وضع « الميدان» بجماهيره المتدفقة بالاعتراض نهراً في مختلف الأقطار العربية، مغرباً ومشرقاً، وإن ظلت القاهرة هي «المركز»، نقطة النهاية لحقبة امتدت لأكثر من نصف قرن من الزمان كان عنوانها تصدي الجيوش – بالانقلابات العسكرية – لإسقاط الأنظمة الاستبدادية، وكان أقواها وأطولها عمراً ملكياً (مصر، أساساً ثم العراق وبعده ليبيا، مع استذكار تونس التي سقط «الباي» فيها سهواً عشية تحريرها بالنضال الشعبي من مستعمرها الفرنسي)… وكانت معظم الملكيات تدّعي لنفسها حق الحكم بالنسب الشريف.
صحيح أن بعض هذه الجيوش (في تونس ومصر خاصة) قد استنقذت قياداتها دوراً لها عن طريق لعب دور «الوسيط» في إزاحة رأس النظام والتبرؤ من ممارساته وليس من سياساته… لكن «الميدان» ما زال يصر على مطلبه بشطب أي دور سياسي للجيش وعودته الى مهمته الأصلية في حماية البلاد من أعدائها في الخارج. وأول الأعداء وأخطرهم بالتحديد: إسرائيل ونهجها التوسعي الذي يستهدف شطب قضية فلسطين وحقوق أهلها فيها، والاندفاع الى مركز قيادة الشرق الأوسط الجديد – تحت المظلة الاميركية.
بالمقابل اندفعت الى مقدمة مسرح الفعل الحركة الإسلامية المثقلة بتاريخ من الصدامات مع النظام العربي بطبعتيه الملكية والجمهورية، وقبل ذلك وبعده بمواجهات محتدمة بالفكر والثقافة مع الحركة القومية العربية، ومعها أحزاب اليسار عموماً وطموح المجتمع الى حماية وحدته الوطنية وحقوق المواطن فيه بغض النظر عن دينه.
كان منطق الإسلاميين، بجناحيهم، الإخوان و«السلفيين» ان الحركة القومية، بل العروبة تحديداً، قد غرَّبت الأمة عن هويتها، وأخرجتها من دينها الحنيف… والأخطر أنها قادتها، على امتداد قرن من التبشير والعمل السياسي، وستين عاماً من السلطة أو التسلط بقوة العسكر الى هزائم متتالية والى تدمير المجتمعات، وتسببت في تفكيك او التمهيد لتفكك أكثر من دولة في المشرق والمغرب.
الطريف أن الإسلاميين الذين كانوا يأخذون على «الأنظمة العسكرية» المموهة بالوطنية او العروبة او بهما معاً عجزها عن مواجهة إسرائيل والانتصار عليها وخضوعها للخارج (سوفياتياً في ما مضى، وأميركياً بعد اندثار المعسكر الاشتراكي وتفرد واشنطن بالقرار الدولي) قدموا أوراق اعتمادهم كمشروع سلطة المستقبل في الأقطار التي أسقط «الميدان» حكامها وحرصوا على توطيد علاقة الصداقة مع الإدارة الاميركية والتبرؤ من معاداة إسرائيل والسعي الى تدميرها… بل إنهم أكدوا أنهم سيحافظون – في ما خص مصر – على اتفاقات الصلح المنفرد، وعلى الاستمرار في تأمين النفط والغاز لدولة يهود العالم بالقدس التي لا تتعب إسرائيل من التأكيد على أنها ستكون العاصمة الأبدية والتي لا تتوقف عن تدمير الأحياء العربية فيها وتهجير أهلها، بحيث يبقى المسجد الأقصى أشبه بالمتحف أو المزار.. وكذلك كنيسة القيامة ودرب الآلام.
اللافت أن شعارات الإسلاميين عموماً والسلفيين بشكل خاص، تتبدى وكأنها استئناف عصري للمعركة التي دارت على امتداد القرن الماضي بين الذين ما زالوا يتطلعون الى الدولة الإسلامية التي كانتها الخلافة ولو بصيغة عصرية، وبين القائلين بالعروبة فكرياً، او بمدّعي بناء الدولة على قاعدة من أحزاب «القومية العربية».
فالإسلاميون، الذين لم ينسوا ان العروبة «بدعة» جاءت من الغرب واستخدمها ضد الخلافة التي تحولت الى سلطنة عثمانية، ففتحت له الطريق لدخول هذه المنطقة التي قسمها الى «دول علمانية»، هؤلاء الاسلاميون يرون إن الفرصة قد حانت الآن لبعث الدولة الإسلامية حيثما انتصر ـ او سوف ينتصر ـ «الميدان» على الأنظمة العسكرية التي ما تزال ترفع راية العروبة، ولو زوراً، او ترفع على الساريات رايات ترمز الى «العلم العربي» الذي يفترض انه علم «الثورة العربية» التي ابتدعتها ورعتها قوة الاستعمار الغربي.
لقد جاء زمن الثأر: وا إسلاماه.. وها هي الفرصة سانحة، «فالميدان» بلا رأس ولا قيادة ولا برنامج. ومن حق الإسلاميين إذن ان يتولوا القيادة، تاركين للملايين من الشباب المتحمسين، والذين لا يملكون أية فكرة عن بناء الدولة، حق التجمع – ولو الى حين – والهتاف ضد الحكم العسكري وضد النظام الذي يتداعى تدريجياً. لا يملك هؤلاء «الفتية البررة» تصوراً للنظام البديل، خصوصاً أن الشعارات البراقة والهتافات المدوية وقصائد السخرية التي تبهج الحشود وتظلمات المعارضين والآخرين، لا تفيد في إعادة بناء الوطن ودولته القوية والقادرة على تحقيق طموحات شعبها بملايين المؤمنين من أبنائه.
..الثأر، لغم، فالشعب الذي خدعته طويلاً شعارات او ادّعاءات حكم العسكر الذي تمدد من سوريا الى مصر فالعراق فاليمن فالجزائر فالسودان فليبيا، قد استعاد زمام المبادرة، وها هي القوى المعبرة عن وجدان الناس تتولى القيادة لامتحان شعارها الأثير الذي طورد حملته بالاعتقال والتشريد والإعدام أحياناً والقهر دائماً.
وفي منطق الإسلاميين فقد استهلك العروبيون او الوطنيون قرناً كاملاً من الحكم بالشعار العلماني، واستخدموا الجيوش طريقاً الى السلطة بدل ان تكون عدة التحرر والتحرير، فدمروا مشاريع الدولة حيث تولوا الأحكام، ثم أضاعوا فلسطين، وسلموها بالمفتاح الى أعداء الأمة من اليهود، ثم إنهم فتحوا البلاد للهيمنة الأجنبية، وأفقروها وهجروا كفاءاتها او حطموها معنوياً فلم تعد مؤهلة – تحت قيادتهم – لان تنجز ما هي قادرة على بنائه من أسباب التقدم والقوة.
ومؤكد أن حجج الإسلاميين في هذا المجال عديدة ومؤكدة، خصوصاً أنهم قادرون على إثبات عدائهم المبدئي للأنظمة العسكرية، وإن نقضته بالخطايا المميتة التي تمت في زمن حكم السادات (الالتحاق به وهو يذهب ضد إرادة الأمة الى الصلح المنفرد مع العدو الإسرائيلي) او في زمن حكم حسني مبارك، وآخر ما أنجزوه في هذا المجال «التحالف» معه في الانتخابات ما قبل الأخيرة في عهده… مع السكوت دائماً عن العلاقة الخاصة جداً والمدعومة بالغاز والنفط واتفاقات كويز، فضلاً عن السفارة المحصنة في قاهرة المعز، ورحلات الطيران وانخراط آلاف العمال المصريين الفقراء في بناء المستوطنات لمن تستقدمهم إسرائيل من الغرباء، ليحلوا محل أهلها وأصحاب أرضها الفلسطينيين.
في أي حال لا يمكن الاعتراض على وصول الإسلاميين، والإخوان تحديداً، الى السلطة طالما إن ذلك يتم عبر صناديق الاقتراع، وبمعزل عن إفادتهم المؤكدة من «الحياد المريب» للجيش الذي كاد يضبط متلبساً بالتواطؤ في مصر خاصة، وبنسبة أقل في تونس.
لكن عدائيتهم المبدئية للهوية العربية للبلاد التي اقتربوا من سدة الحكم فيها سوف تأخذهم عبر المجاهرة بالحرص على الصداقة مع الولايات المتحدة الاميركية التي كان وسيبقى عنوانها إسرائيلياً، لا يمكن ان تطمئن لا الشعب في مصر او في الأقطار العربية الأخرى الى إن بعض ثمن هذه السلطة قد دفعها أبناؤهم من دمائهم إنقاذاً لهوية بلادهم وحقها في بناء دولة منيعة على أعدائها وقادرة على تأمين مسيرتها الى التقدم والعمران.
ليس الموقف من إسرائيل بنداً سياسياً تفصيلياً في خطة أي تنظيم او حزب إسلامي او علماني يقدم نفسه كمشروع كسلطة مؤهلة وقادرة على الإنجاز في ظل نزول الشعب الى «الميدان».
إن الموقف من إسرائيل هو الأساس لأي حكم وطني، حقاً في أي بلد عربي من أقصى المغرب الى أدنى المشرق.
هو الأساس في السياسة الخارجية ومدى الارتباط بمشروع الهيمنة الاميركية على الإرادة والقرار.
وهو الأساس في السياسة الداخلية التي تهدف الى حماية كرامة الوطن ومواطنيه وحقهم في بناء دولته القوية والقادرة، المنيعة على أعدائها، والمجسدة إرادة شعبها وقدراته لبناء مستقبلها الأفضل.
ان إسرائيل مشروع استعماري – صهيوني معاد في أساس إعداده ثم في خطة إقامته على ارض فلسطين، للأمة العربية جميعاً، وبأقطارها كافة، بمسلميها ومسيحييها، بأكثريتها والأقليات فيها.
إنه البديل عن «الدولة» في هذه الأرض الممتدة ما بين المحيط الأطلسي والمحيط الهندي، بكل ثرواتها وطاقاتها وحقوق أهلها فيها.
هل من الضروري الإشارة الى أن التركيز على حكم الشريعة خطر على وحدة الأمة عموماً، ووحدة الشعب في كل قطر.. لأنه يتجاوز السياسة الى العقيدة الإيمانية. وقبل الحديث عن غير المسلمين من الأمة فإن بعض الأصوليات الإسلامية يأخذها الحول الى استعداء اكثريات إسلامية (من السنة قبل الشيعة)، ومن ثم الى تقسيم المسلمين أنفسهم ودفعهم الى مواجهة بعضهم البعض، بما يذهب بوحدة الشعب، ثم بمشروع الدولة العصرية المؤهلة والقادرة على تحقيق أهداف «الميدان» وهي باختصار: إعادة بناء غد أفضل للإنسان العربي في مختلف بلاده… والوحدة الوطنية هي شرط التقدم نحو إنجاز الهوية، والعروبة في أساس الوحدة الوطنية وليست خارجها!.
ومن اقترب من الصلح مع إسرائيل، او صمت عن هذا الانحراف، انما يمهد لنقل الحرب الى الجبهة الداخلية، بالفتنة.
وبعض ما قاله إسلاميون صاروا في السلطة او بقربها من المصريين والتوانسة في منتدى دافوس يصب مزيداً من المياه في طاحونة الفتنة.. لحساب إسرائيل… وهكذا تبين ان لا خلاف بين إسلام ناطق بالفرنسية او إسلام ناطق بالإنكليزية مع الإسلام الناطق بلغة قريش!.
.. اما «الطاغية» حسني مبارك فما زال يتمتع بكل امتيازات الرئيس – ولو نائماً في الطائرة الخاصة التي يستخدمها يومياً، تقريباً، في التنقل من المستشفى الملكي الى المحاكمة – خارج الموضوع، والتي لا تبدو لها نهاية واضحة إلا في زيادة الانقسام الداخلي.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية