قدّر المواطن العربي أن تطوراً خطيراً وغير متوقع قد استدعى أن يستضيف الرئيس حسني مبارك رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو الى مائدة الإفطار الرئاسية في القاهرة، يوم الأحد الماضي.
فليس مألوفاً أن يكون مثل هذا المسؤول الإسرائيلي، ذي التاريخ العنصري المعروف، وصاحب القرارات المتوالية بالمضي قدماً في بناء المزيد من المستعمرات الإسرائيلية لاستقدام المزيد من المستعمرين من أربع رياح الأرض لاحتلال ما تبقى من الأرض الفلسطينية للسلطة البلا سلطة في رام الله، الى مائدة الرئيس المصري، في القاهرة وخلال شهر رمضان المبارك.
ثم ان هذا المواطن العربي لم يستسغ «التبرير الإسرائيلي» لهذه الرحلة والقائل ان نتنياهو قد ذهب الى القاهرة ليطمئنها الى أن جولة وزير خارجيته ليبرمان، صاحب نظرية تدمير السد العالي، في عدد من الدول الأفريقية لم تكن تهدف الى تحريضها ضد مصر، خصوصاً في موضوع إعادة النظر في تقاسم مياه النيل، ولا الى إغواء بعض المسؤولين الأفارقة بالمساعدات العسكرية والخبرات الفنية ـ إسرائيلية وأميركية ـ لمقاومة «الإرهاب العربي» الذي يتمثل بالنفوذ المصري، كما بالنشاط الفلسطيني ( وعنوانه حركة حماس) أو بمناصري «حزب الله» من المغتربين اللبنانيين المتجذرين في القارة السوداء، التي أعطوها كثيراً وأعطتهم حصيلة سني تعبهم الطويلة واجتهادهم في خدمة طموحات شعوبها، وبالاعتماد على القاهرة منذ أواخر الخمسينيات من القرن الماضي.
ولقد كان طبيعياً أن يربط المواطن العربي بين هذه الاستضافة المصرية لرئيس حكومة «دولة يهود العالم»، في شهر رمضان المبارك، وبين الجولة الجديدة للموفد الرئاسي الاميركي ذي الابتسامة البلاستيكية جورج ميتشل، والتي هدفها الجديد ـ القديم محاولة «إقناع»حكومة نتنياهو ـ ليبرمان بوقف مؤقت(!!) لبناء المستعمرات، أو المزيد منها بذريعة مراعاة التوسع الطبيعي في احتياجات المستعمرين الجدد المستقدمين من أربع رياح الأرض، وطرد أهلها وأصحابها الفلسطينيين الذين كانوا فيها مذ كانت، وطنهم وحياتهم، بماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم.
ويمكن، بإحصاء سريع، أن نتبين انه بين كل رحلة لجورج ميتشل والثانية الى المنطقة، بابتسامته البلاستيكية وتصريحاته المكتوبة بالماء، قد ضاع المزيد من نتف الأرض الفلسطينية التي كانت مخصصة ـ نظرياً ـ لمشروع «الدولة الفلسطينية» فوق بعض البعض من أرضهم الوطنية.
ويمكننا، بالتالي، أن نتبين أن عدد المستعمرات الإسرائيلية قد تزايد، وان أعداد المستعمرين الإسرائيليين داخل مشروع تلك الدويلة، وعلى حساب مساحتها المقطعة الأوصال بالمستعمرات قد تعاظم، بحيث صار من المستحيل تصور جلائهم عنها في مستقبل منظور.
لقد تبدلت طبيعة الموضوع، وبالتالي المهمة، وساد انطباع بأن المزيد من جولات ميتشل يعني تزايد عدد المستعمرات والمستعمرين وتناقص مساحة الأرض التي كانت محددة ـ نظرياً ـ لمن سوف يستبقى من أهلها الفلسطينيين فيها.
وبديهي الافتراض أن يواجه الإسرائيليون العرب، وليس فقط الفلسطينيين منهم، متى انتهت مهمة ميتشل، بأنه ليس ثمة ما يستحق التفاوض من أجله، لأن ما كانوا يفاوضون عليه قد «اختفى» بعدما ملأته المستعمرات الإسرائيلية بعشرات ألوف المستعمرين الجدد المستقدمين من أربع جهات الدنيا…
وربما صار الموضوع آنئذ: أين نذهب بفلسطيني الضفة الغربية؟!
وربما صار على الدول العربية المجاورة، وليس على إسرائيل، أن تجيب عن هذا السؤال… خصوصاً أن الأحياء الجديدة التي زرعها الإسرائيليون في قلب القدس العربية، إضافة الى المستوطنات التي أقاموها من حولها، قد ألغت أو تكاد مشروع أن تكون المدينة المقدسة عاصمة «الدولة» التي في ضمير الغيب.
[[[
في الأخبار أن بعض أقطار الخليج العربي قد باشرت، فجأة ودون سابق إنذار، ومن دون إعلان الأسباب، طرد مجاميع من الفلسطينيين، من أبناء غزة تحديداً، من أراضيها (ومعهم بعض المنتمين الى الطائفة الشيعية في لبنان).
وبغض النظر عن الجوانب القانونية والإنسانية لهذا القرار، فإن القراءة السياسية تكشف له أبعادا تتجاوز مشاعر الأخوة وأصول التعامل مع «الوافدين» الذين أعطوا خبراتهم وخلاصة جهودهم وعرقهم للأقطار التي ذهبوا اليها مهندسين وأطباء ومدرسين وإداريين وعمالاً مهرة فساهموا في بنائها وازدهارها وإقامة دولها فوق ما كان رمالاً متحركة فصار من جنات عدن.
إن طرد هؤلاء الفلسطينيين ينتقص من عروبة «الدولة» التي قامت بخبراتهم وعرق زنودهم… بل هو يصيب بالشحوب هويتها التي كانت عربية، والتي أخذت تبهت تدريجاً مع تعاظم النفوذ الأجنبي فيها الى حد إملاء القرارات السيادية عليها، فضلاً عن تعاظم أعداد الوافدين إليها للعمل في بنائها من الأجانب (غير العرب) والذين باتوا يشكلون الكثرة العددية من سكانها.
ليس جديداً أن نتحدث عن الخطر الجدي على هوية هذه البلاد التي كانت وتبقى عربية، خصوصاً إذا ما استذكرنا أن هؤلاء الوافدين الأجانب (وأعدادهم بمئات الألوف) قد جاؤوا من «دول» بعضها قوي بحيث لا يمكن مواجهته، وبعضها الآخر يستقوي بحماية أجنبية هي ذاتها التي تدعي حماية «عروبة الخليج» في وجه المطامع الإيرانية.
إن كل دولة عربية قد وجدت صيغتها الخاصة لطرد فلسطين قضية ووطناً وشعباً مشرداً من أرضها ومن سياساتها وارتباطاتها وتحالفاتها الجديدة مع «الحامي» الجديد الذي يؤمنها من خوف مقابل احتوائها في خططه للمنطقة وأهدافه فيها وأولها حماية دولة يهود العالم، إسرائيل، وتأمينها وتحصينها ضد «جيرانها» في الحاضر والمستقبل.
اللافت أن المواطن العربي يسمع من بعض القادة العرب ما يدعم ويعزز المنطق الإسرائيلي. فالعذر الأساس في عدم قبول الفلسطينيين في أي بلد عربي، وفي أقطار الخليج بالذات، أنهم سوف يخلون بالتوازنات داخل مجتمعاتهم.
الإسرائيلي لا يريدهم عنده (في أرضهم) لأنهم يعكرون الصفاء العنصري لدولته وهم عاجزون عن حماية وجودهم فيها، ثم ان أشقاءهم العرب لا يريدونهم في بلادهم ولو كلاجئين لأنهم يخلون بالتوازنات الطائفية أو المذهبية أو العرقية لدولهم!
إن الإسرائيلي لا يريدهم لأنهم يذهبون بصفاء دولة يهود العالم.
والعرب قد قبلوا بمنطق «دولة يهود العالم»، من حيث المبدأ، فتوجب عليهم المساهمة في قبول «صفائها» العنصري.
ومشروع الدولة الفلسطينية تضيق أرضه على مدار الساعة، وهو ضيق أصلا على أهلها الذين لم يخرجوا منها.
ثم ان إسرائيل «تهددهم» بطرد المليون ونصف مليون من الفلسطينيين الذين تبقوا فيها فلم يخرجوا من أرضهم التي صارت أرضها، وبالتالي فقد تحول هؤلاء الممنوعة عليهم هويتهم الفلسطينية من شهود على حقهم فيها، وشهود على استيلائه بالقوة على أرضهم الوطنية، الى موضع ابتزاز مفتوح، للدول العربية من حول إسرائيل… وهي دول يضيق حكامها بشعوبهم فكيف بشعب إضافي سيأتيهم وقد تعلم في دولة العدو ان له من الحقوق أكثر من «رعاياهم» في «دولهم» المستقلة.. عن شعوبها.
ألا يعرف القادة العرب أنهم كلما تخلوا عن حق فلسطيني في وطنه إنما يتخلون عن بعض سيادتهم على أوطانهم. إنهم لا يفرطون فقط بحقوق مواقعهم التي وصلوا اليها بوسائل عدة ليس بينها الانتخاب، بل هم يفرطون بدولهم ذاتها وشروط سيادتها.
إنهم يمكنون للخطر. إنهم يتنازلون عن حقوق شعوبهم في أرضهم.
إنهم يضيفون الى قوة إسرائيل (والأميركي) فكيف سيفاوضونها وهم أضعف وهي أقوى، وقد أمدوها بمزيد من القوة.
إن ضعفهم وقبل أي عامل آخر سيجعل الأميركي المنحاز أصلا، أكثر انحيازاً.
العجز ولادة لا يكف عن إنجاب المآسي والهزائم الوطنية.
العجز يلد القهر. ويلد احتقار الذات وتعظيم العدو حتى يصير أسطوري القدرات بما يشل التفكير ويعمق اليأس من احتمال الانتصار عليه. ولكي نبرر الاستسلام فلا بد من تعظيم الخلافات مع الأخ الشقيق… وهكذا تقوم أسوار الدم وأسوار الكراهية بين العربي والعربي في مشارق الأرض العربية ومغاربها.
ولا شك بأن العجز عن مقاومة إسرائيل قد استولد شعوراً عميقاً بالمهانة واحتقار الذات.
والقاعدة واضحة: نواجه العدو موحدين أو نختلف من حوله فينتصر على بعضنا بضعفهم، ثم ينتصر على مجموعنا بانقساماتنا.
ألم يكن ذلك الدرس الأوضح والأقسى من حرب أكتوبر /تشرين المجيدة: خرجت مصر من الميدان فاستقوت إسرائيل على سوريا التي غدت وحيدة، فرمتها بكل طاقة القتل والتدمير عندها حتى هزمتها.
بعد ذلك صار سهلاً عليها مواجهة الفلسطينيين، لا سيما أنهم كانوا قد تورطوا، أو ورطوا في حروب أهلية، داخل أكثر من قطر عربي / الأردن بداية، ثم لبنان حيث كتبت النهاية المأساوية لأبطال المقاومة والفداء الذين غدوا رجال شرطة وجمارك وحرس حدود وأصحاب قرار في الشؤون الداخلية لغيرهم وصاروا متسلطين على أوطان الغير… ولقد انتهت التجربة البائسة بخروجهم فاشلين أو عاجزين أو تائهين أو ضائعين عن الطريق الى وطنهم في شعاب لبنان .. الجميل.
[[[
إن الكتابة عن فلسطين هي كتابة عن العرب جميعاً.
إن حال فلسطين هي الصورة المجسمة لأحوال الأمة التي يمكن قراءتها في أحوال شعب فلسطين الممزق داخل أرضه المحتلة الى ثلاثة «شعوب»: فلسطين 1948ـ فلسطين الضفة الغربية ـ فلسطين غزة… أما خارج أرضه فقد بات أمما شتى لا يوحد بينها إلا الشعور العميق بأنه مستوحد، كأنما لا أهل له، أو أن الكل قد تواطأ مع عدوه ـ عدو الجميع ـ عليه، أي على الجميع.
ومثل هذا الشعور كفيل بتفجير المستقبل العربي جميعاً بالعجز، بدل أن يكون حافزاً لبناء الغد العربي المرتجى بالوحدة والتضامن في مواجهة العدو الطامع في الأرض العربية جميعاً.
وكل رمضان وأنتم بخير!
[ ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية