بعدما تفجرت الثورة البولشفية في روسيا القيصرية، في السابع من نوفمبر (تشرين الثاني) 1917، منتدبة نفسها لتحرير الشعوب من ربقة الاستعمار، أقدمت قيادتها برئاسة فلاديمير ايليتش لينين على نشر الكثير من الوثائق السرية التي كان يتضمنها أرشيف وزارة الخارجية في تلك الإمبراطورية، التي كانت قطباً مهماً في السياسة الدولية.
كان أبرز ما نشرته حكومة الثورة، في ما يعنينا، النصوص السرية للمعاهدات التي عقدتها الإمبراطورية البريطانية مع الجمهورية الفرنسية على تقاسم النفوذ في المشرق العربي بحيث تكون سوريا ومعها لبنان (الذي أعيد تشكيل دولته باقتطاع بعض الأقضية من سوريا وضمها اليه) تحت النفوذ الفرنسي، في حين تكون فلسطين ومعها الأردن الذي اقتطع بدوره من سوريا والعراق الذي رسم على عجل، تحت الانتداب البريطاني.
وفي حين قسمت فرنسا سوريا الى أربع دويلات فإن بريطانيا قد أعادت صياغة «سوريا الطبيعية» فسلخت منها فلسطين التي أعطى بلفور (وزير خارجية بريطانيا آنذاك) وعده بأن تكون أرضاً لدولة إسرائيل العتيدة والتي سـتقام بعد أربعين ســنة من إطلاق «الوعد» كما سلخت منها الأردن لتجعله جائزة ترضية للأمير عبد الله ابن الشريف حسين الذي حرضه البريطانيون على إطلاق الرصاصة الأولى في «الثورة العربية» بشعارات توحيد العرب (والمسلمين) في خيمة ت. هـ. لورنس الذي أطلق على نفسه «لورنس العرب».
لم تكن وسائل الاتصال سريعة، وهكذا تطلب الأمر ثلاث سنين طوال قبل أن يعرف العرب الخارجون من تحت الخلافة العثمانية التي عمرت لأكثر من أربعمئة سنة، بأمر اتفاق سايكس ـ بيكو.
ولعلهم لم يتأخروا في المعرفة بأمر وعد بلفور الذي أعطاه من لا يملك، (وزير خارجية بريطانيا آنذاك اللورد بلفور) لمن لا يستحق، بأن تكون فلسطين العربية الوطن القومي لليهود، الذين كانوا مستقرين آنذاك كرعايا طبيعيين لأوطانهم الأوروبية والأميركية و.. العربية.
ها هي الوثائق التي نشرها ولا يزال يوالي نشرها موقع ويكيليكس تقوم بمهمة مشابهة ـ ولو عن غير قصد ـ لتلك التي أقدمت عليها الثورة الشيوعية قبل مئة سنة إلا قليلاً، وبقصد مقصود، ولكن على مستوى العالم كله، هذه المرة وبالتفصيل الممل، فتتيح للشعوب جميعاً أن تعرف ماذا يدبره لها حكامها بالتواطؤ مع الإدارة الأميركية، أو تدبره لها الإدارة الأميركية بالتواطؤ مع بعض قيادات القوى المحلية السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
واذا كان العديد من هذه الوثائق التي انهمرت، ولسوف تنهمر لأمد طويل، كالسيل قد فضح العديد من الأنظمة العربية وارتكاباتها السياسية (والدموية أحياناً) فإنه قد تجنب أية إشارة يمكن أن تؤذي إسرائيل وتكشف شيئاً من أسرارها الدبلوماسية أو تواطؤاتها المتواصلة مع الإدارة الأميركية على حقوق الشعب الفلسطيني في البعض من أرضه، أو على سائر الدول، بما فيها تلك التي عقدت معها معاهدات الصلح وفتحت معها الحدود وأسالت اليها النفط والغاز بأسعار تشجيعية.
[ [ [ [ [ [
ماذا في الوثائق التي نشرها موقع وبكيليكس حول الأوضاع العربية والتي شملت معظم أهل النظام العربي في المشرق والمغرب ففضحت ولاءاتهم وتواطؤهم على شعوبهم، فضلاً عن تآمر بعضهم على البعض الآخر، طلباً لترقية، أو لشهادة حسن سلوك من الباب الأميركي العالي؟
في المضمون: لم تضف الوثائق إلا ما يؤكد انعدام الثقة بين الحاكم والمحكوم في مختلف الدول العربية، فليس سراً أن معظم الشعوب العربية لا تثق بأهل النظام الحاكم، مشـرقاً ومغرباً، بل هي تتهمهم في وطنيتهم كما في ذمتهم المالية، والأخطر: في اندفاعهم الى القمع الوحشي لخصومهم، لا سيما اذا كان لهم رصيد محترم من الشعبية، نتيجة كفاءتهم وصدق تعبيرهم عن إرادة الناس.
ان أي مواطن في أية دولة عربية، ما بين المحيط والخليج، يمكنه أن يخبرك عن وسائط الانتخاب «الديموقراطي» بالتزكية المفروضة أو بالأصوات المشتراة كالخضار والفواكه، أو باستثارة المشاعر، بل الغرائز الطائفية والمذهبية أو الجهوية، فضلاً عن استخدام العنصرية، حيث تسمح ظروف تكوين الدولة المعنية، مع التنبيه دائماً الى أن معظم دول المشرق العربي قد ارتجلت ارتجالاً ورسم حدودها المستعمر المهيمن بجرة من قلمه على الخريطة الأصلية للمنطقة بتكوينها الطبيعي.
الأطرف، بل الأخطر، أن أي رجل (وأية امرأة) لما يبلغ الأربعين من عمره، يمكنه ـ اذا تحلى بالشجاعة ـ أن يحدثك مسروراً عن جهله بالتاريخ السياسي لبلاده، لأنه نشأ وشب ثم شاب، وله رئيس واحد لا يعرف من كان في دست الحكم قبله ولا يعرف من سيخلفه، اذا ما فرضت الصحة أو الظروف المحلية ومعها الضغوط الأجنبية على هذا الحاكم أن يرتاح… ويريح!
تكفي استعادة مجريات الانتخابات التي شهدها عدد من الدول العربية في الفترة الأخيرة، وبينها اليمن ولبنان والكويت والعراق وتونس ومصر لاكتشاف موقعها من الديموقراطية: ففي اليمن كان الفوز مؤكداً للقبلية بعد انضباطها في خدمة صاحب الأمر الذي يحاول من موقعه الذي يجمع بين «صلاحيات» الخليفة ـ أمير المؤمنين ورئيس النظام الجمهوري مغلفاً بالعسكر بقيادته العائلية، وفي الثنايا شيء من الطائفية… أما في لبنان فكان في البدء الانقسام العمودي: المسلمون المشروخة وحدتهم مذهبياً في ناحية، والمسيحيون المشروخة وحدتهم سياسياً في الناحية الثانية… وهكذا اصطفت الطوابير أمام صناديق الاقتراع ليذهب «السنة» الى انتخاب الأعظم استعداداً لمواجهة «الشيعة» والعكس بالعكس، في حين توزع المسيحيون ـ وبالحدة نفسها ـ على «التيار الوطني الحر» المتحالف مع «حزب الله»، و«القوات اللبنانية» المتحالفة مع «تيار المستقبل». ولم يكن سراً أن الادارة الأميركية ومن معها من عرب النفط يدعمون بالنفوذ والذهب «المستقبل» بوصفه ممثل «السنة» ومعه «القوات» كممثل للمسيحيين، في حين تلقى شبهة التأييد السوري ـ الإيراني على المعسكر الآخر ..
في الكويت التي كانت تتباهى بأنها جزيرة الديموقراطية في الخليج العربي اندثر المجتمع القديم بتقاليده وتراتبيته القبلية، ونشأت أجيال جديدة لا تقبل منطق القسمة القديمة «لأسرة الصباح الامارة وللوجاهات من أهل التجارة والملاك الوزارة»، خصوصاً أن الأجيال الجديدة للأسرة التي ارتضاها الكويتيون في موقع الامارة قد تعاظمت عدداً وطموحاً فأصر شبابها على حصة راجحة في الوزارة، كما أن فئات مهمشة أكدت حضورها فطالبت بحصتها من السلطة… ثم ان مشكلة «البدون»، وهم البدو الذين دخلوا الكويت من حدودها مع السعودية في الغالب الأعم، تفاقمت وباتت تتطلب حلاً يتمثل في الاعتراف بهم وإشراكهم في كعكة البرلمان ان لم يكن في الحكومة، ما يهدد بإحداث خلل في التركيبة القائمة… وقبل هذا كله وبعده نشأت تنظيمات اسلامية سرعان ما زاد في قوتها التأثر الإيراني (في أوساط الشيعة) والرد الأصولي في أوساط السنة.
هل من الضروري أن نشير الى ان الكويت ـ ونتيجة لكل ما تعرضت له ـ قد تحولت الى قاعدة أميركية ثابتة بين مهامها حماية الاحتلال الأميركي للعراق.
في هذا العراق تحت الاحتلال تفرج العرب على الديموقراطية بالاحتلال التي فرزت الشعب طوائف ومذاهب وعناصر مختلفة، وأحياناً مقتتلة، والتي تخللتها مشاهد تذكر بالديموقراطية الأميركية على الطريقة الأفغانية… وقد أنتجت هذه الديموقراطية الطوائفية العشائرية ـ العنصرية في العراق برلماناً منقسماً على نفسه، عجز أقطابه بقوائمهم المتنافسة والتي تم تركيبها تحت الرعاية الأميركية، عن تشكيل حكومة وحدة وطنية..
فماذا يمكن أن تكشف وثائق ويكيليكس من حقائق الوضع في العراق أكثر مما هو معلن وتشهد به الدماء المهدورة في الشوارع والمساجد والحسينيات والكنائس، وأكثر مما هو قائم على الأرض من عوامل الانفصال النفسي الذي ســيأخذ ـ بالتأكيد ـ الى نوع من الفيدرالية؟
نترك الحديث عن مصر وما يتصل بأوضاعها من وثائق الى أهل الرأي والزملاء المصريين… وان كان الرئيس الأبدي لتونس زين العابدين بن علي قد أبدى خوفه من سيطرة الاخوان المسلمين على الحكم بعد الرئيس مبارك.
وأما الجزائر فالوثائق تؤكد ان حكومتها قد سمحت للطيران الحربي الأميركي بأن يجوب آفاقها وصولاً الى قلب أفريقيا السوداء.
وأما موريتانيا فالصراع فيها وعليها بين اسرائيل وفرنسا.
وأما فلسطين فلا ذكر لها الا عبر صفقات البيع والشراء بين بعض الأنظمة العربية والادارة الأميركية.
وأما أخطر ما في الوثائق: الغياب المطلق لكل ما يتصل بإسرائيل، إلا ما ورد لماماً أثناء الحديث عن غيرها.. وهذا ما يثير الشبهات والريب حول المصدر الفعلي لهذه الوثائق وأغراضه ومدى ارتباطه، مباشرة أو بالواسطة بقوى ضغط صهيونية داخل الادارة الأميركية.
… في أي حال، نتمنى أن تكون ردود الفعل عربياً على هذه الوثائق، ما نشر منها وما سوف ينشر، مغايرة لما وقع بعد نشر الثورة الشيوعية سنة 1917!
ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية