يتمثل في القرار التاريخي الذي اتخذه الرئيس، ملتزماً وعده، بسحب معظم القوات الأميركية من العراق وتسليم الأمن في هذا البلد العربي الذي ينزف مقومات دولته ووحدة شعبه، الى قوات الأمن العراقية.
فالتزاما بما أعلنه الرئيس الأسمر ذو الجذور الإسلامية، باراك أوباما، من أنه سيسحب قواته المقاتلة من العراق الذي تورط في احتلاله سلفه جورج.و.بوش، فإنه اعتباراً من هذه اللحظة لن يبقي في أرض الرافدين سوى خمسين ألف جندي أميركي نظامي، من الوحدات الخاصة إضافة الى حوالى مئتي ألف من المرتزقة المعروفين بأسماء الشركات المستوردة (وأشهرها بلاك ووتر ـ أي المياه السوداء) … وهذا سيتم، طبعاً، بعد الاطمئنان الى أن آبار النفط ستكون بأمان، وإن تدفقات الذهب الأسود الى الأسواق ستتزايد لتبلغ أربعة إضعاف معدلاتها الحالية.
لولا الخوف من تهمة إفساد «العيد» لجاز السؤال عن مصير شعب العراق في ظل هذا الإنجاز، خصوصاً أن الاحتلال الأميركي قد أكمل ما كان باشره الطغيان الذي حكم أرض الرافدين لست وثلاثين سنة طويلة حفلت بحربين مدمرتين، الأولى ضد إيران التي أسقطت بالثورة الشاه الذي كان يحتقر العرب جميعا ويناصبهم العداء، والثانية ضد الكويت، وهي كانت ذات طابع انتقامي ممن حرضه ودفعه وموّل حربه ضد إيران، ثم تخلى عنه بعدها وامتنع عن مساهمته في إعادة بناء العراق المهدم بالمغامرة.
ولجاز أيضا السؤال عن دولة العراق التي أكمل الاحتلال تدميرها بقدر ما أكمل مهمة بث الفرقة بين أبناء الشعب الواحد والتاريخ الواحد والأرض الواحدة، فصار العراقيون طوائف مقتتلة وعناصر محتربة، وتمزقت وحدتهم الوطنية عبر مقامرات طبقة سياسية كانت خارج وطنها، معظم الوقت، وقد تقطعت جذورها ودمرت علاقات بعضها بالبعض الآخر، فلما فتح الاحتلال الأميركي أبواب السلطة أمامها اختلفت الى حد دفع الإخوة الى الاقتتال عبر افتقاد الهوية الوطنية الجامعة وتدمير روابط النسب والقربى والمصالح الوطنية.
لكنها، في البيت الأبيض، مناسبة للفرح، فلنترك العراق لمخاطر الحرب الأهلية التي تتهدده، وتنذر بتجاوزه الى محيطه جميعاً، وصولاً الى لبنان الذي لما تلتئم جراحه بعد، والذي أخذته الرغبة في «تدويل» العلاقات بين الإخوة الى مهاوي الفتنة بتحريض أميركي (وعربي) مكشوف بذريعة مقاومة النفوذ الإيراني… في حين لم تتوفر مثل هذه النخوة عندما اجتاحت القوات الإسرائيلية أرضه وسماءه ومياهه قبل أربع سنوات في حرب صمد لها شعبه بعزيمة مجاهديه المقاومين لثلاثة وثلاثين يوماً طويلة… ولم تتوقف إلا عندما يئس من التقدم في أرضه لتحقيق أهدافه. وللحديث بقية.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية