ليس مبالغة القول إن مشروع المصالحة بين الفصائل الفلسطينية يقرر نجاح القمة العربية، نهاية الشهر الجاري في الدوحة، أو فشلها. ففلسطين، بداية وانتهاء، هي السبب في القمة وليست نتيجتها.
تكبر القمة فتداني مستوى فلسطين في وجدان العرب، فتنجح، كحدث سياسي، أو تتصاغر عنه فتتفجر الخلافات العربية، تحت عناوين شتى، وتنهار القمة دون هدفها، ليكشف انهيارها أن إسرائيل أقوى حضوراً في القمة من فلسطين، مما يحرفها عن المسار الصحيح ويرميها في هاوية العبث بالقضية المقدسة للعرب أجمعين.
ففلسطين هي نصاب اجتماع العرب وقاعدة انتباههم الى مستقبلهم، ان هم تواطأوا عليها ـ لتصغيرها بحيث تداني أحجامهم ـ تفجر اجتماعهم وخاب سعيهم، وان هم توافقوا عبرها كان ذلك عنوان النجاح وباب النجاة من الوضع الخانق الذي يعيشون فيه أسرى الهوان وافتقاد القدرة على القرار.
ومع ان عناوين القمم العربية كانت متعددة على امتداد تاريخ اعتمادها محطة للتلاقي والتشاور ومحاولة التوافق ولو على السير بخطى أضعفهم، فإن موضوعها الأساسي الدائم كان في حال القوة: فلسطين، وفي حال الضعف: إسرائيل!
ففلسطين هي المعيار الفعلي لحضور العرب أو غيابهم ـ بانعدام القدرة على التأثير ـ على المستوى الدولي: بها يتأكد وزنهم ودورهم، فإذا ما ضعفوا وغرقوا في الهوان اجتمعوا على محاولة تصغيرها وتقزيمها ليتحرروا من وهجها ويهربوا من عبئها بالتنازلات الخطيرة.
المعادلة كانت واضحة دائماً: يصغر العرب، دوراً وتأثيراً، بمقدار ما يبتعدون عن فلسطين ويحاولون التنصل منها، ويكبرون حين يرتفعون الى مستواها ويؤكدون جدارتهم بالمسؤولية عنها بوصفها «القضية المقدسة» فعلاً التي عليها يتوقف حضورهم ودورهم في منطقتهم ومن ثم في العالم كله.
وفلسطين ـ القضية تستعصي على التذويب، ثم ان التجارب على امتداد ستين عاماً أو يزيد قد أثبتت انه يستحيل تصغيرها.
لقد جرب النظام العربي، مراراً وتكراراً، تصغير هذه القضية بقصد استيعابها والتصرف بها.. لكنه كان يفاجأ، في كل مرة، بأن العالم ينظر إليها بتهيب اذ انه يراها بأبعادها الكاملة من خلال مشروعه التدميري الشامل للوطن العربي (الكبير) ليصير «الشرق الأوسط الجديد» الذي ينسب الى جغرافية الآخرين في الغرب، والذي مرتكزه إسرائيل.
وبهذا المعنى فإن «إسرائيل» هي بديل العرب مجتمعين وليست بديل دولة من دولهم بالذات. ولا مجال للشراكة وتقاسم المقاعد. فإسرائيل مشروع إمبراطوري حقيقي بديل من العرب جميعاً، وليست دولة وافدة على المنطقة احتلت بعض أرضها في فلسطين فاكتفت بها وتطلعت الى جيرانها تصالحهم وتطلب ودّهم وتشاركهم حياتهم وكأنها بعض أهلهم. انها تريد وتعمل لان تأخذ منهم مع الأرض كل ما يجعلهم أمة، بدءاً بمسيرتهم عبر التاريخ، بمراحله المختلفة، وإنجازاتهم وإسهامهم الحضاري في السياسة والفن والثقافة والعلم والأدب والفكر وصولاً الى الموسيقى والغناء ـ الموشحات الأندلسية مثلا ـ وانتهاء بأصناف الأكل وبينها الحمص والفول والطعمية (التي يسميها المشارقة الفلافل).
نادراً ما نظر العرب ـ عبر أنظمتهم السياسية ـ الى فلسطين فرأوها وعرفوها بحجمها الحقيقي، ليس فقط على الأرض، بل في الوجدان والذاكرة والتاريخ والعقيدة والدين، وليس فقط في ماضيها، بل في تأثيرها على حاضرهم ومن ثم على مستقبلهم. ولكي يعرفوا فلسطين حقيقة فإن عليهم أن يعرفوا إسرائيل، فخطورة إسرائيل هي المقياس الأدق لتحديد حجم فلسطين ومدى تأثيرها في الحاضر والمستقبل.
وهكذا فإن بعض الأنظمة العربية قد عرف العدو، أي إسرائيل، فرآه أقوى مما كان يقدر فخافه أكثر مما ينبغي، فهرب الى مهادنته والصلح معه ولو بشروط غير لائقة ولكنها تضمن السلامة.
وبعض الأنظمة أخذته العزة بالإثم فاستعظم قدراته واستصغر عدوه الإسرائيلي فقرر أن يمضي الى مواجهته من دون استعداد، أو برغبة في إحراج منافسيه وخصومه العرب بجرهم الى المعركة قبل الاستعداد اللازم لمواجهة عدو على هذا المستوى من القوة، فكانت الهزيمة حتمية، لان العدو يمتلك أسباب القوة مادياً وعملياً، عسكرياً واقتصاديا، وسياسياً وهذا هو الأخطر لان هذا العدو يمكنه، لأسباب متعددة، أن يجمع في نفسه العالم كله تقريباً.
فالداخل العربي دواخل، ليست موحدة، ولا هي على الطريق الى الوحدة،
والخارج ليس جهات ومناطق، بل عقائد وأفكار ومصالح قد تتناقض في ما بينها، ولكنها تتقاطع عند المشروع الإسرائيلي بالمصالح كما بالواقعية السياسية المغلفة للأفكار والعقائد.
وهناك بين الأنظمة العربية من رأى في القضية استثماراً سياسياً، فحاولت أن تبيع وان تشتري لنفسها مكانة على حساب القضية. ولعلها في لحظات توهمت أنها قد نجحت فصغرت القضية وجعلتها على مقاسها. لكن فلسطين كانت تفاجئ الجميع بأنها اكبر في الخارج من أن يمكن بيعها، وأكبر في الداخل من ان يمكن استعمالها سلّماً للوصول الى السلطة ثم يجري تحطيم السلّم حتى لا يصعد عليه آخرون.
لكل نظام عربي تجربته مع القضية التي غالباً ما كانت الذريعة للانقلاب وإسقاط السلطة المفرطة بالحقوق أو المنحرفة.
وليس أكثر من الأنظمة التي أسقطت بسبب اتهامها بالتخلي عن فلسطين إلا تلك أقامها نفر من الثوار ( مخلصين أو مغامرين) مستفيدين من وهج فلسطين.
وبصرف النظر عن الفروق السياسية بين الأنظمة التي كانت قائمة زمن الهزيمة الاولى ، سنة 1948، فإن فلسطين كانت الذريعة لأول انقلاب على السلطة السياسية المنتخبة في سوريا 1949( انقلاب حسني الزعيم).
كذلك كانت الهزيمة العسكرية في مواجهة إسرائيل على ارض فلسطين السبب المباشر والاسم الحركي لثورة 23 يوليو (تموز) 1952 في مصر. وبطبيعة الحال فإن العجز عن مواجهة إسرائيل في حرب 1967 كان السبب المباشر في أخطر هزيمة عسكرية ـ سياسية ـ ثقافية لحقت بالعرب في العصر الحديث.
برغم ذلك فإن توالي الارتدادات العكسية قد أكد أن العرب لم يغادروا ميدان فلسطين: لا مصر خرجت نهائياً من الميدان ، بل هي عادت اليها بالرغبة في الثأر لكرامتها (ولفلسطين) عبر حرب الاستنزاف التي بلغت الذروة في العبور العظيم 1973.
كذلك فإن ثورة مايو ( ايار) 1969في السودان كانت فلسطين أول شعاراتها،
وثورة القذافي في الفاتح من سبتمبر ـ ايلول في ليبيا 1969 كانت «القدس» كلمة السر فيها.
بل ان فلسطين كانت المدخل للتغيير في سوريا، اذ كانت نجدة المقاومة الفلسطينية المحاصرة في الأردن، الذريعة للتغيير في دمشق بالحركة التصحيحية التي قادها حافظ الأسد في خريف 1970 .
.. وحين انتقلت المقاومة الفلسطينية الى لبنان، بعد اتفاق القاهرة 1969، وبعد الصدامات في الأردن، والتغيير في سوريا، صارت بيروت «عاصمة القضية الفلسطينية»، بعد دمشق في فترة التأسيس، والقاهرة في مرحلة الوعي بخطورة القضية، وعمان بعد التحول الى الكفاح المسلح.
ولان لبنان بتكوينه الهش أعجز من أن يتحمل أثقال قضية عظمى بحجم فلسطين، فقد كان بديهياً أن يتفجر كيانه المركب عبر حرب أهلية بدأت محلية، ثم صارت عربية ـ عربية، فدولية ـ دولية، حتى اطمأن العدو الإسرائيلي ان الكل مشغول عنه وبه فاجتاح لبنان من جنوبه حتى عاصمته بيروت (التي احترقت ولم ترفع الأعلام البيضاء) في صيف 1982، مستهدفاً طرد المقاومة الفلسطينية، مفترضاً انه بذلك يقضي على فكرة المقاومة وبالتالي على فلسطين، نهائياً.
لكن فلسطين التي احتل الإسرائيلي أرضها فطرد أهلها منها واصلت حضورها، بل ان قداستها قد تزايدت، ورسوخها في النفس والفكر والعقيدة قد تعمّق فصار لها من القداسة مثل ما للدين وأكثر… وهذا بين ما يفسر تحول حركة الكفاح المسلح التي كان لها شعارات عقائدية وطنية وقومية ويسارية وماركسية متطرفة، الى «الجهاد» بمعناه المقدس…
[[[
من هنا فإن فلسطين ليست مسألة خارجية: إنها قضية داخلية في كل بلد عربي.. وهي لا ترتبط فقط بالوجهة السياسية العامة للنظام المعني، بل انها تسكن وجدان المواطنين جميعاً، سواء منهم المقهورون بذلّ الهزيمة في المواجهات السابقة، أو المسكونون بقهر العجز عن تحرير الإرادة لتحرير الأرض، أو المستكينون في اطمئنانهم الى أن اسرائيل قد ربحت جولة لان العرب كانوا غافلين أو مقصرين أو تائهين عن أسباب قوتهم، وانهم لا بد سينتبهون، غداً أو بعد غد، الى أن لا وجود لهم ولا قيمة ولا قدرة على استنقاذ مستقبلهم إلا عبر مواجهة المشروع الإسرائيلي لاستعادة حقهم في ان يكونوا أمة ذات دور وذات تأثير، وذات مستقبل.
إن فلسطين ليست قضية جيل واحد أو جيلين… ان نضال شعبها يمتد منذ عشرينيات القرن الماضي وحتى اليوم، عبر انتفاضات وإضرابات صارت تاريخاً، وثورات مسلحة ونضال سياسي متصل، تتبدل أطواره ولكنه لا يتوقف أبداً.
قد يصاب جيل باليأس أو يتهالك في طلب السلطة أو تتحقق أمنيته في الشهادة، أو يعفيه التقدم في السن من مواصلة الجهاد، لكن القضية تكبر ولا تصغر. يأتي الجيل الجديد ليتابع المسيرة، لا من حيث توقف الجيل السابق، بل من حيث كانت البداية أحيانا، ولا يستسلم.
ان العالم كله موجود في حوار الفلسطينيين والعرب جميعاً.
لهذا كله فإن حوار الفلسطينيين في القاهرة وبرعايتها محكوم بالنجاح، حتى لو طال واستطال أياما وأسابيع.
لا هم يستطيعون الخروج منه بفشل قاتل، ولا القاهرة تستطيع أو تقبل أن تتحمل نتيجة الفشل، ولا العرب يستطيعون تحمل هزيمة جديدة من صنعهم هذه المرة في وجه اسرائيل.
ينجح الحوار الفلسطيني فتنجح القاهرة وتنجح القمة العربية، وإلا فهي الطامة الكبرى.
الكل محكوم بالنجاح. الكل أضعف من أن يتحمل نتائج الفشل الجديد.
([) تنشر «السفير» النص بالتزامن مع صحيفة «الشروق» المصرية