لم يكن للإسلام السياسي عبر تنظيماته المختلفة، صورة مشرقة في الدنيا العربية، على امتداد تاريخه الطويل، وقد طاردته الاتهامات والشبهات في منبته الفكري كما في ممارساته السياسية، تحالفاً أو اعتراضاً.
في المشرق كما في بعض أنحاء المغرب العربي، اتهم تنظيم الإخوان المسلمين في وطنيته أحياناً، فتم الحديث عن ارتباط ما له بدوائر غربية استعمارية، بدأت بالبريطانيين وها هي الآن تتركز على الأميركيين، ساحبة نفسها على موقفه من الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، خصوصاً مع تقدمه نحو السلطة في أكثر من بلد عربي وحرصه على تطمين الإسرائيليين، عبر واشنطن، عن التزامه منطوق معاهدة الصلح المنفرد مع «دولة يهود العالم» وبمعزل عن جهودها المتواصلة لشطب فلسطين عن الخريطة وربما من الذاكرة.
ولقد كان بين أسباب التــشوه الذي أصاب صورة الإخوان المسلمين خاصة والأصوليات الإسلامية عامة، وفيها السلفية، الصدام المبكر مع ثورة 23 يوليو بقيادة جمال عبد الناصر في مصر، وهو صدام امتد تدريجياً الى مختلف منظومات العمل السياســي، رافــعة رايــة القومية العربية، فضلاً عن الحركات السياسية ذات الشعار الماركسي (الأحزاب الشيوعية وسائر التنظيمات الرديفة او المتفرعة عنها)، وصولاً الى الحركات الوطنية التي كانت ترفض أن تدمغ بشعـار ديني، في منطقة متعددة الهويات الدينـية والطائفــية، إذ ترى فيه عمـلاً تقسيمياً، يمكن ان يشق الصفوف المطلوب توحدها في مواجهة الاستعمار الغربي والأنظمة الموالية له والتي تحاول تمويه ارتباطها برفع الشعار الإسلامي.
وبغض النظر عن الصح والغلط في تلك المواجهات بل «الحروب» التي لم تنطفئ نيرانها على امتداد نصف قرن او يزيد، فقد نشأت أجيال على الخوف من التنظيمات ذات الشعار الإسلامي، لا سيما أن الأنظمة التي تتلطى خلف هذا الشعار كانت تعتبر «القومية» ومعها «العروبة» وحتى «الوطنية» بدعة من عمل الشيطان وتقاتلها، وإن من موقع دفاعي حتى تتوب عن غيها وتعود الى «الأصول» و«المنابع» مع ترويج حيي أحيانا لبعث «الخلافة» كإطار سياسي جامع لدار الإيمان!
وليس من التجني على التنظــيمات والأنظمـة التي حكمت باسم الإسلام وتحت رايته، القول إن الشيوعية قد شغلتها بأكثر مما شغلها الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين ثم تمدده الى أراضي دول عربية بينها مصر وسوريا ولبنان ثم الأردن بعدما حوله ذلك الاحتلال من إمارة الى مملكة.. هاشمية.
وثمة أكثر من تجربة للحكم باسم الإسلام أبرزها – في هذه اللحظة – النظام الإيراني ومن ثم النظام في تركيا، وكل من النظامين يقدم تجربة مختلفة كل الاختلاف عن تجربة الآخر… ومن باب التبسيط المخل بالمعنى أن يُنسب التركي الى تنظيم الإخوان المسلمين بطبعته العربية، وأن يُنسب الإيراني الى الشيعة الإمامية التي لم تعرف لها تجربة سابقة في الحكم.
وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن الحكم في تركيا الآن والذي يقوده «الإخوان» لم يبدل جوهره في أساسيات العلاقة سواء مع الغرب عموماً، بالولايات المتحدة الاميركية أساساً ومن ثم الحلف الأطلسي، أو مع الكيان الإسرائيلي. على الرغم من «الأزمة العارضة» التي أثارها اعتراض القوات الخاصة الإسرائيلية طريق الباخرة «مرمرة» حاملة المعونات الغذائية وبينها حليب الأطفال الى «غزة المحاصرة»، وقتل تسعة من المتطوعين على ظهرها، ومن ثم أسرها واعتقال مجموع من كانوا عليها والإصرار على محاكمتهم.
وفي آخر الأخبار عن ذلك الحادث الذي ضخمته الحكومة التركية الى أقصى حد، إعلامياً، ثم سحبته فجأة من دائرة القرار، أن المدعي العام التركي قد تلقى – قبل أيام – تعليمات من الحكومة «بتجميد كل الإجراءات القانونية ضد المحافل السياسية والعسكرية في إسرائيل والتي اعتبرت متورطة في الاعتداء على السفينة مرمرة..».
تضيف الأخبار، التي نشرتها صحيفة «يديعوت احرونوت» الإسرائيلية، أن أنقره قد تنازلت عن دعواها ضد إسرائيــل، وحتى عن طلب الاعتذار منها عن هذه الجريمة الموصوفة التي شهد عليها العالم أجمع.
لتركيا، بالطبع، الحق في رسم السياسة التي تراها ملائمة لمصالحها الوطنية، لكن من الضروري أن يحاكم «العرب» هذه السياسة في ضوء مصالحهم الوطنية والقومية، وضمنها بالتأكيد قضية فلسطين.
فتركيا الإخوان المسلمين ما تزال تقدم التنازل تلو التنــازل للــغرب طلباً لقبولها في الاتحاد الأوروبي فلا تلقى غير الصد، الذي قارب حدود الإهانة.
وتركيا الإخوان المسلمين قد وافقت، مؤخـراً، على ما رفضـته دول أوروبية كثيرة، وهو المطلب الأميركي بنشر شبكة الصواريخ المضادة للصواريخ في أراضيها، ومن البديهي ان تثير هذه الشبكة قلق إيران والعراق وسوريا، إضافة الى روسيا، وهي المعنية أساساً به، بطبيعة الحال.
وبديهي ان هذا الالتزام بأمن الغرب لا يتطابق تماماً مع تنظيرات وزير الخارجية التركية أحمد داود أوغلو عن «العثمانية الجديدة»، وليس مصدراً لطمأنة المسلمين في مختلف ديارهم.
في هذا المجال تحديداً تكاد تنعدم الفروق بين الأنظمة العربية التي تحكم باسم «السلفية» وبين النظام التركي الذي يحكم باسم «الإسلام المستنير» معتمداً سياسة «صفر مشكلات» مع دول الجوار… فالكل عند الغرب ومع الغرب لا فرق بين نظام وآخر إلا بالشعار.
وهذا يطرح جدياً مواقف الإسلام السياسي بطبعاته المختلفة من القضايا العربية عموماً، ومن القضية الفلسطينية على وجه التحديد… كما انه يطرح سياسات المرجعيات الإسلامية للنقاش المفتوح: هل تحدد «إسلامية» الحاكم سياساته تجاه العالم، وتفرز الصديق عن العدو، ام تتحكم بها المصالح شأنه شأن أي حاكم آخر، علمانياً كان ام يقول بالشريعة مصدراً للتشريع؟
بل إن هذا الأمر يطرح مسألة الدين كمرجعية في سياسات الدول ومصالحها… خصوصاً أن التاريخ يخلو من نموذج صالح لاعتماده دليلاً على نجاح «الدولة الإسلامية» في أي زمان ومكان. فدولة الخلافة قد تحولت بعد الخلفاء الراشدين الأربعة مباشرة الى إمبراطورية شعارها الإسلام لكن حكمها لعائلة تمتد جذورها الى النسب الشريف، لكن ممارساتها تستند الى مصلحة الحكم والحاكم وعائلته اولاً وأخيراً، وبمعزل عن الطقوس.
[[[[[[
هل من المبالغة القول إن الثورة الإسلامية في إيران قد اكتسبت شيئاً من وهجها عبر رفعها «فلسطين» راية لها، وقطع العلاقة مع إسرائيل وتقديم سفارتها في طهران، وهي بحجم حي كامل، الى قيادة الثورة الفلسطينية بشخص ياسر عرفات؟!
طبيعي والحال هذه ان تستقـبل تصريحـات بعــض قيــادات الإخوان المسلمين في مصر وتونس حول الصلــح في إسرائيـل والمـوقف من القضية الفلسطينية بشيء من الاستهجان بل والرفض الشعبي، عربياً.
وطبيعي ان يتنبه الناس الى تبــاهي حاكم قطر، الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، وهو كان السبّاق الى إقامــة علاقة رسمية مع إسرائيل عبر فتح مكتب تمثيلي لها في الدوحة، بأنه يتحــدر من صلب الإمام محمد بن عبد الوهاب، وأنه «وهابي» قبل الأسرة الســعودية، فهو من بني تميم، وهو بالتالي الأســاس في الدعوة الوهــابية (السلفية)، وتأكيداً لهذا كله فقد قام ببناء واحد من أضـخم المســاجد في العالم باسم «جده»، مؤسس الوهابية التي يســتند اليها الحــكم السعودي من دون أن يشعر بأي تناقص بين هذا التباهـي وبين الادّعاء أنه في طليعة مناصري «الربيع العـربي» و«مفجــري الثوــرة العــربية»، وأن يكون ضيف الشرف في احتفال تونس بالذكرى الأولى لتفجر انتفاضة محمد البوعزيزي الذي أشـعل فتـيل الثـورة حـين أحـرق نفسه بسبب من الأزمة المعيشية في بلدته الفقيرة في الجــنوب التونسي.
على أن النظام الذي سوف تســتولده الثــورة في مصــر، والـذي برزت مقدماته عبر الانتخابات النيابية التي مكــنت الإخـوان المسلمين من تصدر المشهد السياسي، يليهم مباشرة «السلـفيون» من جـماعة حزب «النور»، سيكون المفصـل في تقـويم تجربــة التنظيــمات الإسلامية ومدى تطابق سياساتها مع شعـاراتهـا التي رفعتــها وناضلت من اجلها فقمعت ثم تمت المسـاومة معها فتـم إشـراكها ـ جانبياً ـ في المجلـس النيابي الأسـبق (قبل الأخير في عهد حسني مبارك).
ومن الطبيعي ان يتفجر النقاش عفياً، مستوعباً تاريخ التجارب والتحولات التي مر بها الإسلاميون، والإخوان منهم تحديداً، على امتداد العقود السابقة.
كذلك فمن البديهي أن يدقق الجمهور في طبيعة الفروقات التي تميز الإخوان عن السلفيين وقد بات الطرفان قريبين من السلطة او شريكين فيها بهذه النسبة او تلك.
هي مرحلة جديدة في التاريخ الســياسي العــربي: ها هــم الإسلاميون يتقدمون من موقع القرار في أكثر من عاصــمة عربيـة، والمجال مفتوح أمامهم لكي يثبتوا جدارتهم بإدارة شؤون البــلاد، متخففين من نزعة الثأر والانتقام من ماضي الاضطهاد، والقدرة على إعادة صياغة «النظام العربي» بما يتلاءم مع طموحات الشعوب العربية ومطالبها.
وفلسطين هي الامتحان الأخطر سياسياً حتى لو تقدمت عليها المطالب الاجتماعية – الاقتصادية في معظم الأقطار التي وصل او اقترب فيها الإسلاميون من مركز القرار.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية