الكوارث القومية لا تأتي فرادى..
على هذا يستحسن قراءة الانكسارات الخطيرة التي يسببها ترهل «النظام العربي» بتنازلاته المتوالية التي تكاد تتجاوز حدود الخيانة، مجمعة في سياقها المنطقي، لنتبين الى أين يسير بنا أهل هذا النظام الذين لم يعد يشغلهم اتهامهم بالتفريط والتنازلات قاتلة المستقبل.
فإذا ما قرأنا «التطورات» التي تصيب القضية الفلسطينية أو القضية العربية ممثلة بوعد تحرير فلسطين، والتي كانت مقدسة، على أيدي «السلطة» المطعون الآن في وطنيتها وليس فقط في شرعيتها نتيجة تنازلاتها التي تجاوزت كل الحدود أمام العدو الإسرائيلي، فإنما نكون كمن يقرأ ما يحصل للعراق الذي كانت له «دولة» قوية ومنيعة، ذات يوم، والمهدد الآن في وحدة شعبه فضلاً عن استمرار كيانه السياسي كإطار جامع «لمكوناته»، نتيجة عجز قياداته السياسية عن مواجهة «تهديد» الاحتلال الأميركي بالجلاء… بعد عام كامل، مبدئياً، وهو عام مرشح لان يصير دهراً!
وسنرجئ الحديث عن لبنان في هذا السياق آملين أن تنجح الجهود في لجم نيران الفتنة التي لم تعالج بأسبابها السياسية الفعلية التي سرعان ما تم تمويهها بالانشقاق الطائفي والمذهبي، لطمس الطبيعة السياسية للصراع في الوطن الجميل.
وفي حالتي فلسطين والعراق تمكن قراءة تهالك النظام العربي وعجزه حتى عن حماية استمراريته، فتراه يبادر الى التبرع بالتنازل، سواء أمام الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، أو أمام الاحتلال الأميركي في العراق، قبل أن يطلب منه، وغالباً من دون أن يطلب منه شراء للرضا الذي يؤمن له دوام الحال على حاله، ولو بثمن يلغي قيمة بلاده وقدرتها على التأثير، فضلاً عن استقلالها وحقوق شعوبها في حياة تليق بتاريخها وبنضالاتها من أجل الاستقلال والحرية والتقدم.
ذلك أن تهالك أهل النظام العربي على حماية استمرارهم في السلطة يسبب تسريع وتيرة الانهيارات والتردي في مختلف دولهم، خصوصاً وقد باتت السياسة المعتمدة رسمياً: أنا ومن بعدي الطوفان! والمهم البقاء المفتوح زمانه في السلطة ولو كان ثمن هذا الاستمرار تهاوي «الدولة» ويأس الشعب من قدرته على التغيير ، ذلك أن أهل النظام العربي حصنوا أنفسهم بالالتحاق بمراكز القرار، ممن باتوا يهيمنون على مجمل ما كان يسمى «الوطن العربي»، مشرقاً ومغرباً.
لقد تهاوت الأحلام التي طالما دغدغت مشاعر المواطنين العرب وهم يتوقعون أو يأملون تقارباً بين دولهم يوحد المواقف السياسية من الآخرين غرباً وشرقاً على قاعدة بعدهم أو قربهم عن حقوقهم في تحرير أرضهم وإرادتهم في بناء دولهم والحفاظ على تضامنهم ولو على قاعدة الحد الأدنى.
استغنى أهل النظام العربي عن مؤسستهم التي لم تكن في أي يوم في مستوى ما أملته «الجماهير» منها، جامعة الدول العربية، وافرنقعوا في تحالفات وتفاهمات ثنائية أو ثلاثية، تحت الرعاية الأميركية في الغالب الأعم، مع مراعاة عدم استفزاز إسرائيل.
وهكذا عاد المشرق مشارق، والمغرب مغارب، ولا رابط بين ما قبل فلسطين التي كانت موعودة بالتحرير، ولا ما بعد إسرائيل التي تحولت من العدو المبين الى «الجار» الذي يحظى بالرعاية والأسعار التفضيلية في الغاز والنفط وحق العبور في الممرات المائية بدءاً بقناة السويس وانتهاء بباب المندب.
صارت إسرائيل التي كانت تفصل، بالقوة القاهرة، بين هذه الأقطار التي افترضت شعوبها أن هويتها واحدة ومصالحها واحدة ومستقبلها واحد صاحبة قرار في مختلف الشؤون العربية… ثم تفاقم نفوذها المعزز بالأمر الأميركي حتى صار لها رأيها (المسموع) في كثير من العلاقات بين هذه الدولة العربية وتلك، أو بين مجمل الدول العربية و«الدول المارقة» كإيران… بل ان اسرائيل تجاوزت، أحياناً، كل حد، فأبدت رأيها في مسائل داخلية ودقيقة جداً، سواء في مصر أو في الاردن وصولاً الى لبنان الذي تغمره بغارات التفقد اليومي لمناطقه كافة، استعداداً للحرب الجديدة ضده، في الموعد الذي تراه مناسباً.
عاد المغرب العربي مغاربة، لا سيما وقد استعادت دوله المسافة بين كل منها والأخرى، تاركة للأميركي فضل الربط في ما بينها، ثم في بين بعض دولها وبعض المشرق في حالات معينة.
أما المشرق فقد افترضت إسرائيل أنها تملك التفويض الأميركي للتعامل مع شؤونه، ودائماً بذريعة حمايته من المشروع الإمبراطوري الإيراني المموه بالثورة الإسلامية، أو بتأمين المساعدة الأميركية لدوله التي باتت تحتاج موافقة تل أبيب على مطالبها المختلفة والمتنوعة من واشنطن.
واعتزلت ليبيا دور المحرض والجامعة بين المتعارضين بحكم موقعها وثروتها والنفوذ القديم لقيادتها التي رأت في نفسها، ذات يوم، القدرة على تعويض النقص في الحركة القومية الطامحة الى الوحدة، والتي انتهت بها المغامرات والانتكاسات والصدامات الى حفظ الذات بالتفاهم مع الإدارة الأميركية وبتعزيز نفوذها في أوروبا بقوة نفطها والتجارة وليس بزخمها الثوري.
واعتكفت جزائر عبد العزيز بوتفليقة خلف حدودها، مكتفية من التراث الثوري بالمشاغبة مع المغرب عبر الاستمرار في تبني البوليزاريو تدليلاً على وجود مشكلة تتطلب حلا (أو حربا) مع المغرب بسبب… الصحراء، والمنفذ على المحيط الأطلسي.
تخلى معظم أهل النظام العربي عن فلسطين للسلطة تحت الاحتلال (أي لإسرائيل) مكتفين بالشفاعة الأميركية التي قد تستبقي للفلسطينيين بعض حقهم في بعض أرضهم مقابل السكوت عن إعلان ذاتها دولة يهود العالم، مفترضة أن هذا الموقف يأتيها بالدعم الأميركي للاستمرار في مواقع الحكم في بلادها، بمعزل عن إرادة الشعب ومطالبه وتطلعه الى دولة تؤمن له أبسط حقوقه الطبيعية.
بل إن أهل النظام العربي قد انتقلوا الى موقع المتواطئ على فلسطين، القضية وحلم الدولة، برعاية «السلطة»، ودفعها الى المزيد من التنازلات التي تذهب بجوهر القضية فتريحهم وتريح الإدارة الأميركية ويكسبون بهذا التنازل عما لا يملكون الرضا والدعم في بقاء ملكهم حيث يحكمون ويتحكمون.
على هذا يمكن القول إن معظم أهل النظام العربي، وليس رئيس مصر وملك الأردن وحدهما، كانوا مشاركين في تغطية واقعة التنازل الفاضح ـ الجديدة ـ عن الحد الأدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية في الاحتفال باستئناف التفاوض بين إسرائيل ـ مع التسليم بكونها دولة يهود العالم ـ و«السلطة» في رام الله، ومع التسليم بأنها لا تمثل مجمل الفلسطينيين أو أكثريتهم أو حتى نصفهم أو ربما ربعهم المخضع لأحكامها.
لن تستطيع «السلطة» أن تنهي القضية الفلسطينية بتنازلاتها التي يشارك في مسؤوليتها أهل النظام العربي، سواء بحضورهم الشخصي أو برسائل التأييد العلنية، أو بصمت التواطؤ الضمني…
ولن تستطيع الطبقة السياسية الوافدة الى العراق برعاية الاحتلال الأميركي، وبالاستناد الى النفوذ الإيراني، أو باللعب على التناقضات العربية ـ العربية، أو بافتراض أن قوات الاحتلال الإسرائيلي في طريقها لإسقاط النظام الإيراني بتغطية عسكرية أميركية، وبتمويل عربي يجمل التحريض ويجعله مجزياً، ان تغطي أو تمنع المخاطر التي تتعرض لها وحدة الكيان السياسي ووحدة الشعب العراقي من التوسع لتمس بنيرانها العديد من الأقطار العربية المجاورة… فكل مواقع النفوذ لأهل النظام العربي من زجاج، وأي انفجار في المشرق سيستولد تداعيات غير محدودة في مختلف أنحاء الوطن العربي الكبير، المرشح لان يصير مجموعة من المحميات الأميركية ـ الإسرائيلية.
ولن يغرق لبنان في دماء بنيه، برغم كل ما يبذل من جهود لتأجيج نار الفتنة فيه، لا سيما وقد باشر «ولي الدم» في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري التنصل من الاندفاعة الهوجاء لاتهام سوريا بها، مقدماً اعتذاره العلني ومديناً الاستخدام القذر لشهود الزور في توجيه الاتهام تارة الى الحكم في دمشق وطوراً الى مجاهدي المقاومة في لبنان.
مع ذلك فالتآمر المانع السقوط سوف يتواصل مستخدماً أقذر الأسلحة وأكثرها فتكاً..
ربما لهذا يكثر المواطن العربي من ترديد أحد الأدعية من نوع: «اللهم إنا لا نسألك رد القضاء بل نسألك اللطف فيه».. أو «الأمر لله من قبل ومن بعد» أو «لنا الله وهو نعم الوكيل».
([) تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية