ليس مبالغة القول إن محاكمة الرئيس المصري المخلوع، حسني مبارك، هي محاكمة لأهل النظام العربي جميعاً، في المشرق والمغرب وبين بين.
إنها محاكمة لسياسات ونهج وممارسات في الحكم كادت تكون معتمدة، بالعدوى أو بالاقتباس أو بالتقليد، في مختلف الدول العربية التي قفز الى سدة الحكم فيها، في لحظة تخلٍ، رجال بلا تاريخ وبلا تجربة والى حد كبير بلا ثقافة، متكئين على انتفاء السياسة في مجتمعات تم «تطهيرها» تماماً من القوى السياسية المنظمة في أحزاب وهيئات ونقابات، لتحل محلها تنظيمات تم تركيبها على عجل، وببرامج ملفقة أعدها كتبة السلطان، لتضفي الطابع الشعبي على الحكم الفردي الذي يستند – أولاً وأخيرا – الى الأمن، بأجهزته المختلفة وبعدائه المكين للأحزاب ذات البرامج، وللجماهير عموماً، إلا تلك «المعلبة» والتي يجري حشدها وتحريكها بالطلب.
حتى في الدول التي كانت فيها أحزاب عريقة وذات تاريخ في النضال، اختلس النظام شعارات الحزب، وأعاد تكوينها – بالحذف والإضافة – حتى صارت حشداً من الحزبيين القدامى المتعبين والمرغوب بوجودهم كواجهة «تاريخية»، في حين تم «تعيين» الموظفين محازبين، وأضيف إليهم حشد من منافقي السلطة، أي سلطة وكل سلطة، والمرتزقة والدهماء وأبناء السبيل… وكل ذلك من أجل طمس حقيقة «الحكم الفردي» الذي عصبه «الأمن» بفروعه المختلفة.
في غمضة عين صار لكل حاكم حزب حاكم… هو بديل من الأحزاب الحقيقية جميعاً. ثم إن هذا الحزب المستولد حديثاً، بقوة السلطة، صار القناع الشرعي للحاكم الفرد.
من باب التفكهة ليس إلا، نستذكر طرفة تروى عن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إذ انه «مازح» أحد الصحافيين سائلاً: هي إيه حكايتك بالضبط.. نقول، هنا في القاهرة، «الاتحاد القومي» فتباشر أنت حيث تقيم التطبيل والتزمير لهذا التنظيم الذي نحاول، بعد، بناءه… فإذا بدلنا الوجهة وباشرنا إنشاء «الاتحاد الاشتراكي» تندفع فوراً في الترويج للحزب الجديد الذي بالكاد تم استيلاده هنا.
ورد الصحافي متظرفاً: أنا، يا سيادة الرئيس، لست إلا طبالاً زماراً، أقف في الخلف، فأردد الهتافات التي يطلقها من هم في الأمام!
حتى في اليمن صار للحاكم حزب، فالسلطة مصدر منافع، وبطاقة الانتساب جواز مرور الى السلطة (نيابة، وزارة، إدارة، شركات، مواقع ممتازة في القطاع العام، تسهيلات استثنائية لرجال القطاع الخاص الخ).
أما في البلاد التي كان فيها حزب حاكم، مثل تونس، فقد أجرى من جاء بالانقلاب بعض التعديلات على الاسم التاريخي، مع إحلال رجال النظام الجديد في المواقع القيادية، بدلاً من أولئك الذين استهلكهم الرئيس السابق، وكذا الأمر في النقابات وفي منظمات الشباب وصولاً الى الخلايا في المدن والأرياف حتى يضمن الحكم الجديد ولاء الحزب القديم بعد «تجديده».
أما حيث كان لا بد من إبقاء الحزب باسمه الأصلي للإفادة من رصيده أيام النضال، كما في الجزائر، فقد تم تجويف الحزب بإبعاد كادراته الأساسية (بالنفي أو بالسجن أو بالتهميش) ليصير قراره تعبيراً عن إرادة الرئيس الفرد الذي صار يختصر البلاد كلها بشخصه، وأحياناً بأسرته.
على أن النموذج العراقي كان الأكثر فظاظة وقسوة، اذ استبدل القائد الحزبي القادم على ظهر دبابات الجيش، صدام حسين، قيادة الحزب جميعاً، وقيادة الجيش، وقيادات المنظمات والهيئات، وحاكم وأعدم، أو أعدم من دون محاكمة، الكثير من القيادات التاريخية للحزب، وكذلك بعض القيادات التي أتى بها شخصياً، بعد اشتباهه بولائها أو مخالفتها لحرفية التعليمات والأوامر التي أصدرها، حتى صار الحزب قائداً فرداً يحكم بمسدسه ومجموعات من الموظفين والمتعيشين والأقارب وأبناء العشيرة أو الجهة المخلصين والذين فتحت لهم أبواب الدولة كغنيمة فتقاسموها تحت نظره وإشرافه. أما الشعب فظل خارجاً، ينافق ليعيش، فإن حام الشك حول ولاء بعضه تمت إبادته بالكيماوي.
في سوريا كان الأمر مختلفاً، فقد حسم الرئيس الراحل حافظ الأسد صراعاً دموياً طال أكثر مما يجب بين تيارات متعددة داخل الحزب، حتى تم له تولي السلطة تحت شعار «تصحيح مسيرة الحزب» الذي كان قد بات لتنظيمه العسكري الدور الحاسم. وهكذا أمكنه أن يتولى السلطة وأن يقدم نفسه بوصفه مخلص سوريا من مسلسل الانقلابات العسكرية التي أنهكتها وشطبت دور هذه الدولة المؤثرة بموقعها الحاكم في المنطقة، وكانت فلسطين هي كلمة السر التي فتحت له الأبواب المغلقة، وما من شك أنه اكتسب مزيداً من الشرعية عندما شاركت سوريا، تحت قيادته مع مصر في حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973.
لكن هذا الحزب الذي ما زال يتولى الحكم، نظرياً، في سوريا، قد أصابه داء الشيخوخة، تماماً كما أصاب الأحزاب الشيوعية في أواخر أيام الأنظمة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي وباتت مفاهيمه وتعاليمه تنتمي الى عصر مضى وانقضى ولن يعود، ولم يعد ينفع التمويه في إخفاء حقيقة مركز السلطة، وهو أمني اولاً وأخيراً، تماماً كما كانت هي الحال في مصر أو تونس قبل الثورة، وفي الجزائر في حالها الراهنة.
من هنا فإن هذا الحزب الذي شاخ فكراً وممارسة وتحول الى طابور من الموظفين والانتهازيين، لم يعد قادراً على إثبات وجوده الفاعل في مواجهة حركة الاعتراض الشعبي الواسع التي تفجرت في سوريا طلباً للإصلاح الذي يجري الحديث عنه منذ سنوات دون أن يعرف طريقه الى النور، برغم تعهد الرئيس بشار الأسد بإنجاز القوانين والإجراءات اللازمة، وتجاوز النص بأن حزب البعث هو قائد المجتمع والدولة.
وفي تجربة سوريا بالذات ثبت أن نجاح النظام في نسج سياسة خارجية متوازنة تمنحه دوراً مهماً في سياسات المنطقة، لا يعوض أو هو لا يلبي مطالب الشعب واحتياجه الى التغيير في اتجاه الديموقراطية.
أما ما حدث ويحدث في ليبيا ولها فلا يمكن تناوله إلا في سياق مختلف تماماً، وتحت عنوان الهجوم المضاد على حركة الثورة العربية التي انطلقت من تونس وقاربت الاكتمال في مصر، وشجعت قوى المعارضة الحية على الجهر بمطالبها المزمنة كما في الجزائر والمغرب وصولاً الى البحرين، وقدمت دفعاً عظيماً لحركة التغيير في اليمن.
لقد أفاد الغرب من حركة الاعتراض الشعبي الواسع على الحكم الدكتاتوري المزمن للعقيد معمر القذافي وأسرته، والتي تفجرت في الشرق الليبي، بعيداً جداً عن العاصمة وتمت مواجهتها بعنف دموي لم يسبق له مثيل… وهكذا تم تشريع التدخل الدولي، عربياً في البداية، ثم عبر مجلس الأمن الدولي، وبذريعة حماية الشعب الليبي… ويمكن قراءة العبارة بشكل أصح إذا ما وضعنا كلمة النفط مكان كلمة الشعب.
والحقيقة أن خطر التقسيم بدأ يلوح كمستقبل محتمل لهذه الأرض الغنية بنفطها، والغني شعبها بتاريخ نضاله في مواجهة الاستعمار (الإيطالي خاصة)، والتي تتحكم بمصيرها أسرة تحتكر السلطة والثروة والسلاح ويقاتل قائدها الابدي شعبه.. وإن وفر له التدخل الغربي، عسكرياً وعبر العقوبات، الفرصة للادعاء أنه إنما يخوض معركة تحرر جديدة.
وبالتأكيد فإن هذه التطورات الخطيرة في ليبيا يمكن أن تدرج بوصفها طليعة الهجوم المضاد على حركة الثورة التي فجرتها إرادة الشعوب المقهورة بأنظمة حكمها الدكتاتورية المتخلفة والمعادية لنور الشمس.
وها هو الغرب يستعين ببعض أهل النفط من الحكام العرب الذين يخافون شعوبهم وثوراتها، بينما يشكل هذا الغرب مصدر حمايتهم الدائمة، لمحاصرة حركة الثورة العربية، لا سيما وقد عرفت بدايات ناجحة في مصر أساساً، ومن بعدها في تونس، تؤهلها لأن تتكامل محققة طموحات شعوبها، مما شجع حركات المطالبة بالتغيير في أنحاء أخرى من المغرب العربي (الجزائر والمغرب) كما في المشرق (البحرين واليمن) على رفع سقف مطالبها…. كما أنه حرض السوريين على مطالبة النظام بالمضي قدماً في عملية الإصلاح التي لم يعد ممكناً إرجاؤها.
وهكذا يعود الاستعمار الى هذه الأرض العربية المروية بدماء الشهداء مموهاً بكوفية وعقال، بحيث يستطيع أهل النفط العربي، ملوكاً وأمراء، أن يحتلوا واجهة الصورة، وكأنهم قيادة الصمود والتصدي للثورة الجديدة، وان ظل الأمر لصاحب الأمر في البيت الأبيض بواشنطن يوزع شهادات حسن السلوك والنصائح بالإصلاح وإطلاق حرية الجماهير على الأنظمة الأخرى التي شقت عصا الطاعة وحاولت انتهاج سياسة وطنية تأخذ بمبادئ الديموقراطية من دون أن تنسى فلسطين، ولا ترفض منطق السوق ولكنها تراعي – بداية – مصالح شعبها.
وها هو المثال المصري يتكامل، يوماً بعد يوم، مقدماً النموذج لثورة ناجحة بالشعب الذي لا يتعب من الإثبات أنه القيادة، وأنه يعرف بالضبط ما يريد.
ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية