عاش الجيلان الأخيران من أبناء «الشعب العربي» خارج السياسة.
نشأ هذان الجيلان، أي شباب الأمة، وهم لا يعرفون عن «السياسة» شيئاً، بل إنهم يخافون منها ويهربون بحياتهم من مخاطرها بعدما باتت «السياسة» احتكاراً حصرياً لمن يملك زمام الأمور في البلاد تحت مسميات متعددة، وإن كان مضمونها واحداً: الشعب كتلة صماء تسلس قيادها ومصيرها إلى «الرئيس القائد»، الملهم غالباً، والبطل دائماً، حتى لو كان قد خسر كل الحروب التي خاضها بالرغبة، أو فرض عليه ان يخوضها لتثبيت الأمر الموقع.
أما في الأنظمة الملكية أصلاً والتي يقودها وارث للعرش، لا يعرف من الكتب إلا القرآن الكريم، فقد ابتُدع بديل موازٍ لـ «الرئيس القائد البطل»، بأن صار الملك «قائد مسيرة التنوير» أو «رائد التحديث» في المملكة المذهّبة أو ـ في أبسط الحالات «ملك الخير» الذي حباه الله الهداية – فإن كان الحاكم برتبة أمير فحسب، فهو «أمير الحضارة الجديدة»!
سقطت الأحزاب ذات الشعار القومي بالضربة القاضية في المرحلة الأولى، بعدما كانت قد ابتلعت الأحزاب الوطنية التقليدية، وإن استبقى «السيد الرئيس ـ القائد» شعاراتها مرفوعة للإيحاء بأنه لا يحكم منفرداً، ولا يقرر وحده، بل هو ينفذ مبادئ «الحزب القائد» ويجتهد في تحقيق شعاراته التي يمكن أن تحتوي الديموقراطية والاشتراكية والتقدم والوطنية والوحدة العربية، فضلاً عن كونه بشخصه المقدس رمز الوحدة الوطنية والطموح القومي والتقدم.
حكم العسكر، بالشعار الحزبي غالباً وبفرادة القائد التاريخي دائماً، الجمهوريات جميعاً: مصر، سوريا، العراق، ليبيا وحتى لبنان الذي بات فيه «العسكري» هو الرئيس التوافقي المخلِّص من نيران الحرب الأهلية أو مانع انفجارها.. وأخيراً اليمن الذي ضرب فيه الرئيس المتحدر من العسكر الرقم القياسي في البقاء فوق سدة الحكم.
بل إن تونس التي حكمها الحبيب بورقيبة، حتى وهو ميت طبياً، أو فاقد الإدراك والقدرة على القرار، لنحو أربعين عاماً من عمر الاستقلال، تجرّأ مدير مخابراته، ذات يوم على خلعه وتولى السلطة كـ «رئيس قائد»، هو الآخر، في «جمهورية» ترسخت فيها مبادئ «العلمانية» بحيث لم
تطق الحكم العسكري إلا لسنوات قليلة (نسبياً!) فانتفضت ـ مع استشهاد محمد البوعزيزي ـ لتطلق رياح التغيير على امتداد الوطن العربي، بدءاً من مصر وصولاً إلى اليمن.. السعيد.
مع هذه الانتفاضات جميعاً والتي شارك فيها طوفان غير مسبوق من الجماهير المقهورة في القاهرة وسائر أنحاء مصر، بطلب التغيير، معلنة استعدادها لإنجازه، إذا ما ظل الجيش محايداً أو حسم أمره فانحاز إليهم.
ولقد انحاز الجيش، فعلاً، إلى هذه الجماهير الغاضبة، وتولى ـ باسمها ـ إسقاط أول حكم لحزب «الاخوان المسلمين» في الأرض العربية، بعد سنة واحدة من وصوله إلى سدة السلطة بالانتخابات، نتيجة اختلاف خصومه وتفرقهم، بل وخوضهم الانتخابات ضده متخاصمين.
مع ذلك، فإن اللوحة الراهنة لأوضاع مصر تشير إلى ان الأحزاب السياسية الموجودة، والتي كانت تعارض «الاخوان»، وبعضها كان من قبل في موقع المعارضة لحكم حسني مبارك، أضعف من ان تكوّن قيادة سياسية مؤهلة ومن حقها ـ شعبياً ـ فعلياً ان تلعب دور «شريك الرئيس» في السلطة.
أما في سوريا التي تعيش في خضم «حرب إبادة»، فإن نظامها قد أثبت أنه أقوى من ان يتم إسقاطه بالمواجهة العسكرية، ولكنه أضعف من ان يحمي وحدة البلاد التي تتناهبها اليوم جبهات ومنظمات وهيئات مسلحة عديدة ومتنافرة إلى حد التصادم، أشهرها وأعظمها توحشاً تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» ـ «داعش» ـ الذي يستولي الآن على جزء كبير من شرق سوريا (حيث النفط والغاز) وجزء من شمالها حول حلب وخط الحدود مع تركيا، في حين تستولي «القاعدة» باسم «جبهة النصرة»، على أجزاء من جنوب سوريا وبعض الوسط بالاشتراك مع منظمات مقاتلة عديدة، بعضها خليجي التمويل والسلاح، وبعضها الآخر تركي الولاء، ومعظمها إسلامية الشعار، وأقلها «مدني» أو «عسكري» يقول بضرورة العودة إلى الحكم المدني.
ونصل إلى العراق الذي حكم العسكر بشعارات حزب «البعث العربي الاشتراكي»، ثم بشخص صدام حسين الذي جمع بين يديه قدرات الجيش وشعارات الحزب، لمدة أربعين عاماً متصلة.
صار حزب «البعث» في العراق، كما حزب «البعث» في سوريا (وهما في الأصل فرعان لحزب تحت قيادة قومية واحدة، نظرياً) هو اللافتة التي تغلف الحكم الفردي وتموّه حقيقته، أما القرار الفعلي فللضابط أو لمجموعة الضباط التي نظمت الانقلاب على الحكم القائم وخلعته.
وللحقيقة والتاريخ فإن حزب «البعث» سواء في سوريا أو في العراق لم يتحمل مسؤولية السلطة يوماً. كانت شعاراته تعلو مكاتب الوزارات والإدارات، والمقار الحزبية، وكان على المواطنين إن ينتسبوا إلى الحزب إذا كان في نيتهم دخول الكلية الحربية، مثلاً، أو الحصول على وظيفة قيادية، أو حتى متوسطة في الإدارة العامة، أما القرار فهو «للسيد الرئيس القائد».
صار الجيش حزبياً بالأمر. وصارت الإدارة حزبية بالأمر. صار السفراء من بين الرفاق، الأعضاء المتقدمين في تاريخهم الحزبي، وعلى كل سفير رقيب أو أكثر لضمان استمرار الولاء وعدم السقوط أمام غواية مال الخارج أو ضغوطه. وإلا لما كانت الحرب العراقية على «الثورة الإسلامية في إيران» والتي امتدت لسبع سنوات طويلة فدمّرت البلدين.
وقد كانت المغامرة البائسة بغزو الكويت واحتلالها، وهي المغامرة التي كلّفت العراق دولته جميعاً، بقيادته وجيشه و»الحزب القائد» الذي اختفى من الوجود (لا سيما بعدما حل الاحتلال الأميركي الدولة العراقية، بالجيش والحزب والإدارة، وسلمها إلى خصوم عهد صدام حسين مضفياً على التسليم طابع الثأر الطائفي، ما مهد لفتنة ما تزال تضرب الدولة وتمزق الأرض حتى الساعة.. برغم المحاولات الجارية للخروج منها).
كما كانت حالة الاعتراض الشعبي في سوريا على تصرفات فاحشة الخطأ في درعا، قد تحولت إلى «حرب مفتوحة» بين النظام ومعارضيه، الذين وجد المتطرفون منهم «خارجاً» عربياً ودولياً يمدهم بالمال والسلاح والرجال إذا لزم الأمر.
أما ليبيا، فقد قرر عقيدها معمر القذافي أن «من تحزَّب خان»، ولكنه انشأ بالمقابل «اللجان الشعبية» ووضع «اللجان الثورية» وصياً عليها، ولم تكن تلك إلا خلايا مخابراتية. ثم إنه استغنى عن الجيش وشتت قواه في المدى الليبي الفسيح وأبقى مفاتيح مخازن السلاح بين يديه. وعندما انفجرت أوضاع تلك البلاد الغنية بثروتها النفطية، لم تنفع «اللجان» في حماية النظام الفريد في بابه، لا سيما وأن «الخارج» كان قد اتخذ قراره بوضع اليد على هذه الدولة التي بلا نظام، وبلا جيش فعلي. وها هي ليبيا تغرق في دماء أهلها، وليس ما يدل على أنها سوف تستعيد وحدتها ودولتها في المدى المنظور.
أما في اليمن التي أسقطت «الإمام» فيها «ثورةٌ» قادها الجيش أو بعضه، فقد وجدت مصر عبد الناصر نفسها ملزمة بنجدتها، فدخلت في حرب غير معلنة مع السعودية والغرب. ثم تقدمت القبائل لتأخذ السلطة (بعد هزيمة 1967) فتصادمت أطرافها، وتقدم الجيش فأخذ السلطة. وظل الصراع محتدماً، في الداخل، وسط ضغوط الخارج، حتى آل الأمر إلى العقيد علي عبدالله صالح الذي حكم لثلث قرن معتمداً على قبيلته و»حلفائها» الذين صاروا الكتلة العظمى في الجيش بقيادته جميعاً.
وحين هبت انتفاضة ضد حكم «العقيد ـ الإمام ـ الخليفة ـ الملك»، تدخل «العالم» لإيجاد تسوية، قضت بخروج علي عبدالله صالح، بشخصه، من الحكم، لكن النظام باق حتى إشعار «سعودي» آخر.
لقد سقطت الأحزاب، قومية ووطنية، تقدمية وتقليدية، بالضربة العسكرية القاضية، فخسرت قبل السلطة التي لم تكن لها في أي يوم، رصيدها النضالي وأهليتها لبناء الدول في الأوطان التي قدر لها ان تحظى بشعبية محترمة فيها.
ونتيجة لهذا السقوط في امتحان السلطة، خسرت هذه الأحزاب شرعيتها الشعبية، وباتت بعض الذكريات الموجعة لماضٍ من الفشل المموّه بالشعار الحزبي البراق.
في المقابل، سقط «الاخوان المسلـمـون» بعدما وفرت لهم الظروف فرصة قدرية لحكم مصر. بل إنهم أثبتوا انهم لم يستعدوا، عبر تاريخهم الطويل، ببرنامج للحكم عصري وقابل للحياة، خصوصاً وأن «الجماعة» قد استبـعدت الشــعب عن مركز القرار لتنفرد به على ما شهـدنا في مصر.. والحمد لله أن التجربة لم تكرر نفسها في تونس!
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية