الانتفاضات الشعبية كانت في أساسها حركات اعتراض وطني على سلوك خاطئ للنظام، ولم تكن طائفية، لا في مطالبها ولا في سياق نضالاتها… لكن التدخل الخليجي بالقيادة القطرية أخذ يحرف الانتفاضات عن وجهتها، ويدمغها بالطابع المذهبي استنفاراً لسنة المنطقة.
بين تفجر المجتمعات العربية بالانتفاضات الشعبية التي اتخذت من «الميدان» منصة لمواجهة أنظمة الطغيان، وحالة الضياع وافتقاد الطريق إلى المستقبل التي تسود الآن في مختلف أرجاء الوطن العربي، تتبدى الحاجة ملحة إلى إعادة تقييم «لتحولات»، وأداء «القيادات» والقوى السياسية المختلفة لإنجاز التغيير، للخروج من دوامة التساؤل والحيرة الآخذة إلى اليأس.
هل تاهت الانتفاضات عن أهدافها لأنها لم تكن موحدة القيادة، محددة البرنامج؟ وهل فوجئت القيادات والقوى السياسية القائلة بالتغيير والعاملة له بأن «السقوط» جاء أسرع من التوقع، فلم تعرف كيف تتصرف في مواجهة الفراغ في قمة السلطة، تاركة لقوى الإسلام السياسي ذات التاريخ العريق في فنون الانقلابات، أن تفيد من الفرصة للقفز إلى سدة السلطة، بينما هي مشغولة بأسباب فرقتها وبعجزها عن صياغة برنامج للحكم بزخم جماهيرها والشوق العظيم إلى التغيير؟
وهل ترى هذه القوى قد أفاقت من غفلتها بعدما كوتها التجربة المرة فتنبهت إلى وجوه ضعفها وعكفت على إعادة صياغة برنامجها مستوعبة الدروس، مدركة دور «الخارج» في عملية التغيير، وفي تشجيع «الإسلام السياسي» على خوض المغامرة… خصوصاً ان هذا «الخارج» يعرف بالدقة حجم التأييد الشعبي لقوى الإسلام السياسي ووجوه النقص في برنامجه، ثم حتمية أن يلجأ إليه لتمكينه من السلطة بالتأييد السياسي – ولو متلبساً ـ والدعم الاقتصادي ـ ولو محدوداً، وبشروط قاسية، مع إبقاء الباب مفتوحاً أمام قوى «الميدان» التي استمرت في موقع المعارضة كوسيلة لتدجين الإسلام السياسي وضبط حركة التغيير ضمن حدود ما لا يمس مصالح «الخارج»؟
ثم.. هل يمكن الحديث عما آلت إليه ثورة «الميدان» في مصر من دون التوغل في التطورات التي شهدتها الانتفاضة في تونس وقد غدا الإسلام السياسي الطرف الرئيسي في سلطتها؟ وهل يمكن تجاهل ما آلت إليه الأوضاع في ليبيا ما بعد القذافي ومخاطر الحرب الأهلية التي تتهدد هذه الدولة؟
وهل يجوز الفصل بين التطورات الدراماتيكية التي تشهدها مصر وتونس وليبيا وما يجري في دول المشرق العربي، وتحديداً سوريا التي يقاتل نظامها ضد معارضات عديدة بعضها يمثل تنظيمات أصولية وسلفية وافدة من الخارج البعيد، استولت على موقع القيادة في مواجهة النظام الديكتاتوري، ما جعل كثيرين يعيدون النظر في الشعار الذي كان مرفوعاً وجامعاً: «الشعب يريد إسقاط النظام». فليست هذه الجماعات هي «الشعب»، وإن كانت هذه الواقعة لا تدفع – آلياً – إلى إعادة الاعتبار إلى هذا النظام الذي يتحمل المسؤولية الأولى والأخطر عما أصاب سوريا من تدمير.
وخسارة دور سوريا، في موقعها الاستراتيجي المؤثر، كارثة قومية بقدر ما هي أرباح صافية للعدو الإسرائيلي، يجنيها من دون قتال تقريباً..
فأهل النفط العرب يقاتلون بالنيابة عنه، ويجمعون أشتات المقاتلين الإسلاميين، وفيهم نسبة ملحوظة من غير العرب، لإسقاط النظام بذرائع طائفية، متغافلين عن سجله الذي يتضمن نقطة مضيئة: مشاركته في حرب رمضان – العبور (1973).
ثم أن خسارة سوريا تستتبع مباشرة خسارة العراق، ودوره الذي كان ذات يوم محورياً في الصراع العربي الإسرائيلي، وكان مصدر أمل في نهوض عربي شامل، لأنه كان يملك مقدرات ممتازة، اقتصادياً وعسكرياً وعلمياً.
على أن الأخطر بين التطورات التي يشهدها المشرق العربي هي المحاولات الجارية لحرف الصراع السياسي عن مساره ودفعه في اتجاه الفتنة الطائفية… فيتم تصوير المواجهات الجارية حالياً بين النظام الحاكم في بغداد (كما في دمشق) وبين الجماهير الغاضبة من القصور أو التقصير فضلاً عن الممارسات البوليسية، بأنها «ثورات ضد الهيمنة الشيعية – العلوية – على القرار السياسي في دول سنية».
وبالطبع فأن هذه محاولة لتشويه الانتفاضات الشعبية، التي كانت في أساسها حركات اعتراض وطني على سلوك خاطئ للنظام، ولم تكن «طائفية» أصلاً، لا في مطالبها ولا في سياق نضالها السياسي… لكن التدخل الخليجي، ودائماً بالقيادة القطرية التي انتدبت نفسها لإنجاز «الثورة» المذهبة في الوطن العربي، أخذ يحرف هذه الانتفاضات عن وجهتها الأصلية، ويدمغها بالطابع المذهبي استنفاراً لسنة المنطقة، الذين يتبدون مظلومين ومقهورين بالهيمنة الإيرانية.
إيران موجودة، بالطبع، في المشرق العربي، وفي أفريقيا وأميركا اللاتينية كما في مجمل الدول الإسلامية.
لكن هذا الوجود «سياسي» بالدرجة الأولى، وهو يفيد أولاً وأخيراً من الفراغ السياسي الذي تسببت فيه أنظمة الطغيان في مجمل أنحاء الوطن العربي.. وحتى لو حاولت إيران دغدغة مشاعر «الشيعة» وتثميرها في السياسة، فإنها تبقى محدودة التأثير سياسياً، إذا كان الشعب في أي من هذه الدول المعنية يعيش حياة طبيعية، وترعاه دولته بوصفه شعباً وليس تجمعات طائفية ومذهبية، بعضها يحمل ذكريات مؤلمة عن استبعادها وحرمانها من المشاركة في السلطة في بلادها. والرد على «التغلغل الإيراني» يكون بتأكيد وحدة الشعب عبر عدالة الدولة في التعامل مع مكوناته المختلفة. فالدولة تكون دولة الجميع أو لا تكون دولة. ويمكن للخارج أن يفعل فيها وأن يلعب على غرائز الجماعات، ومحاولة إثارة الفتنة، والتقدم لإسباغ حمايته على بعضها من البعض الآخر.
ولدى اللبنانيين تجربة تاريخية حافلة في هذا المجال… فمنذ قرن ونصف القرن تقريباً، تقدمت «الدول» فقررت فرنسا أن تكون مرجعية الموارنة، وروسيا مرجعية الأرثوذكس، وبريطانيا مرجعية الدروز، على أن يبقى السنة في رعاية السلطان، وأهمل الشيعة الذين لم يتقدم أحد لرعايتهم، بما في ذلك إيران.
وفي العودة إلى أساس الموضوع لا بد من التأكيد على الجوهر السياسي للانتفاضة الشعبية، مع الأخذ بعين الاعتبار تجارب الحكم في دول المشرق التي ابتدعتها الإرادة الأجنبية، فرسمت حدودها، وفق مصالحها، وقررت طبيعة الأنظمة الحاكمة، المحافظة على وجوه التميز بين عناصر الشعب الواحد في توزيع مواقع السلطة.
لقد تجدد الحديث في المشرق عموماً عن معاهدة سايكس ـ بيكو (1916) التي عقدت بين الاستعمارين الفرنسي والبريطاني لتقاسم المشرق العربي، فاقتطعت أجزاء من سوريا لتقوم منها إمارة شرقي الأردن استرضاء للهاشميين بعد «طرد» الملك فيصل الأول من دمشق، وضمت أجزاء أخرى منها إلى متصرفية جبل لبنان لتصير «الجمهورية اللبنانية» على صورتها الراهنة، كما اقتطعت منها منطقة الموصل وضمت إلى العراق تحت الانتداب البريطاني نتيجة لاكتشاف النفط فيها.
والتركيز على الطوائف حالياً، بدلاً من الحديث عن طبيعة الأنظمة وعلاقتها بالديموقراطية وحرصها على وحدة الدول في المشرق العربي، يبدو وكأنه تمهيد لأنواع جديدة من التقسيمات السياسية تلبية لمصالح الدول الأجنبية، بعد إعادة صياغتها، والآن بمساعدة خليجية واضحة… وليس ضرورياً تجديد الحديث عن دور قطر في المأساة السورية، أو عن حملاتها التحريضية لتقسيم العراق على قاعدة طائفية (بعد تكريس تقسيمه على قاعدة عنصرية كعرب وكرد وتركمان..).
فإذا كانت مصر مشغولة بهمومها الناتجة عن استيلاء تنظيمات الإسلام السياسي على السلطة فيها، مع الاستعداد للانغماس في لعبة الصراع بين المذاهب، فإن المرجعية العربية الأساسية تتبدى غائبة أو معطلة في دورها التوحيدي، الذي يؤكد وحدة الشعوب العربية في أهدافها ويعيدها إلى الميدان الأصلي لنضالها: بناء الدولة القوية، ومواجهة العدو الإسرائيلي الذي لم يعد «خارجياً» بل هو موجود وفعال في لعبة الصراع المذهبي، وأعظم المستفيدين من الانشقاق السني – الشيعي، الذي يعمل الكثيرون لتحويله إلى مواجهة بالسلاح.
إن تجاهل حقائق أصلية أبرزها وحدة شعوب هذه المنطقة، العربية بالهوية على تعدد أديانها ومذاهبها، يبرر لصعود الطائفية والمذهبية باعتبارها السلاح الأخطر في مواجهة الانتفاضة وهي تتقدم على طريق إنجاز التغيير الثوري.
ومصر ليست في منجاة من الفتنة… وفضلاً عن إعادة تحريك «القضية القبطية» ثمة من ينفخ في نار الصراع السني – الشيعي، علماً بأن ليس في مصر من الشيعة إلا عشرات الآلاف الغارقين في بحر ملايين السنة، والتي لم يكن لهم في أي يوم مطالب سياسية.
وإذا كانت الفتنة الطائفية متعذرة في ليبيا فالفتنة بين الأعراق ممكنة، وها هو الحديث يتجدد عن حقوق الامازيغ، فضلاً عن حقوق كل «ولاية» في استعادة استقلالها على أساس قبلي.
إن الفتنة هي الخطر الأعظم الذي يتهدد الانتفاضات العربية، خصوصاً أنها مؤهلة لاستيعاب «الدول» ومشاريعها في الهيمنة مجدداً على المنطقة، باستخدام الطائفية هذه المرة.. فحذار الفتنة!
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية