فجع أهل النظام العربي وهم يرون الى الرئيس الاميركي الأسمر ذي الجذور الإسلامية باراك حسين أوباما يتهاوى أمام عيونهم المفتوحة بالدهشة على نتائج الانتخابات النصفية كحلم ليلة صيف.
بعضهم رفض أن يصدق الأمر، انطلاقاً من مقارنات خاطئة: كيف يخسر «الرئيس» وهو في سدة الحكم؟ أين الأجهزة؟ أين مهندسو الانتصارات السهلة؟ أين معلنو النتائج من قبل أن تبدأ عملية الاقتراع؟ أين الصناديق المعدة سلفاً بأصوات الناخبين الموتى أو المهاجرين أو الذين يقبعون في المستشفيات؟ وأين أصوات التعويض التي تجهز ولا تستخدم اذا سارت الأمور على ما يرام ولم تقع مفاجآت غير متوقعة؟
غير ان البعض الأكثر جدية والأكثر قلقاً على المستقبل قد أعادته الصدمة الى واقعه المزري: كيف نتصرف الآن لكي نحمي أنفسنا؟ لقد عقدنا آمالا عراضاً على هذا الرئيس الأسمر، وافترضنا انه المنقذ .. فما العمل وقد بينت الوقائع انه هو الآخر بحاجة الى من ينقذه؟
استعاد كثيرون الصور الباهرة للاختراق العظيم وكيف أمكن هذا المحامي الشاب الملون والمطعون في صفاء عرقه ودينه أن يكتسح الانتخابات الرئاسية قبل سنتين وأن يبلغ السدة المحصنة بالعنصرية وبالتعصب (هل تتذكرون كينيدي؟) فيصير رئيسا للعالم؟
كذلك استذكر آخرون الكلمات المجنحة لهذا الرئيس الوافد من خارج البيئة الطبيعية للمرشحين المؤهلين للوصول الى الرئاسة، لا سيما في ذلك الخطاب الذي ما زالوا يترنمون بمقاطع منه سمعوه يطلقها من على منبر جامعة القاهرة، قبل عام فقط، وقد غزل فيها بعض أحلامهم وأسقط عنهم الإحساس الثقيل بعار الالتحاق بالإمبريالية ومشروع الهيمنة الاميركية ـ الإسرائيلية المضمون ـ على منطقتهم.
وانفجر بعضهم غيظاً: أين جائزة نوبل؟ أين السابقة التي ارتكبتها اللجنة الدولية السامية التي تقرر اسم الفائز أو الفائزين بجائزة نوبل للسلام، وهي قد منحتها له من قبل أن يكمل سنته الأولى في سدة الرئاسة، وبافتراض انه سينجز ما لم يقاربه أحد من قبل في مجال إحلال السلام والوئام في العالم؟
قال أكثرهم معرفة بآليات الانتخاب في الولايات المتحدة الاميركية: لقد هزمه الصهاينة! ابتزوه بلونه مرتين: في المرة الأولى أعطوه أصواتهم ليصير رهينتهم، وقد حصل فأعطاهم الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل، وها هم يبتزونه مرة ثانية بجعله «بطة عرجاء» في السنتين المقبلتين، يفرضون عليه ما يريدون فلا يستطيع الرفض.. فإذا ما بات مجرد ختم للمصادقة على ما يطلبون ربما وفروا له الفوز بولاية ثانية، لأنه سيكون قد بات «رجلهم في البيت الأبيض».
أما في «الشارع العربي» فكان النقاش مختلفاً، ربما لأنه متحرر من أغراض السلطة، ويتصل اتصالاً وثيقاً بهموم الناس: ما قيمة أهل النظام العربي في بلادهم حتى يكون لهم تأثير في الانتخابات الاميركية؟ انهم مجموعة من الحكام الفاقدي الشعبية، يتسولون الغطاء الدولي، الاميركي تحديداً، للاستمرار في السلطة، فكيف سيؤثرون؟ إنهم غير شعبيين في بلادهم، وهم مرتكبون، ثم انهم ـ بمعظمهم ـ لا يعترفون بمواطنيهم، ويرفضون مبدأ الاقتراع، فما أهمية آرائهم في العملية الانتخابية في الدول الديموقراطية؟
صحيح ان وصول باراك أوباما الى سدة الرئاسة في أكبر دولة ديموقراطية في العالم قد شكل مفاجأة سارة «للشارع» في مختلف أرجاء الدنيا، لكن أي تفكير جاد كان بوسعه الوصول الى الاستنتاج المنطقي: ليس «الشخص» محور الكون، ولا هو ـ بشخصه منفرداً- مركز القرار في الإدارة الامبراطورية الاميركية. ان له دوره بالتأكيد، لكن «النظام» أقوى من الأشخاص. والنظام يحكم بالمؤسسات الراعية لمصالحه الكونية. والنظام رأسمالي، ورأس المال هو من يقرر.
ولقد اصطدم «الرئيس» مع رأس المال، عبر إصراره على قانون التأمينات الاجتماعية ففقد بعض وهجه… ثم انه حاول تدجين الغرور الإسرائيلي فدفع ثمناً غالياً من رصيده، برغم انه سرعان ما تراجع ووافق على معظم ما طلبه بنيامين نتنياهو الذي يتصرف الآن وكأنه المنتصر الأكبر في الانتخابات النصفية، ويكاد يعلن انه في الطريق الى تحقيق «الهيمنة» الكاملة على القرار الاميركي، ليس بسبب من حصول الجمهوريين على الأكثرية في مجلس النواب، بل لان القوة التقليدية لإسرائيل زادت تجبراً بالفوز المبكر لكتلة «حفلة الشاي» ـ وهي عصبة من المتطرفين في ولائهم لإسرائيل وفي تعصبهم ضد السود – والتي ستكون «الصوت المرجح» لأي مطلب إسرائيلي حتى لو كان مناقضاً للمصالح الاميركية.
وبمعزل عن مناقشة مبدأ «الولاء للأجنبي في القرارات الوطنية»، يمكن فهم انعدام التأثير العربي على القرار الاميركي، سواء في الكونغرس أو في الإدارة، بالعودة الى واقع أهل النظام العربي ومدى التزامهم بقضايا شعوبهم، قبل مناقشة مواقف القوى الدولية والإقليمية.
إن أهل النظام العربي متباعدون الى حد القطيعة، بل انهم في حالات كثيرة متصادمون، لا يلتقون على مصالحهم ولو بالحد الأدنى ، في حين ان العديد منهم يذهب الى التطابق مع «الخارج»، ولو كان خصماً أو عدواً، للاستعانة به على من كان «الأخ الشقيق». ثم انهم، بمجموعهم، بلا خطة محددة، وبلا رؤية موحدة.
حتى قضية فلسطين لم تعد محل إجماع، بل ان الخلافات العربية ـ العربية، قبل أن نتحدث عن الخلافات الفلسطينية ـ الفلسطينية، تمزق وحدتها وتسيء الى قداستها وتنزلها من مرتبتها السامية كقضية عادلة ومحقة لشعب عظيم ناضل ويناضل منذ قرن إلا قليلاً لتكون له دولته فوق أرضه، الى مساومة على سلطة هزيلة فوق برزخ من الارض المقطعة بالمستعمرات التي يحتشد فيها وحوش المستوطنين تمهيداً لإقامة ما بات الآن واقعاً سياسياً: دولة اليهود الديموقراطية… وسيكون على أي فلسطيني، غدا، أن يقسم يمين الولاء لهذه الدولة التي تلغيه تماماً، بتاريخه في أرضه وبهويته المستمدة منها، وإلا فرض عليه الطرد منها وكأنه طارئ عليها أو متسلل دخل خلسة ويمكن تشريده بالقانون!
فإذا كان أهل النظام العربي يساومون على حقوق الفلسطينيين في أرضهم من أجل توطيد أركان حكمهم حيث يحكمون، فكيف لنا أن نحاسب الإدارة الاميركية على انها قد فرطت بهذه الحقوق، وانها أهدرتها استرضاء لدولة يهود العالم التي يتنافس أهل النظام العربي على إسقاط الحرم عن التعامل معها؟
أما العراق فلم يعد موضوعاً للخلاف بين الإدارة الاميركية وأهل النظام العربي. لقد تخلوا لها عنه، تدير شؤونه وترتب مستقبله بالاشتراك مع إيران وعلى قاعدة خريطة واسعة تمتد من أفغانستان الى بيروت على شاطئ المتوسط.
ويمكن الإدارة الاميركية الآن أن تدعي البراءة من دم هذا الصديق ملقية المسوؤلية على أهل النظام العربي الذي منعهم الاختلاف في ما بينهم على معظم قضاياهم المصيرية، من الاتفاق – ولو بالحد الأدنى – على استنقاذ العراق من الفتن والمذابح الطائفية والمذهبية والعنصرية التي تتهدده في وجوده. واذا كان تفجير كنيسة سيدة النجاة في الكرادة ببغداد قد أحدث صدى دولياً هائلاً بسبب من حساسية موضوع الوجود المسيحي في العراق، فمن الضروري القول ان عمليات القتل الجماعي والمجازر المنظمة التي تستهدف الشيعة تحت لافتة «القاعدة» أو تستهدف «السنة» تحت لافتات مختلفة تفوق مذبحة الكنيسة وحشية، خصوصاً أنها تكاد تكون متصلة بامتداد سنوات الاحتلال الاميركي.
… وها هي القوات الاميركية تتهيأ لاحتلال اليمن، والطائرات من دون طيار كانت «الطليعة السباقة»، وهي بدأت تذرع السماء اليمنية جيئة وذهابا بذريعة مطاردة عناصر «القاعدة»، كأنما يمكن التمييز من على ارتفاع آلاف الأقدام بين فقير يمني وآخر، أو بين شمالي وجنوبي، أو بين «زيدي» و«شافعي» أو بين من يوالي دولة الوحدة ومن يعاديها. وبالطبع يجري ذلك كله دون أن يعترض واحد من أهل النظام العربي الذين يحولون كل معارض لهم أو خارج عن طاعتهم، ويتخذونه ذريعة لاستقدام الجيوش الاميركية، وكذلك للذهاب بطلب النجدة الى إسرائيل.
وها هم بعض القادة من زعماء الانفصال في جنوب السودان يجاهرون «بصداقتهم لإسرائيل» وباستعدادهم لفتح الأبواب أمامها، يشجعهم على ذلك ادعاء الاقتداء بمصر: لماذا تكون لإسرائيل سفارة في القاهرة ولا تكون لها سفارة عندنا، وهي من ساعدنا في زمن محنتنا أكثر مما ساعدنا العرب؟!
[[[[[[
ليست المسألة: من انتصر في الانتخابات الاميركية، نصفية كانت أم كاملة ورئاسية ايضا.
وانه لمن الترف الفكري أن نناقش أسباب فشل الرئيس الاميركي الأسمر في الانتخابات النصفية، بينما «العرب» جميعاً خارج دائرة التأثير، وهم المرشحون لدفع فاتورة نجاحه أو فشله بقدر اتصال استرايتجيات إدارته – بالهيمنة الإسرائيلية عليها – بقضاياهم جميعاً، خصوصاً أن القوات المسلحة الاميركية تحتل بلاداً عربية عديدة، عسكرياً، وتحتل الفضاء العربي بالاشتراك مع الطيران الإسرائيلي الذي سبق له أن أغار على منشآت في العراق وفي سوريا، فضلاً عن تدميره لبنان مرات ومرات، وهو للمناسبة يكاد لا يغادر فضاء لبنان، كما أن قادته لا يتعبون من التهديد بالإغارة على ايران لتدمير منشآتها العسكرية ملوحين بأنهم قد يحظون بتسهيلات عربية تجعل الفضاء أمامهم مفتوحاً.
المسألة هي: من نحن؟ وماذا نريد من الآخرين؟ وماذا يريد الآخرون منا؟ وهل لدينا ملامح خطة للمواجهة أو للمصالحة أو للصفقة، أم أننا نقبع في انتظار ما يقررون فنقبله أو نعترض عليه صامتين ولكننا لا نملك من القوة ما يمكننا من رفضه أو تعديله، بما يحفظ لنا حق الوجود فوق أرضنا؟!
وفي أي حال فإنه من الصعب الافتراض أن من ينصر العنصرية الصهيونية في فلسطين ويمكنها من إعلان إسرائيل دولة يهود العالم، تمهيداً لان تعلن نفسها الدولة الديموقراطية الوحيدة في الشرق، سيتمكن من أن يهزم العنصرية في بلادهم، وأن يتمكن من تحقيق أحلامه التي نال عليها جائزة نوبل… وهي لم تنفعه كثيراً في معركته مع غيلان الرأسمالية ومع وحوش العنصرية سواء داخل أميركا أو في فلسطين.
تنشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية