طلال سلمان

لوكربي المتهم مدان حتى تثبت براءته!

لعلها واحدة من السوابق النادرة في التاريخ أن تعقد محكمة لإثبات براءة متهمين مدانين سلفاً بجريمة بشعة بل هي واحدة من المجازر »الجوية« التي يستحيل تبريرها بالسياسة قبل الأخلاق.
في المبدأ، قانوناً: كل متهم بريء إلى أن تثبت إدانته.
أما في حالة المواطنين الليبيين عبد الباسط علي محمد المقراحي والأمين خليفة فحيمة وتفجير طائرة »بان أميركان« فوق بلدة لوكربي في اسكتلندا، فإن هذين الرجلين قد أُدينا وتمّ التشهير بهما، وببلادهما، عالمياً، على امتداد سنوات طويلة، وبكل اللغات الحية، وبكل وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية.
أكثر من ذلك: بناءً على إدانتهما السابقة على المحاكمة، والمبنية على الاشتباه والظن و»التقدير السياسي«، تمت معاقبة ليبيا كلها، فأخضعت، منذ العام 1992، لحظر جوي وعسكري، سرعان ما تم تعزيزه في العام 1993 بعقوبات اقتصادية قاسية كادت تتسبّب بتجويع شعب بكامله.
ناهيك بما تكلفته لدفع التهمة عن نفسها وقد تجاوز في بعض التقديرات مليار دولار.
لقد تم تعطيل كل أنواع القوانين بالسياسة، أي بالضغط السياسي المباشر، الأميركي والبريطاني، على مجلس الأمن الدولي، ثم على الدول، عربية وأجنبية، لكي يمكن استصدار حكم سابق على المحاكمة.
وكان واضحا أن الإدانة سياسية ولنهج سياسي مشاغب، وثأراً من معمر القذافي الذي كان ينادي بالثورة ويحرّض عليها، ويجمع أشتات الرافضين وبقايا الثوار، من الجيش الإيرلندي السري في بريطانيا إلى الهنود الحمر في الولايات المتحدة، إلى بادر ماينهوف في ألمانيا والجيش الأحمر الياباني، إضافة الى جماعات فوضوية وانتهازيين ونصابين من تجار الشعارات والمتعيشين من التلويح بقبضات أيديهم لكل من دفع.
ولقد حقق الضغط السياسي الأميركي البريطاني بعض استهدافاته الأولية حين نفض القذافي يديه من بعض طموحاته الكونية وتوقف عن دعم معظم تلك الجماعات المحترفة العنف الثوري أو العنف الصوتي، وصولاً الى تسليم قوائم بأسماء ضباط الارتباط مع الجيش الإيرلندي السري الى بريطانيا تحت شعار المساعدة على الوصول الى حل سلمي في تلك البلاد التي تمزقها الحرب الأهلية ذات البُعد الطائفي المدمر.
بل إن هذا الضغط قد حدد الى حد كبير طبيعة الوسطاء المؤهلين لصياغة التسوية التي تم التوافق عليها، فلم تكن مصادفة أن تلعب السعودية بشخص الأمير بندر بن سلطان أساساً وجنوب أفريقيا بشخص نلسون مانديلا، ذي الرصيد الشعبي الاستثنائي في كل مكان، والمسموع الكلمة أميركياً وبريطانياً، الدور الأساسي، ومعهما ولو بدور محدود مصر حسني مبارك.
عاد معمر القذافي بدوياً أصيلاً وهو يقبل »جاهة« خادم الحرمين الشريفين وولي عهده وسفيره وابن شقيقه وزعيم القبائل الأفريقية: »إذا ما طلب مني هؤلاء ولداً من أولادي لقدمته راضياً«.
لكن الأميركان والإنكليز ليسوا قبائل ولا يقبلون »الجاهات« ولذا فقد تلقوا موافقة القذافي، الذي استعاد موقع »الرئيس« و»صاحب القرار«، خلافا لما كان أعلنه »مؤتمر الشعب العام« بحذر، مفضلين على طريقة توما الأكويني تأجيل الترحيب حتى يصل »المدانان سلفًا« الى هولندا تحت حراسة تتولاها الأمم المتحدة لكي يحاكما أمام محكمة اسكتلندية.
عندها، وعندها فقط، ستعلق العقوبات المفروضة على ليبيا، على أن ترفع بعد ذلك بثلاثة شهور، وبعد أن يرفع الأمين العام للأمم المتحدة تقريره إلى مجلس الأمن.
إنها محاكمة مشهودة: إذ سيكون على المُدانين سلفاً، ومعهما بلدهما وشعبهما، أن يثبتا براءتهما من جريمة وقعت قبل عشر سنوات، توالت خلالها الإدانات، وبُني عليها مقتضاها، سياسياً وقانونياً إلى حد ما.
وبغض النظر عن أي اعتبار، فإن نقض الإدانة المسبقة لليبيين سيكون بمثابة تجريم للذين اتهموهما ومعهما شعب ليبيا وقيادته جميعاً.
لكن أحداً لن يدين الأميركيين والبريطانيين غداً، متى تأكدت براءة الليبيين، ولن يتمكن مجلس الأمن مثلاً من فرض عقوبات تعويضية عدا عن الحظر الجوي والحصار الاقتصادي وما إلى ذلك!
لكم هي مكلفة براءة الضعيف!
لكم هي مستحيلة إدانة المتجبر المهيمن، حتى لو ثبت انه تسبّب بقتل سمعة شعب كامل، وبتجويعه، وبإذلاله وفرض جو الموت عوزاً إلى الدواء على أطفاله.
والعقبى لشعب العراق: أن تثبت براءته من تهمة قتل نفسه بنفسه!

Exit mobile version