طلال سلمان

مع الشروق « الفتح» العربي الثاني لبلاد المغرب: الذهب يحاول محاصرة الانتفاضات!

لا الزمان هو الزمان، ولا الرجال هم الرجال، ولا الذهب الأسود يقوم مقام الرسالة والجهاد المقدس لنشرها باختصار: ليس بين قادة مجلس التعاون الخليجي وهم ملكان وسلطان وثلاثة أمراء، كانوا في الأصل شيوخ قبائل، من يستطيع الادعاء بصلة قربى أو نسب أو تواصل أو تشابه ببطلي الفتح الإسلامي لبلاد المغرب التي صارت بعدهما «عربية»: عقبة بن نافع وموسى بن نصير وكوكبة المجاهدين الذين انطلقوا معهما من أدنى المشرق الى أقصى المغرب، بزخم إيمانهم بالدين الحق وواجب هداية الناس وإخراجهم من الجاهلية والوثنية الى نور الإسلام.
لا مجال لادعاء صلة ما، بين قادة مجلس التعاون الخليجي وأولئك المجاهدين الميامين الذين وضعوا أرواحهم على أكفهم وقطعوا الفيافي والصحارى والأدغال، وواجهوا جيوشاً إمبراطورية ومقاومة معترضين محليين، متحملين المشاق الهائلة التي أهوتها بعد المسافة ونقص الزاد ومر العطش، وليس بين أغراضهم السلطة أو الثروة أو استعمار بلاد الآخرين، بل التبشير بالدين الحنيف الذي يعزز في الإنسان كرامته ويحرضه على انتزاع حقوقه في الخبز والحرية وبناء الحياة التي تليق بأكرم مخلوقات الله.
ولم يعرف عن هذا المجلس قدرته على المبادرة البعيدة المدى سياسياً وجغرافياً (أكثر من عشر ساعات طيران ما بين الرياض والرباط)، واقتحام المستقبل فكراً وعملاً وهو لما ينجح حتى في توحيد مملكتيه والسلطنة والمشيخات التي صارت إمارات، وإسقاط الحدود الملغمة بالخلافات في ما بينها، والتي غالباً ما تولت الإدارة الاميركية طيها أو سحبها من التداول بإقامة قواعدها العسكرية هائلة القدرات فيها (قاعدة العيديد في قطر وقد كانت أرضها موضع تنازع بين الإمارات والسعودية وقطر ذاتها، وتلاقى الجميع في حراسة الصديق الأكبر..).
ومعروف أن ثمة أزمات مكتومة بين كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة متروكة للزمن واحتمال العثور على صيغة لاقتسام الرمال المذهبة في واحة البريمي ومن حولها، وكذلك بين الإمارات وسلطنة عمان كادت تتفجر اشتباكات عسكرية قبل أسابيع قليلة، واضطرت الكويت الى بذل مساعيها الحميدة لتجميد الازمة في انتظار ابتداع حل يرضي السلطنة الفقيرة التي لا تزال تنظر الى الإمارات على انها دولة أقيمت بقوة الأجنبي على أملاك السلطان… فضلاً عن الخلافات القائمة بين البحرين وقطر حول جزيرة «حوار» والثروات الفلكية من الغاز التي تستبطن مياه الخليج العربي.
معروف أيضا ان هذا المجلس الذي تجاوز عمره ربع قرن من الزمان لم ينجح حتى اليوم لا في توحيد العملة وجواز السفر ولا في إلغاء الحدود، وان كان استطاع أن يعزل أعضاءه في ناديهم المذهب بعيداً عن جامعة الدول العربية التي تعاني – راهنا – من إفلاس سياسي فــضلاً عن إفلاسها المادي، مما حفز المجلس المذهب على المطالبة بمقعد أمينها العام، مسقطاً العرف الذي حصر هذا المقعد بمصر، ليس فقط لأنها الدولة المضيفة بل أساساً بسبب من حجمها وأهمية دورها وكرامة موقعها في قلب أمتها العربية.
معروف أخيرا ان هذا المجلس كان يتصرف مع سائر الأشقاء العرب الفقراء كجمعية خيرية، فيبادر- إذا ما أصابتهم نكبة طبيعية أو دهمتهم إسرائيل بعدوان واسع – الى إرسال بعض المساعدات العينية، كالخيام وصناديق الأدوية ومستشفيات الميدان – أو ربما سخا أكثر، فتعهد بإعادة بناء ما هدمته الاعتداءات الإسرائيلية كما جرى في لبنان في أعقاب الحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز (يوليو) 2006.
باختصار: كان مجلس التعاون الخليجي الى ما قبل تفجر الأرض العربية بالانتفاضات الشعبية «يرعى» أنظمة الاعتدال، عموماً، ويدعمها دعماً محدوداً و«يجامل» أنظمة الممانعة بتقديم مساعدات وهبات معقولة، معظمها للقادة والمتنفذين، وأقلها لمشاريع مشتركة، أغلبها استثمارات تعود على بعض أمرائه وشيوخه بالربح، متجنباً الدخول – كطرف – في أي نزاع معتمداً القاعدة الذهبية القائلة: اشتر ِ المشكلة قبل أن تنفجر، فمهما دفعت لحسمها سيظل أقل كلفة من خسائر جراء تداعياتها.
بالمقابل كان مجلس التعاون يفتقد الوحدة في الموقف من إيران التي كان يسلم بهيمنتها في أيام الشاه، ثم أرعبته الثورة الإسلامية فيها فاندفع قادته يحرضون حاكم العراق صدام حسين ويتعهدون بتقديم الدعم له بغير حدود إذا هو خلصهم من «ولي الفقيه» العجوز وآية الله الخميني، الذي جاء من الغيب، ليقود إيران تحت راية الاسلام، وهو بضاعتهم، محرضاً رعاياهم عليهم… وهكذا اشتروا له السلاح من دول الكفر الشيوعي، وفتحوا موانئهم لبوارج الغرب المسيحي، وتركوه يذهب الى الحرب، وقد وعدوه بجوائز عظيمة.
… وانتصر صدام في الحرب العسكرية ولكن بكلفة باهظة، وتجرع الخميني «كأس السم» عبر القبول بوقف إطلاق النار. خرجت الدولتان من الحرب التي امتدت ثماني سنوات طويلة مدمرتين. وفي حين انكفأت إيران تداوي جراحها التفت صدام الى دول مجلس التعاون، الذي أعلن قيامه رسمياً بعد سنة واحدة من الحرب العراقية الإيرانية التي دامت ثماني سنوات يطالبها بالتعويض، وردت – متشاوفة – بأنها دفعت ما عليها وزيادة. وكان رد صدام حسين بغزو الكويت فاحتلها ذات ليل دافعاً المستقبل العربي نحو جهنم.
ذلك بعض من التاريخ الحديث الذي لا تزال تداعياته تحكم مسار الأحداث في أيامنا هذه: فبعد ستة شهور تتقدم القوات الاميركية معززة بوحدات عسكرية رمزية من بعض الجيوش العربية لتحرر الكويت متوغلة داخل العراق، في حين انصرف صدام الى «تأديب» معارضيه بما يشبه حرب الابادة في الشمال (الكردي) والجنوب (العربي) الذي كان دفع الضريبة الأعظم في الحرب على إيران.
ثم بعد اثني عشر عاماً سوف تتقدم الجيوش الاميركية لاحتلال العراق كله، انطلاقاً من الكويت ومن قواعد لها عديدة في مختلف أنحاء شبه الجزيرة العربية لتفتح صفحة جديدة من مأساة الضياع العربي المخيف.
نعود الى البيان المفاجئ الذي أصدره مجلس التعاون الخليجي اثر اجتماعه الأخير في الرياض معلناً ترحيبه بانضمام (أو ضم) كل من المملكتين الأردنية الهاشمية والمملكة الشريفية المغربية الى عضويته.
كان سبق للملك الأردني الراحل الحسين بن طلال الهاشمي ان تجاوز الخصومة مع آل سعود الذين أسقطوا «مملكة» جده الأول، الشريف حسين وطردوه من الحجاز ليموت لاجئاً في قبرص، ومد الجسور بينه وبين الأسر الحاكمة في مختلف دول الجزيرة، مقدماً خبرات أجهزته الأمنية، وهي مميزة، وعسكره حين تدعو الحاجة (كما في مواجهة جهيمان العتيبة في الحرم الملكي) وبعض عشائره اذا ما تطلب الأمر استحداث توازن طائفي جديد في بعض الإمارات. مع ذلك لم يعرض مجلس التعاون على الملك الذي يتجاوز «رعاياه» من أصحاب الأصول الفلسطينية من بدو الأردن وحضره.
فجأة، وبعد سنوات طويلة من رحيل الملك حسين، وتبدل الأحوال في المنطقة جميعاً يأتي العرض من مجلس التعاون الخليجي الى الأردن بقبوله عضواً في النادي الملكي المذهب، مع تجاوز للإشكالات وسوء التفسير وسوء الظن الذي يمثله الوصول بهذا المجلس الذي ارتدى فجأة البزة العسكرية مؤخراً واجتاح بقواته العسكرية المعارضة السلمية في البحرين، الى الحدود مع فلسطين المحتلة، أي مع العدو الإسرائيلي.
الأعجب، يعلن المجلس ترحيبه بالمملكة المغربية عضواً كامل العضوية فيه، في حين ان الملك محمد السادس، قد تحدر من أرومة الأسرة العلوية، وهم أشراف، ثم ان بلاده التي تحافظ على علاقات رسمية مع الدول العربية، فلا هي تقاربها بأحلام الوحدة، ولا هي تقطع معها توطيد روابطها مع اوروبا القريبة الى حد الالتصاق عبر المضيق الذي يحمل اسم بطل وصول العرب الى اسبانيا، الاندلس، طارق بن زياد، وهو من اصول بربرية «عربه» الإسلام.
ولقد رد المغرب وفق تقاليده الملكية الراسخة (عمر العرش أكثر من ألف سنة، وعمر الأسرة العلوية في الحكم أكثر من ثلاثمئة سنة) فشكر المبادرة معتذراً بأن اهتماماته الوحدوية مغربية، ثم أوفد وزير خارجيته ليبرر عدم قبوله الدعوة الكريمة وان ظل حريصاً على استمرار كرم ضيافته للإجازات الملكية والأميرية، سواء خلال الصيف أو الشتاء أو حينما يريد المتعبون ان يرتاحوا من هموم المسؤولية!
الطريف، معظم المعنيين والمتابعين في الدول المذهبة لمجلس التعاون الخليجي من كتاب ومفكرين ومراقبين سياسيين قد هالتهم المبادرة المباغتة الذين لم يفهموا بواعثها ودوافعها، لا سيما بالنسبة الى المغرب. فإذا كان الأردن هو حارس الحدود الخلفية ومدرب الأجهزة الأمنية تحت الإشراف البريطاني الذي يكاد يصير أميركياً، وبالتالي فإن ضمه قد يكون مكافأة لدوره في خدمة أمن دول المجلس. فإن الأمر مع المغرب مختلف جداً: لا هو في الدائرة الجغرافية، ولا هو من الطبيعة ذاتها (المملكة ذات نظام ملكي دستوري وهي الآن بصدد مجموعة من الإجراءات التي تكاد تكون ثورة دستورية، خصوصاً أنها تضفي طابعاً ديموقراطياً متقدماً على الحياة السياسية في المغرب، وبالتالي فلا شبه ولا تماثل بين أوضاعها وأوضاع الدول المنضوية تحت لواء مجلس التعاون الخليجي).
هل هذا يعني ان المجلس الملكي ينتقل من الدفاع الى الهجوم بعدما بعث الشعار القديم من رقاده: الخوف من إيران التي غدت الآن «شيعية» وتورطت في مناصرة التطرف الشيعي في أنحاء الجزيرة والخليج، بعد العراق ولبنان.. وغزة؟!
ام ان هذه الخطوة الارتجالية بمد الذراع أكثر مما يمكنها وأكثر مما تطيق الى التخم الآخر للوطن العربي تعكس هجوماً مضاداً يتخذ شكل تحصين المواقع في مواجهة موجة الانتفاضات التي تجتاح الوطن العربي.
ثم.. أين اليمن السعيد من هذه المبادرة وهو الذي ينتظر إنجاز وعد قديم بضمه ولو على مراحل الى المجلس المذهب، فإذا بكل ما يدفعه هذا المجلس مبادرة تليها مبادرة ولا ذهب ولا فضة ولا وعد بالبت في طلبه للانضمام الى نادي الأغنياء العرب الذين من أجل أن يحموا ثرواتهم هربوا بتعاونهم بعيداً عن إخوتهم الفقراء الى من يملكون من الخبرات الأمنية ما يستحق المكافأة بعضوية قد تكون ناقصة ولكنها مجزية.. خصوصاً اذا ما ساعدت الأردن على طمس الشراكة الاضطرارية مع الفلسطينيين الذين يمدون أبصارهم نحو وطنهم الذي اشترك الجميع في إضاعته والذي حان الحين لكي يعرفوا أخيرا الطريق اليه كما أثبتت احتفالات هذا العام بذكرى النكبة.

ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية

Exit mobile version