عقد في بيروت، الأسبوع الماضي، لقاء تشاوري عنوانه فلسطيني ولكن موضوعه الفعلي يتصل بواقع التيه العربي الذي يهدد بضياع الهوية فضلاً عن الأرض، وضياع المستقبل في غياهب الصراع على الحاضر.
كان بين المشاركين مفكرون لهم إسهامهم المؤثر في حركة التنوير التي تحاول إبقاء بعض المشاعل مضيئة على الطريق الصعب الى غد تشحب ملامحه مع تعاظم الصراع في قلب الأمس وبشعاراته المتهافتة.
كما جاء حشد من أهل الماضي وقد عاشوا شبابهم في قلبه، ممتلئين بالحماسة والاستعداد للتضحية، ثم فوجئوا بانطواء صفحته عليهم، ولم يدركوا انه قد غادرهم بلا عودة وتركهم يرددون خطابهم العتيق، بينما عالم اليوم مختلف عما عرفوه فألفوه، بحيث يكاد يكون نقيضه تماماً، في الواقع السياسي كما في القيم والأفكار وأسباب الحياة.
وأطلت عبر هذا المؤتمر، ذي الشعارات الطامحة الى التغيير، التناقضات التي يحفل بها واقع المعارضات العربية التي حولها ضعفها البنيوي الى أدوات تجميل يمكنها أن تخفف من بشاعة النظام العربي القائم، موفرة له، من حيث تقصد او لا تقصد، تزكية بمجرد وجودها وقدرتها على رفع الصوت ولو ضمن قاعات مقفلة او في مطبوعات مهددة دائماً بالتوقف، إما لضعف الإمكانات المادية او لتفاقم الإشكالات والتعقيدات الإدارية مشفوعة بالتهديدات الأمنية، إذا ما هي حاولت تجاوز «السقف» او خرقه بوهم الاستقواء بالشارع.
لمعظم المشاركين تاريخ في النضال.. أي في الماضي،
بينهم من كان قيادياً في تنظيم قومي عربي او يساري أممي، ولأنه يعتز بماضيه فإنه لا يستطيع ـ حتى لو أراد ـ التقدم الى العصر، لأنه يستشعر غربة عنه.
وبينهم من يرى في الماضي مصادر للأمل أكثر مما يتضمن الحاضر… ففي الأمس كان أطراف الصراع محددين تماما من حيث المبدأ: في جهة حقوق الشعوب وطموحاتها وآمالها وجهدها للتقدم نحو غدها الأفضل، وفي الجهة الأخرى «الأعداء» في جبهة واحدة: «النظام» ومن خلفه قوى الاستعمار القديم التي بات لها اسمها الجديد «الهيمنة الأميركية» الذي يجمع الامبريالية الأميركية إلى المشروع الصهيوني الذي يتقدم الآن نحو أكمل تجلياته: إسرائيل ـ دولة يهود العالم.
بين المشاركين أيضاً نواة لطليعة ثقافية عربية تطمح إلى إعادة صياغة مشروع العروبة بما يتناسب مع المتغيرات في الواقع، سياسياً وثقافياً واقتصادياً واجتماعياً على الأرض، وبحيث تكون العروبة الطريق إلى المستقبل.
ثم إن موعد انعقاد المؤتمر قد جاء في سياق طوفان الذكريات السوداء لشهر أيلول (سبتمبر) عربيا بالأساس وفلسطينياً بالتبعية: من ذكرى تدمير حلم الوحدة، الجمهورية العربية المتحدة في 28 أيلول 1961، إلى الحرب على المقاومة الفلسطينية في الأردن (أيلول 1970) وطردها منه، إلى وفاة جمال عبد الناصر عشية نجاحه في وقف المذبحة (28 أيلول 1970)، فإلى طرد المقاومة الفلسطينية من لبنان وتنظيم مذابح صبرا وشاتيلا (15ـ 16 أيلول 1982)، وصولاً الى اتفاق اوسلو الذي أنهى المقاومة الفلسطينية (13 أيلول 1993) وأدخلها معتقل «السلطة» داخل سجن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين جميعاً…
«العروبة» قاسم مشترك بين المؤتمرين، ولكن بمفاهيم عدة، وإن ظل أكثرها جذرية وطموحاً إلى التجديد بالانتماء إلى العصر هو الذي صاغته تجربة عزمي بشاره المختلفة تمام الاختلاف عن تجارب سائر المشاركين وفي بيئة معادية بالمطلق، وعبر التصادم مع المشروع الإسرائيلي المعادي والمثقل بنجاحاته التي تعكس حجم الفشل الذي أنجزه النظام العربي في العقود الأربعة الأخيرة وتحديداً بعد اغتيال نتائج حرب أكتوبر البطولية بمعاهدات الصلح اللاغية لمن وقعها من الدول العربية.
لم يكن لدى عزمي بشاره وهو من الداخل وفيه، من الأسلحة بعد إيمانه بأرضه وبحقه فيها، الا فهمه العميق لمجتمع «عدوه» الإسرائيلي، الذي فرض عليه بقهر احتلاله أن يكون من «رعاياه» العرب وليس من مواطني دولة يهود العالم، وإن كان سمح له أن ينشئ مع رفاق له «تجمعاً» في الكنيست الإسرائيلي، ثم أن يرأس كتلة نيابية معدودة ومحاصرة دائماً بهويتها في مجتمع نابذ لهوية أهل البلاد الأصليين.
مع الوعي بطبيعة العدو، وهو وعي يرتكز إلى ثقافة عميقة وفهم لطبيعة الكيان الإسرائيلي وللحركة الصهيونية من قبل، استند عزمي بشارة إلى إيمانه بهويته، أي بعروبته، وبأهليتها لأن تكون أساساً صلباً للتقدم والتحرر، بالاستناد إلى جدارة الشعب العربي وكفاءته في المواجهة، إذا ما تيسر له أن يتقدم إليها مستنداً إلى حقه في أرضه، وحقه في غده، وإلى معرفة حقيقية بعدوه والقوى المساندة له. فهذا المواطن ممنوع من أن يعرف ذاته في بلاده، ومفروض عليه الجهل بعدوه.. فكيف له إذاً أن يربح حرباً بمثل الشراسة التي يجسدها العدو الإسرائيلي والذي يعرف كل شيء عن أعدائه العرب.
من خلال المؤتمر، وعبر الخطب أو المناقشات، تبدّى وكأن المعارضات العربية تحمل في داخلها الكثير من أمراض أهل النظام العربي… فبين المعارضين من كانوا أهل سلطة سابقا، ولو بنسبة رمزية، وبينهم من هو طامح لأن يكون سلطة بديلة من دون أن يتورط في تقديم برنامج بديل…
والأمراض التكوينية التي تحملها المعارضات العربية متعددة وكلها خطير، لكن أخطرها افتقارها إلى مفهوم موحد للعروبة، يتجاوز ذلك الموروث عن مرحلة ماضية فات زمانها خصوصاً أن تجسيداتها السياسية قد ارتبطت بشخصية قيادية استثنائية مثل جمال عبد الناصر.
في ذلك الزمان أغنى «القائد» عن «القيادة»، وأغنت الفكرة المجسدة للأحلام والأماني عن البرنامج السياسي بقاعدته الفكرية المعبرة عن احتياجات المجتمع التي تجسدها طموحاته إلى الحرية والوحدة والتقدم والعدل… ثم إن كان ذهب ذلك كله مع ذهاب «البطل» الذي فشل في حماية أحلامه من نظامه.
وكلنا نعيش، بعد، في تداعيات ما بعد غياب «القائد» وافتقاد القيادة المؤهلة لصياغة مثل ذلك البرنامج، فضلاً عن الكفاءة في حمله والتقدم به على طريق الإنجاز.
ثم إن إسرائيل كانت دولة معادية «خارجنا». أما الآن فإنها تكاد تكون الدولة الوحيدة في منطقتنا، ثم إنها قد اقتحمتنا فغدت داخلنا، وبالتالي صار التقدم لمواجهتها وكأنه تورط في حرب أهلية.
لقد أخرج النظام العربي العرب من الحرب بينما إسرائيل تحتل العديد من العواصم العربية بلا قتال، وتتمترس في قلب مركز القرار فيها.
من ينكر أن إسرائيل تتحكم الآن بأي قرار عربي مؤثر، ليس في مجال الحرب والسلم فحسب، بل أساسا وقبل ذلك في مختلف جوانب الحياة السياسية العربية والاقتصاد، والاجتماع وصولاً إلى التربية وبرامج التعليم؟
لقد استسلم النظام العربي تماماً، وانتقل من موقع العدو إلى موقع التابع، وكثيراً ما استمعنا إلى ما سوف تقرره هذه العاصمة أو تلك في شؤون داخلية وسياسية وتربوية، من مصادر إسرائيلية وقبل أن تعلن رسمياً من طرف أصحاب الشأن.
انظر حولك من أقصى المغرب إلى أدنى المشرق وحاول أن تسمي دولة عربية واحدة مستقلة ومؤهلة لتلبية متطلبات شعبها أو مواجهة تحديات يومها وغدها.
بالمقابل، فمن البديهي القول إن الإسلام السياسي لم ينجح أبدا في تقديم نفسه كبديل قادر ومؤهل على إحراز النصر، وأساء في برنامجه للوحدة الداخلية والتقدم الاجتماعي أو في بناء الدولة ـ الوعد، فضلاً عن مواجهة العدو… ولعل هذا الفشل قد مكن النظام العربي من خلال تهديد شعبه بشبح هذا البديل المحتمل الخطير إلى حد تدمير الذات.
تبقى العروبة هي الحل.. ولكن من هو المؤهل على إعادة صياغة البرنامج الفكري ـ السياسي للعروبة، بحيث يفتح الطريق إلى الغد أمام هذه الجماهير المحبطة والتي تتعرض لحفلة غسل دماغ مستمرة وتيئيس من الذات تحت شعارات من نوع: إسرائيل هي أميركا، وأميركا أقوى من أن تقاوم، فالسلام بيدها كما قرار الحرب، والاقتصاد بيدها كما التقدم العلمي، ومجنون من يحاول مواجهتها لأنها تملك وسائل القوة جميعاً، في السياسة كما في الاقتصاد، وفي العلم كما في السلاح، وفي الأرض كما في الفضاء… وليس أمامنا إلا الخضوع لها لعلها تعيننا على الوصول إلى «السلام» وبأي شرط.
ليست العروبة هي الحرب، ولكن سياسات النظام العربي المجافي للعروبة والخاضع لإذلال العدو الإسرائيلي ليست هي السلام بأي حال.
وتدل تجارب أهل النظام العربي أن «الوطنيات المحلية» أو الإقليمية التي اعتمدوها لم توفر الحلول لمشكلات مجتمعهم، يستوي في ذلك الاقتصاد أو التعليم فضلاً عن قوة الردع والقدرة على التقدم.
كما تدل تلك التجارب على أن الخروج على العروبة، بما هي جامع مشترك للمصالح قبل العواطف، ولأسباب القوة المؤهلة لصياغة مستقبل يليق بكرامة الإنسان، لم يؤد بأهل النظام العربي إلا إلى خيار محدد: الاستسلام لأميركا عبر إسرائيل أو لإسرائيل عبر أميركا.
العروبة هي الحل… ولكن من ينتج ذلك البرنامج المؤهل لفتح أبواب المستقبل أمام هذه الأمة التائهة عن ذاتها والمضيع منها حاضرها ومستقبلها؟!
ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية