ولدت «العروبة» كتجسيد فكري – سياسي لهوية أبناء هذه الأرض التي طالما حملت اسم «العالم العربي»، قبل أن تفرض على المنطقة جميعاً تسمية بحت جغرافية: «الشرق الأوسط»، الهدف منها طمس هويتها الأصلية ليسهل تمرير «إسرائيل» بديلاً من فلسطين التي كانت وما تزال قلب هذا العالم وأرض القداسة فيه من قبل ومن بعد.
هذا يعني أن إسقاط اسم «فلسطين»، بهويتها العربية كان السبب المباشر في تزوير هوية هذه الأرض وأهلها. فصار «العالم العربي» يعرف باسم «الشرق الأوسط»، أي مجرد جهة تحددها جغرافيا الجهات الأخرى التي تتوسطها، وبالتالي يمكن أن يتضمن اسم «إسرائيل» كعنوان أساسي ومن حولها بضع دول عربية تشكل معها «الشرق الأوسط» من دون أن نعرف ما إذا كان هناك شرق غربي وشرق جنوبي وشرق شمالي وشرق شرقي، وكذلك من دون أن نعرف هوية هذا الشرق الأوسط ومن يتوسط على وجه التحديد!
من اجل «إسرائيل»، فلتسقط هوية المنطقة. ومن أسف أن أهلها لم يعترضوا، بل سرعان ما اندفعوا يستخدمون التسمية الجغرافية المتضمنة إسرائيل وحدها بهويتها بينما بلادهم مجرد جوار معاد لإسرائيل، او انه كان معادياً، ومع قبول التسمية الجديدة تزول أخطر أسباب العداء. فإسرائيل هي من استولد لذلك العالم العربي القديم والتائه عن هويته وعن مصيره اسمه الجديد «الشرق الأوسط»!
لا التاريخ يسند تسمية فلسطين إسرائيل، ولا الجغرافيا السياسية عرفت في أي يوم «دولة» بهذا الاسم، وإن هي عرفت قبيلة أو أكثر باسم اليهود أو الإسرائيليين في ذلك الزمن الذي كان يكفي أن يستولي فيها شيخ قبيلة او متنفذ يجند «جيشاً» من مئات المقاتلين على مدينة وريفها حتى ينصِّب نفسه ملكاً. فالألقاب كانت مجانية ونفوذها ظل محصوراً في إطار القبيلة أو «العزوة». أما اليهود، فكانوا بعض سكان هذه المنطقة وليس بالضرورة في فلسطين. وثمة دراسات تاريخية وأبحاث موثقة تثبت أن «الإسرائيليين» كانوا بعض القبائل في شبه جزيرة العرب، ولم تكن لهم في أي يوم دولة أو أي وجود فعلي في فلسطين. ولعل احد أهم المراجع الرصينة في هذا المجال كتاب الدكتور كمال الصليبي الذي يحمل عنوان «التوراة جاءت من شبه جزيرة العرب». وقد عانى هذا المؤرخ المميز كثيراً من العنت والمكافحة بل والترهيب لمنعه من نشر كتابه الذي رفضت دور نشر بريطانية وفرنسية نشره فنشرته دار نشر ألمانية، ثم صدر بالعربية، وبعد سنوات سُمح بصدوره بلغات أخرى.
لنعد إلى «العروبة» فنذكر أنها اتخذت دلالاتها السياسية عبر حركة التحرر التي تفجرت ثورات شعبية في وجه قوى الاحتلال ولو باسم الانتداب التي سيطرت على المشرق العربي وقسمت أقطاره في ما بينها، وتحديداً بين بريطانيا (فلسطين وإمارة شرقي الأردن التي اقتطعت من البيداء السورية والعراق وما دونه من مشيخات الخليج) وبين فرنسا التي كانت حصتها سوريا ولبنان (مع تعديلات مؤثرة في الحدود وفي مساحة كل من هاتين الدولتين).
وبعدما تبدلت جنسية المحتل وعجز أهل الأرض عن توكيد هويتهم الجامعة، أي العروبة، سياسياً، فقد اندفعوا إلى النضال من اجل حرية بلادهم وهويتهم الأصلية، فاكتسبت العروبة دلالاتها السياسية كمضمون لحركة نضال هذه الشعوب لاستعادة هويتها الأصلية، أي العروبة. تفجرت الأرض بثورات شعبية في مختلف أنحاء لبنان (الجديد) لا سيما في جنوبه وشماله كما في عاصمته بيروت،
وكذلك في أنحاء سوريا التي اراد المستعمر الفرنسي أن ينشئ فيها أربع دول، ولم يتراجع إلا بعدما حطم الثوار الحواجز بين الإخوة في بلادهم. أما في العراق، فقد لجأ المستعمر البريطاني إلى تنصيب ملك هاشمي هو فيصل ابن الشريف حسين (الذي كان ملكاً على الحجاز قبل أن يطرده آل سعود خلال استيلائهم على شبه الجزيرة العربية ـ التي تعرف الآن باسم المملكة العربية السعودية).
نشأت أحزاب «قومية» تنادي بالعروبة، واندفع الرواد من «المجاهدين» ينشئون الحركات السياسية العاملة من أجل «الوحدة»، وأساساً من أجل تثبيت الهوية القومية الواحدة لهذا الشعب الذي وُزع على دول عدة، مع بذل جهود حثيثة لتشويه هويته او تبديلها بأخرى تؤكد انتسابه إلى الكيان السياسي الذي أنشئ حديثاً، فصار فيه «عراقيون» و»سوريون» و»فلسطينيون» و»أردنيون» فضلاً عن «لبنانيين». وتم طمس التاريخ الواحد بالكيانية الجديدة التي صارت تدر المناصب (رئاسة ووزارات وقادة جيوش) والمنافع، وتصور العروبة خطراً على الكيانات وأصحاب المناصب والمنافع فيها ممن كانوا يحظون بدعم المستعمر وحمايته.
ومع تبلور المشروع الصهيوني فوق ارض فلسطين، تهاوت تلك الكيانات، ولم تعجز عن حماية فلسطين فحسب، بل صار هم حكامها حماية مواقع نفوذهم وسلطاتهم. هكذا ذهب العرب إلى «الهدنة» مسلِّمين بهزيمتهم، وإن هم رفضوا الاعتراف بالكيان الإسرائيلي الذي قام واكتسب «شرعية» وجوده بإجماع دولي نادر تنافس على تحقيقه «الغرب الامبريالي» مع «نصير الشعوب وحركات التحرر في العالم الاتحاد السوفياتي ومعه معسكره الاشتراكي».
بعد الهزيمة وفي ظل انعكاساتها، قامت الجيوش العربية التي عادت مهزومة من ميدان فلسطين، بانقلابات عسكرية تولت فيها السلطة في عدد من الأقطار العربية، كان أولها في سوريا 1949، وقد استولد انقلاباً ثانياً فثالثاً فرابعاً، وتخللت الانقلابات فترات قصيرة من السماح بحياة ديموقراطية (انتخابات ومجلس نيابي وحكومة طبيعية). ثم جاء دور مصر، فقام الجيش بحركته الثورية التي أنهت الحكم الملكي وأقامت الجمهورية، وكانت فلسطين والهزيمة أمام الجيش الإسرائيلي هي المضمون السياسي لهذه «الحركة»، وكان «الثأر من الهزيمة» هو بين الدوافع التي بررت التوجه نحو الوحدة السياسية بين مصر جمال عبد الناصر وسوريا التي كان جيشها قد غدا القوة الأساسية ذات الحضور السياسي فيها، خصوصاً وقد عزز توجهه حزب «البعث العربي الاشتراكي» الذي كان قد غدا قوة مؤثرة في الحياة العامة (والجيش ضمناً) بشعاره الثلاثي: وحدة، حرية، اشتراكية. في حين تمت إعادة ترتيب كلمات الشعار في مصر الناصرية لتغدو حرية، اشتراكية، وحدة، وبعد خمسة شهور فقط من إعلان قيام «الجمهورية العربية المتحدة»، قام الجيش العراقي بثورة خلعت الملك فيصل الثاني وأعلنت الجمهورية، وكان مأمولاً أن تتوجه نحو تعزيز دولة الوحدة، لكن قوى سياسية أبرزها الشيوعيون دغدغت نزعة الزعامة لدى الزعيم عبد الكريم قاسم، وحرضته ضد مشروع الالتحاق بدولة الوحدة فاندفع يقاتلها بكل قواه، ملتقياً من حيث لم يقصد بكل أعداء الوحدة وفي طليعتهم المملكة العربية السعودية والمملكة الأردنية الهاشمية (التي كانت قد غادرت الإمارة بعدما أعطيت فائض الأرض الفلسطينية التي لم تكن القوات الإسرائيلية قد احتلتها بعد).
إلى جانب حزب «البعث»، كانت قد نشأت حركات حزبية وحدوية أبرزها «حركة القوميين العرب» وتنظيمات أخرى اقل أهمية في العراق والأردن، وصل إشعاع بعضها إلى لبنان أساساً، وفلسطين طبعاً، ورمزياً إلى مصر وليبيا وتونس كما إلى اليمن فضلاً عن الكويت أساساً وسائر أقطار الخليج، لا سميا البحرين.
وجاءت هزيمة 1967 صاعقة وقاسية في وقعها على الحياة السياسية عموماً والأحزاب القومية خصوصاً، فها هو «البطل» جمال عبد الناصر يسقط في مواجهة العدو الإسرائيلي، ثم يرحل بعدما اعدَّ الجيش للمواجهة، مرة أخرى. وجاء أنور السادات بمنطق معاكس وسياسة مختلفة جذرياً، وهكذا فإنه ذهب إلى الحرب في أكتوبر 1973 لينهي الصراع بالصلح، تاركاً مهمة فلسطين لأهلها والمقادير، مسقطاً الشعارات العربية باعتبارها ضرباً من الشعر الذي يقرضه الحالمون.
بعد خروج مصر من ميدان الصراع العربي ـ الإسرائيلي، سقطت مقولة الحرب، وهكذا ارتضت سوريا حافظ الأسد أن توقع اتفاق فك الاشتباك (1974)، واستمرت الثورة الفلسطينية التي كانت قد تحولت إلى «سلطة» تناضل لاستنقاذ ما يمكن إنقاذه من ثمرات التضحيات الغوالي لأجيال من الفدائيين الفلسطينيين، الذين حظوا في بداية جهادهم بدعم متعدد المصدر بالمال والسلاح والتأييد السياسي. ثم تذرعت قيادة المقاومة بتخلي العرب عنها واندفاعهم إلى الصلح، فاندفعت إلى اتفاق «أوسلو» الذي سمح بدخول الثوار الذين كانوا قد غدوا موظفين رسميين ليكونوا شرطة السلطة في الداخل.
على أن الاسم الرسمي لمصر ما زال يحمل التوكيد على الهوية العربية، وكذلك سوريا، وفي فترة من الفترات كانت ليبيا تضمن اسمها الإشارة إلى عروبتها وكذلك اليمن. ثم أعفت الدولتان هويتهما من هذا العبء، طلباً للسلامة.
وفي أي حال، فإن العروبة كهوية جامعة لهذه الأمة لن تسقط، وإن كان الخضوع للتسمية الاستعمارية للمنطقة أي «الشرق الأوسط» يؤكد الانتصار المفتوح لإسرائيل ومن خلفها قوى الهيمنة الامبريالية.
وفي انتظار أن تعيد الانتفاضات الشعبية بناء الغد العربي، فإن توكيد الهوية القومية لهذه الشعوب ظل أحد شروط الانتصار. وبين ما يحفظ الحق وليس الأمل أن تظل لمنطقتنا هويتها العربية، فهي لم تكن «الشرق الوسط» ولن تكون مجرد جهة جغرافية بلا هوية، لتؤكد أن إسرائيل هي «دولتها»، بالمشرق منها والمغرب وما بين بين.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية