أعظم ما افتقده اللبنانيون خلال زيارة الرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد هو دور مصر الذي كان مصدر أمان جدي باعتبارها قيادة الأمة وحاضنة أطرافها جميعاً، بأكثرياتها وأقلياتها الدينية والطائفية والعرقية.. ومع مصر، وبعدها، المقاومة الفلسطينية التي استقبل شهيدها الأول بتظاهرة امتدت من الحدود إلى قلب العاصمة بيروت.
والحقيقة ان لبنان الجريح يفتقد مصر منذ عهد بعيد، وتحديداً منذ أوائل السبعينيات. فلقد تزامن انفجار الحرب الأهلية في لبنان مع توقيع مصر اتفاق فك الاشتباك مع العدو الإسرائيلي (1974).. ثم تصاعدت الحرب شراسة وعنفاً ملغمة الأرض تحت أقدام المقاومة الفلسطينية التي أخذت تغرق تدريجياً في المستنقع اللبناني بخلافاته السياسية التي لا تتورع عن استخدام الطائفية والمذهبية لتحسين مواقع هذا الطرف او ذاك في السلطة.
وعندما قام الرئيس المصري أنور السادات بزيارته للقدس المباغتة والخارجة عن أي سياق سياسي في المعتمد من قواعد العمل الوطني عربياً في 19/11/1977، كان حتمياً ان تتجدد الحرب الأهلية، ودائماً على قاعدة طائفية، بحيث يستدرج الجيش السوري ليكون طرفاً فيها، بكل ما في ذلك من خروج على مهمته الأصلية كقوة ردع وفصل بين الأطراف المقتتلة، لبنانية وفلسطينية.
وبعد عام وأربعة شهور من تلك الزيارة اجتاح جيش العدو الإسرائيلي جنوب لبنان وصولاً الى مشارف صيدا… ثم ما لبث ان انشأ فيه «جيشاً» من عملائه بعد استمالة مجموعة من الضباط والجنود فضلاً عن بضع مئات من «الرهائن» والمرتزقة.
ولسوف تتردى الأوضاع أكثر فأكثر، ويتحول لبنان الى غابة من السلاح، قبل ان يتقدم العدو الإسرائيلي الى اجتياح الوطن الصغير وصولاً الى عاصمته بيروت، متكئاً على «تحالف» شبه معلن مع بعض أحزاب «اليمين» اللبناني لإيصال بشير الجميل، ابن مؤسس حزب الكتائب وقائد ما سمي آنذاك «القوات اللبنانية» الى رئاسة الجمهورية في عملية انتخاب تحت ضغط السلاح والمال وقوة الاحتلال وفي ثكنة عسكرية كانت تطوقها الدبابات الإسرائيلية. لكن بشير الجميل سرعان ما اغتيل، فكانت المذابح في مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين اللذين تحولا الى مقبرة جماعية وقد ذهب ضحيتها أكثر من ألف وخمسمئة شهيد.
كان خروج المقاتلين الفلسطينيين (او الثورة الفلسطينية) من لبنان نتيجة بديهية للاجتياح الإسرائيلي… وبعدها سوف تتجدد الحرب الأهلية، ولو متقطعة، حتى يتم تفويض الجيش السوري، مرة أخرى، بإعادة الهدوء، والإشراف على تنفيذ اتفاق الطائف، الذي جاء خلاصة تفاهم عربي (اميركي)… ثم سيتحول هذا التفاهم الى تفويض مطلق لسوريا بالإشراف على إعادة صياغة النظام السياسي في لبنان، وكانت مغامرة صدام حسين في غزو الكويت نقطة الختام في حياة النظام السياسي القديم في لبنان، وإعادة إرساء دعائم «دولته الجديدة» ودائماً بإشراف سوري مباشر، ومع رعاية اميركية معلنة.
.. وكذلك فإن تلك المغامرة هي التي فتحت باب التفاوض المغلق مع إسرائيل، لكن فلسطين لم يكن لها ذكر إلا كعضو في الوفد الاردني… ولعل هذا الإهمال هو الذي دفع ياسر عرفات الى الذهاب منفرداً للقاء الإسرائيلي في اوسلو، تحت الرعاية الاميركية المضمرة.
[[[[[[
كانت إسرائيل قد غدت ـ باحتلالها العسكري معظم الجنوب ـ «طرفا» ضاغطاً على التركيبة اللبنانية، تحاول استمالة بعض المتضررين من المقاومة الفلسطينية او من التدخل السوري.
وكان طبيعياً أن تنشأ مقاومة وطنية للاحتلال الإسرائيلي. وهكذا بادر العديد من الأحزاب السياسية الى فرز مجاميع من أعضائها ومناصريها لتشكل فصائل مقاتلة في الجنوب، ولم تكن مصادفة ان كثيراً من هؤلاء انما كانوا قد قاتلوا في صفوف المنظمات الفلسطينية، لا سيما أبناء الجنوب منهم.
كان بينها أحزاب شيوعية وتقدمية ووطنية، كما كان بينها «تنظيم شيعي» له شعبية عريضة هو حركة «أمل» بقيادة الإمام موسى الصدر الذي اختفى في ظروف غامضة خلال زيارة الى ليبيا للقاء العقيد معمر القذافي في أواخر آب (أغسطس) 1978.
في أعقاب الثورة الإسلامية في إيران 1979، بدأ تنظيم سري جديد له طابعه الإسلامي يتنامى برعاية خاصة منها، ليقاتل ضد الاحتلال الإسرائيلي وضد مسانديه الكبار وتحديداً الاميركيين والفرنسيين الذين أرسلوا قوات عسكرية الى لبنان لتأمين انسحاب هادئ لقوات الاحتلال الإسرائيلي. وكانت البداية دموية ومدوية، عبر هجومين ناجحين الأول على قاعدة عسكرية فرنسية متقدمة، والثاني على السفارة الاميركية في بيروت.
كان التنظيم الجديد غاية في العنف، في بداياته… وستمضي سنوات قبل أن يستقر على صيغة حزب سياسي له برنامجه المعلن، وله قيادته المعروفة، ومهمته الأولى والأخيرة العمل لطرد العدو الإسرائيلي من الأرض اللبنانية المحتلة. واتخذ هذا التنظيم اسم «حزب الله» استناداً الى الآية الكريمة «ألا إن حزب الله هم الغالبون».
على ان هذا الحزب سرعان ما اكتسب رصيداً شعبياً عظيماً عبر بطولات مجاهديه في مواجهة قوات الاحتلال الإسرائيلي، حتى كان النصر المؤزر في 25 أيار (مايو) 2000 بجلاء إسرائيل عن الأرض اللبنانية، ما عدا بعضها المتصل بالجولان السوري.
[[[[[[
وهكذا فإنه إذا كان المصريون قد استذكروا ـ قبل ايام ـ الرجل الذي جعل من القاهرة عاصمة عربية للعالم جمال عبد الناصر، فقصد بعضهم ضريحه للتحية، فإن الناس في عواصم عربية أخرى قد استذكروه لأنهم لا يرون للأمة بعد غيابه مرجعية سياسية تقول فتكون كلمتها قراراً، ويصير القرار سياسة معتمدة يحترمها العالم، حتى لو كانت بعض دوله الكبرى لا تقره او تحاول التقليل من أهميته او الطعن في حق القاهرة بأن تكون مركزه.
أما الفلسطينيون الذين يستشعرون اليتم ويرون أنهم متروكون للريح، في حين تحظى إسرائيل بالتنازلات العربية عن حقوقهم في أرضهم، وبضياع «سلطتهم» في غمرة انهماكها بالحفاظ على ذاتها، فإنهم عادوا يحتمون من الضياع بموقف عبد الناصر الحاسم الذي قبل المفاوضات في لحظة محددة، كسباً للوقت في انتظار استكمال الاستعداد للعودة الى الميدان بجهوزية أفضل وقدرة على تجاوز الدفاع الى الهجوم مهما سمت التضحيات.. وهذا ما تم بجيشه، وبعد غيابه ـ في العاشر من رمضان (6 تشرين الأول/ أكتوبر 1973).
لقد كانت التحية لجمال عبد الناصر أمراً له دلالة مهمة جداً، وهو يصدر في بيروت وعلى لسان قيادة المقاومة التي يحفظ لها اللبنانيون وسائر العرب أنها حققت إنجاز التحرير بالدم حين أجبرت العدو الإسرائيلي على الجلاء عن الأرض اللبنانية المحتلة منذ العام 1978، ثم واجهت الحرب الإسرائيلية ـ بالقيادة الأميركية على لبنان في العام 2006، فانتصرت بصمودها العظيم.
ففي الخطاب الذي ألقاه الأمين العام لـ«حزب الله» ترحيباً بزيارة الرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد الى بيروت، الأسبوع الماضي، استذكر السيد حسن نصر الله لاءات جمال عبد الناصر التي أطلقت من القمة العربية في الخرطوم في أعقاب هزيمة 5 حزيران (يونيه) 1967، وهي «لا مفاوضة، لا صلح، لا اعتراف»، داعياً العرب الى استعادة كرامتهم وقدرتهم على رفض الإذلال بالعودة الى تلك اللاءات.
[[[[[[
مؤكد ان اللبنانيين عموماً كانوا يتمنون، وما زالوا يأملون، ان يأتي الى زيارتهم القادة العرب، ولا سيما أكبرهم وأغناهم، ليطمئنوا الى أحوالهم وليعززوا صمودهم في مواجهة عدوهم القومي، الذي يستمر في تهديدهم بطلعات طيرانه اليومية فوق مدنهم وقراهم جميعاً.. فضلاً عن استمراره في إذلال العرب جميعاً عبر اضطهاده للشعب الفلسطيني، وعبر مخادعتهم بالمفاوضات التي لا تنتهي حول «مساحة الأرض» التي ستبقى «لدولته»!.
لقد كشف العدو الإسرائيلي عن خطته بإعلانه دولته اليهودية الديموقراطية التي لا مجال معها لدولة فلسطينية على ارض الشعب الفلسطيني… بل ان التفكير ذهب الآن الى المليون ونصف المليون فلسطيني «في الداخل» والذين كان يعتبرهم «مواطنين» من الدرجة الثانية، ولكنهم سيكونون غداً موضع مساءلة في ولائهم «لدولة يهود العالم»، فإذا امتنع جميعهم او بعضهم عن أداء قسم الولاء لهذه الدولة فلسوف يطرد منها شر طردة.
وقد تكون مقارنة أهل النظام العربي بجمال عبد الناصر ظالمة، ولكن بحقه لا بحقهم… وللتذكير فإن أكثر من نصف الشعب اللبناني قد زحف الى دمشق لتحية «بطل الوحدة» حين جاءها أول مرة… ثم تكرر الزحف في كل زيارة له إليها.
ليس في الأمر عبادة شخصية، انه افتقاد للموقف الذي يحمي الأوطان ويمنع الهزيمة أمام العدو، بالعودة الى الميدان مرة بعد مرة حتى يكون النصر، فإذا ما لاحت بشائره لم يضيع عبر التنازل للإدارة الاميركية او عبر الصلح مع العدو الذي ينتقل في هذه الحالة الى الداخل.
من هنا يمكن فهم هذا لحضور المتجدد لجمال عبد الناصر في الشارع العربي ابتداء بمصر وانتهاء بالحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة…
فغياب أصحاب القرار في الحاضر هو من أعاد الى الصدارة صورة البطل في الماضي، الذي يظل برغم كل أخطائه أبقى وأنصع حضوراً من القائمين بالأمر في أيامنا هذه.. أشبه بحرس حدود لدولة يهود العالم… الديموقراطية.
ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية