هي سابقة ليس لها مثيل في التاريخ الإنساني: جيش احتلال أجنبي يقرر الجلاء عن أراضي دولة كان قد اجتاحها، قبل تسع سنوات إلا قليلاً، عبر عاصفة من نار، بينما الشعب المعني بحاضر بلاده ومستقبلها غارق في همومه الثقيلة لا يتدفق الى الشوارع تعبيراً عن سعادته باستعادة الحرية والاستقلال في دولته التي تناوب على حكمها- باسم المحتل- جنرالات وسماسرة وسفراء فاسدون مفسدون.
لم تزغرد امرأة، ولم يعقد الشباب حلقات الدبكة، ولم يبرز مغن يجر القوس فوق رباب، ولم ينطلق صوت بالحداء- فرحاً باستعادة القرار الوطني ولم يعبر الجمهور عن سعادته بإطلاق صواريخ الابتهاج لإعلان سقوط ليل الاحتلال.
بالمقابل، واصلت «الكيانات السياسية» التي استولدت معظمها حقبة الاحتلال الاميركي، فضلاً عن أن بعضها جاء على ظهر دبابات المحتل، صراعاتها التي لا تنتهي حول السلطة مع وعيها بالمخاطر المصيرية التي تتهدد العراق الذي اجتاحه الاحتلال الاميركي وهو دولة واحدة ويغادره الآن- رسمياً على الأقل- وقد تركه «أقاليم» او «مشاريع أقاليم» طائفية ومذهبية وعرقية مؤهلة ومجهزة ومستعدة (؟) لأن تقتتل الى يوم الدين، فتعيد الى الاحتلال الاعتبار وكأنه الضامن لوحدة الكيان العراقي ووحدة شعبه!!
لكأن الخوف على المصير يمنع الفرح من التفجر مع مشهد آليات المحتل التي تخطر نظيفة، لامعة، وطوابير جنوده السعداء يعتلون سطوحها مطمئنين وكأنما هم في استعراض احتفالي منتقلين من قلب العراق الى جنوبه القريب، الكويت.
هل نسينا أن اجتياح الطاغية صدام حسين كيانها المحصن بالضمانات الدولية قد فتح الباب للحرب الاميركية المموهة بكوفية وعقال.. وهي قد اتخذت من ذلك الاجتياح ذريعة إضافية بعد حرب صدام ضد إيران الثورة الإسلامية، لزرع منطقة الخليج أرضاً ومياهاً بقواعدها العسكرية.
كان الجنود الذين يبرز بينهم ذوو الأصل الأفريقي في انتظار القرار بمن يكمل رحلة العودة من حيث أُتي به، ومن يبقى جاهزاً لحراسة العراق الذي يوشك ان يستعيد «استقلاله»، شكلاً، ومن غير ان يستعيد «دولته» واطمئنان شعبه الى مستقبله فيها.
هي تسع سنوات طويلة تحت الاحتلال الاميركي أعقبت ثلث قرن او يزيد قليلاً من حكم الطغيان الذي دمر قدرات تلك الدولة العربية التي كانت، ذات يوم، الأقوى في منطقتها.
في ظل الاحتلال، وبأفضال صراع النفوذ بين «الزعماء» الذين كان أكثرهم قد تركوا العراق الى المنافي القريبة او البعيدة، والذين عاد بعضهم طوعاً ورغبة في وراثة الطغيان، او أعاد الاحتلال بعضهم الآخر ليكونوا واجهته «الوطنية»، صار المحتل «مرجعية» سياسية عليا وأسقط الجميع عنه صفة مدمر الدولة في العراق والمتسبب في نهب مواردها وإذكاء الفتن وتقسيم الشعب الواحد الى «مكونات» متباعدة الى حد العداء والاحتراب.
أكمل الاحتلال ما كان باشره الطغيان فإذا العراقيون ليسوا شعباً بل مجموعات من السنة وأخرى من الشيعة وقلة من المسيحيين، ثم إنهم عرب وأكراد وتركمان وآشوريون، لا رابطة بينهم في الهوية الجامعة بالتاريخ ووحدة الأرض والدولة… وعلى هذا الأساس تم استيلاد الكيانات السياسية، فاذا الكرد»شعب» مختلف عن «العرب»، وإذا هم الضحايا الوحيدون لحكم الطغيان، وبالتالي فمن حقهم «الاستقلال» بكيان خاص له «قوميته» وعلمه ونشيده، ثم ان له رئيسه وحكومته وأحزابه ومجلسه النيابي، وله اقتصاده وحقه في الفيتو على قرارات الدولة المركزية.. بل إن له أن يقيم تمثيلاً دبلوماسياً موازياً، برغم منحه رئاسة الدولة ووزارة خارجيتها التي ما لبثت ان أقطعت السفارات العراقية لموظفين غالبيتهم من الأكراد «تعويضاً لهم عن دهر الاضطهاد» وكأنهم كانوا وحدهم المضطهدين.
ولأن الأحزاب قامت بل أقيمت على قاعدة طائفية ومذهبية، ولأن الأكراد وغالبيتهم من السنة قد استقلوا بإقليمهم في الشمال، فقد غدا الشيعة أكثرية عددية، وصار من حقهم المطالبة بإنصاف متأخر عن ظلم مديد، وهكذا صارت لهم رئاسة الحكومة والعديد من الوزارات والإدارات، مما اشعر السنة بغبن قاس، لا سيما أن الطغيان الذي حكم باسمهم لم يميز بين رعاياه على أساس المذهب، كما ان المواقع القيادية في حزب البعث قد اقطعها لأقاربه وأبناء منطقته ولمن لم يداخله شك في ولائهم له شخصياً.. ولأن الحاكم دكتاتور فإن الدين عنصر ثانوي في تعريفه، ولا يجوز تحميل «السنة» نتائج تفرده بالسلطة، تماماً كما لا تجوز إدانة المسيحيين بذريعة ان وزير خارجيته كان من الآشوريين.
خلال سنوات الاحتلال تحول العراق الى أرخبيل من جزر الطوائف والمذاهب.. وحين ارتأى الاحتلال ان يثبت وجوده بالديموقراطية فأجرى الانتخابات، كان بديهياً أن تأتي النتائج مؤكدة الانشطار الطائفي والمذهبي، وأن يتعذر تشكيل حكومة ائتلافية في ظل صراع محتدم على السلطة بين «الأقوياء» الذين يحكمون من خلف ستار.. وكان لا بد من صفقة اميركية – إيرانية لكي تقوم حكومة عرجاء غاب عنها الطرف الأضعف فتحكم بمواقع القرار فيها الأقوى على الأرض.
ماذا بعد الجلاء؟!
ذلك هو السؤال المخيف، إذ ان الأجوبة المحتلمة لا تطمئن بل هي تفجر المزيد من أسئلة القلق. فالجسد العراقي قد نزف تماسكه وحيويته: الدولة تكايا وإقطاعيات لمن كان الأسبق الى مصادرة الوزارات والإدارات بذريعة تعويضه عن دهر الإبعاد والإقصاء. والفساد او الإفساد هو «أمر اليوم»: الرشوة تتجاوز القدرة على التصور، والنهب بالمليارات، والغالبية الساحقة من العراقيين تغرق في بحور الفقر والعوز. وثمة ملايين من الذين اجبروا على ترك منازلهم في مناطق التوتر المذهبي، فهاموا على وجوههم في الداخل يطلبون المأوى الآمن ورغيف الخبز من أقارب لهم في مناطق بعيدة. وثمة ملايين من العراقيين الذين تم تهجيرهم بالقوة، او انهم هربوا بما كانوا قد ادّخروه في أيام النعمة الى الأقطار العربية المجاورة، وذلك وفق معدلات الثروة: الأغنى ومن ثم ميسورو الحال الى الأردن، والفقراء الى سوريا… أما أثرياء صفقات البترول والسلاح ورخص الاستيراد فإلى بريطانيا أساساً، مع قلة ذهبت الى رأس النبع في واشنطن لتكون قريبة من مصدر القرار حول المستقبل السياسي للدولة التي أعاد الأميركيون بناءها.
المسافة بين واشنطن والرياض أقرب منها بين واشنطن وطهران، لكن النفوذ الإيراني المطعم بالرغبة في الثأر يختصر المسافات.. وهكذا قامت شراكة شوهاء بين العاصمتين المتنافرتين في السياسة على حساب العراقيين، مبقية هامشاً ضيقاً لأقطاب مجلس التعاون الخليجي الذين كانوا شركاء صدام حسين في حربه على إيران مطلع الثمانينيات، ثم انقلبوا الى أعداء ألداء له حين أراد معاقبتهم على التخلي عنه ومطالبته برد الديون التي أنفقوها على تسليحه من اجل «قادسيته» فقرر ان يرد عليهم بغزو الكويت، وكانت تلك بداية نهاية الحلم الإمبراطوري.
الارتياب سيد الموقف في هذه اللحظة: مجلس التعاون يستريب بالأميركيين مفترضاً أنهم ضمنوا الانسحاب الآمن لجنودهم من العراق عبر صفقة ابرموها مع إيران من المرجح أنها تشمل سوريا. والإيرانيون يستريبون بالأميركيين ويفترضون أنهم هيأوا الأرض لحلف تركي- خليجي سوف يباشر حصارهم بمحاولة استعادة سوريا عبر تفجير داخلها الى صفوفهم، بذريعة ضرب «الهلال الشيعي» الذي كان أول من استخدم التسمية من دون أن يعرف مضمونه الملك الهاشمي في الأردن.
والعراقيون الذين هم موضوع الصفقة غارقون في مشروع حرب أهلية جديدة نتيجة الصراع على وراثة الاحتلال. والإرث مهدد بتقسيمه على مختلف «المكونات» بحيث لا ينال حصة كاملة منها إلا الكرد.. وها هو مشروع دولتهم في كردستان العراق قد سور حدوده الذاتية، ثم مد يده الى الموصل فضلاً عن كركوك يحاول «استعادتهما» بحيث لا يكون في العراق إلا «دولته»، في حين تقوم في «الأقاليم» الأخرى «كيانات» ضعيفة قواها مشرذمة ومقتتلة، فتصبح كردستان الملاذ والملجأ الآمن ومشروع الدولة المركزية العتيدة لعراق ما بعد الاحتلال.
هل يمكن الفصل بين ما جرى ويجري في سوريا، بتوقيته ودمويته ورعايته الدولية، وبين ما يُخطط ويُدبر لمستقبل العراق؟
وهل دقت الساعة الأميركية لضرب الدولة المركزية في أي بلد عربي.. حتى لا ننسى اليمن الذي كلما افترض الناس ان أزمتها السياسية المنذرة بحرب أهلية مفتوحة قد انتهت جرى إشعالها من جديد؟!… وحتى لا ننسى ما يُدبر لثورة مصر، ومحاولة إشعال النيران في ميدانها الذي بشر- للحظة – بمستقبل يليق بكرامة الإنسان في هذه المنطقة؟!
وأي جلاء لقوات الاحتلال الاميركي عن العراق وعدد موظفي سفارته التي تمتد على حي كامل في بغداد يزيد على خمـسة عشر ألف «موظف»… وهل ثمة سفارة لأية دولة في أي مكان في العالم تحتاج الى مثل هذا العدد من الموظفين فيها، مع الإشارة الى أن نسبة العسكر بينهم تزيد أضعافاً مضاعفة عن أعداد المدنيين؟!
([ ) ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية