نشرت في “السفير”، 18 تموز 2006
آخر ما كان يتوقعه لبنان، المتروك لريح القتل الإسرائيلي، أن يأتيه الظلم من بعض ذوي قرباه، فيصدر عن مجلس الوزراء السعودي ما يمكن أن يؤثر في معنويات اللبنانيين وفي قدرتهم على مواجهة حرب التدمير الشامل التي تشنها إسرائيل عليهم جميعاً، في مختلف ديارهم، فلا تستثني منهم طفلاً أو امرأة أو شيخاً أو رجلاً يسعى من أجل رزق عياله كي يعيشوا بكرامة، ولا تستثني مرفقاً أو سبباً من أسباب الحياة، من المياه إلى الكهرباء، ومن المرافئ إلى المطارات، ومن وسائل الاتصال والمواصلات إلى مصانع تعليب الحليب وسائر مصادر الإنتاج والرزق.
ولعل بين أسباب الإحساس بالظلم أن المملكة العربية السعودية قد لعبت على امتداد السنوات الأخيرة، وتحديداً منذ اتفاق الطائف، دوراً مميزاً في رعاية التسوية السياسية الداخلية، ودوراً رائداً في مساعدة إعادة إعمار لبنان بعد دهر الحرب الأهلية.
ثم إن المملكة كان لها موقفها المميّز في حماية الوحدة الوطنية، بعد الكارثة التي أصابت لبنان باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، والتي انعكست اختلالاً سياسياً داخلياً، كاد يتحوّل إلى شقاق وإلى فتن، خصوصاً مع الضغوط الدولية التي مارستها دول عظمى على بعض القوى السياسية وزيّنت لها إعادة التفكير بمشاريع التقسيم ولو على شكل كونفدراليات طائفية.
كما أن اللبنانيين حفظوا للمملكة، وبالذات لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، الدور المميّز في التعاطف مع المقاومة ممثلة ب حزب الله وقائدها السيد حسن نصر الله، وقد وصفه في أكثر من مناسبة بأنه ولدنا وحيّا جهاده ووعيه ويقظته وحرصه على وحدة اللبنانيين وجهده المؤثر في إحباط مشاريع الفتنة.
ويحفظ اللبنانيون بالتقدير العلاقة الحميمة التي نشأت بين قيادة حزب الله وسفير المملكة في بيروت، وتأثيرها الطيب على حسم العديد من الإشكالات وإعادة التفاهم بين الأطراف المختلفين، سواء داخل الحكومة أو من بقي خارجها من القادة والأقطاب السياسيين.
ولم يعد سراً أن المملكة قد وجّهت أكثر من دعوة للسيد حسن نصر الله لزيارتها، تقديراً منها لجهاده في سبيل الأمة، وصمود المقاومة التي شرفته بقيادتها في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي واعتداءاته المتكرّرة على لبنان.
لهذا فوجئ اللبنانيون بتعديل طرأ على لهجة البيانات السياسية التي تعبّر عن موقف المملكة في الأيام القليلة الماضية، والتي استخدمت توصيف المغامرين وهي تشير إلى موقف المقاومة التي نسبت إليها ظلماً أنها تسبّبت في الحرب الإسرائيلية الجديدة على لبنان… ثم عبّر هذا التعديل عن نفسه بصيغة أوضح في الموقف الذي اتخذه وزير خارجية المملكة الأمير سعود الفيصل في الاجتماع الأخير لمجلس وزراء الخارجية العرب في الجامعة العربية بالقاهرة قبل ثلاثة أيام.
ومع أن الإشارة إلى بعض العناصر والتيارات وانزلاقها إلى قرارات منفردة استغلتها إسرائيل أبشع استغلال لتشن حرباً مسعورة ضد لبنان الشقيق ، قد وردت في البيان بعد إدانة قاطعة للحرب التي تشنها إسرائيل على لبنان الشقيق وشعبه واقتصاده ومكوّنات حياته ، إلا أن مجرّد إيرادها في بيان علني من شأنه أن يضعف من عزيمة اللبنانيين، وأن يشجع بعض المتخاذلين أو بعض الذين أتعبهم الصمود أو بعض أصحاب الأغراض وبعض المنتفعين بالانشقاق الداخلي والعاملين لتحويله إلى فتنة، على الاندفاع في مغامراتهم إلى حدها الأقصى… فهذا أكثر ما يخدم إسرائيل ويفيد مشروعها في هذه اللحظة.
لقد عوّدتنا المملكة أن يكون العتاب ، متى وجب إبداؤه، في الغرف المغلقة، كما يفترض بالعلاقة بين أخوين، خصوصاً متى كان أحدهما يواجه حالة حرب ظالمة ووحشية تدمّر بلاده جميعاً، وتشكّل اعتداءً على الأمة وتحدياً لإرادتها… ثم إن هذه الحرب تحقق للعدو أهدافاً خطيرة ستنعكس على الوطن العربي برمته، خصوصاً في ظل أجواء الفتن المدبرة التي أطلقها الاحتلال الأميركي للعراق، والتي لا تنكر إسرائيل أنها شريكة فيها، وأن أدواتها بعض أهل التطرف الذين أخذهم التعصب إلى قتال المسلمين وأعماهم عن مواجهة المحتلين، فصاروا في موقع الشريك لهذا الاحتلال، بل إنهم أضافوا إلى مظالمه هذه الفتنة التي تتهدد العراقيين وتنذر بالتمدد إلى سائر الأرض العربية، شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً..
ولو أن مثل هذا الموقف صدر عن إحدى الدول العربية المفرِّطة بالقضية القومية الجامعة، فلسطين، والتي ارتضت الصلح مع العدو الإسرائيلي، أو ذهبت إليه صاغرة ومتبرعة، فعززت موقعه وأضعفت مواقع أهلها في مواجهة عدوانه وأطماعه المفتوحة، لما استهجن اللبنانيون هذا السلوك الذي صدر عن أصحابه المفرّطين ما هو أفظع منه، في السابق، وقد يصدر ما هو أشنع منه لاحقاً.
أما المملكة فكانت مصدر دعم للصمود، وأما خادم الحرمين الشريفين فقد توسّم فيه العرب عموماً واللبنانيون على وجه الخصوص، أن يحدث تعديلاً في موازين القوى تفيد منه المقاومة في لبنان (وفي فلسطين) في جهدها من أجل تحرير المحتل من الأرض العربية.إن الحرب الإسرائيلية مفتوحة على لبنان خصوصاً وعلى العرب عموماً منذ نصف قرن أو يزيد… ولم تكن في أي يوم بحاجة إلى تبرير، فهذه هي طبيعة إسرائيل وكيانها العنصري.
.. وهذه الحرب الإسرائيلية الجديدة كانت قيد التحضير، وكانت مقدماتها واضحة، وهي أفظع وأخطر وأكثر دموية ووحشية من أن تبرّرها عملية للمقاومة (خطف الجنديين الأسيرين)، كان سبق لها أن قامت بمثلها مرات من دون أن تفيد العدو في تبرير اعتدائه الجديد.
… وهو اعتداء مدمر يتجاوز بتأثيراته لبنان إلى كل الأرض العربية.
والأمل دائماً أن تكون المملكة إلى جانب لبنان ومقاومته، وأن تسند صموده، وأن تعزز قدراته على مواجهة هذه الحرب التي تكاد تحوّله الى خراب.
أما العتاب فموعده بعد إيقاف الحرب، وهي لن تتوقف إلا إذا عزز الأشقاء العرب، وفي طليعتهم حامي الحرمين الشريفين، صمود لبنان وقدرته على رفض الاستسلام للإملاءات الإسرائيلية.