طلال سلمان

لو سمعت اولبرايت جواد وهادي

لم تتأخر مادلين أولبرايت في اكتشاف جهلها بالمنطقة التي جالت فيها لمدة ستة أيام طويلة، وكان عليها أن تعترف بأن »أزمة الثقة« بين إسرائيل والفلسطينيين أعمق بكثير ممّا كانت تعتقد،
وبديهي أن »الفلسطينيين«، هنا، يختصرون العرب جميعاً، عدا بعض ملوكهم وبعض سماسرة اتفاقات الإذعان وبعض الذين تعوّدوا أن يبيعوا الأوطان مفروشة للأجنبي، وتحديداً: للأقوى من بين الأجانب والأعظم قدرة على استثمار الموارد الهائلة لهذه الأرض الغنية.
قبل يومين من »اكتشافها« هذا، كانت وزيرة الخارجية الأميركية تعيد وتشدّد في بيروت على ما سبقت ان قالته في أكثر من عاصمة عربية (إضافة إلى إسرائيل) من أنه »من المهم جداً أن تنتهي أزمة الثقة الحالية، ويجب أن يتوصل القادة إلى تحقيق خرق حلقة الاتهامات المضادة والبدء من جديد باتخاذ القرارات الصعبة والخطوات المطلوبة لدفع عملية السلام قدماً«.
بل هي وصلت في تخيلاتها، إن لم يكن في أوهامها، إلى ما هو أبعد: »فالسلام بإمكانه أن يفتح الباب أمام الازدهار، ويسمح للأطفال بأن يكونوا كذلك وللعائلات أن تجتمع حول مائدة العشاء وليس في المدافن، وللأجداد أن يعيشوا حياتهم بكفاية.. ويقدم لكل شخص ما أشار إليه الرئيس كلينتون »كمعجزة هادئة لحياة طبيعية«.
على أن أولبرايت لم تستطع أن تستشهد »بالازدهار« الذي حققه »السلام الإسرائيلي« في فلسطين المحتلة، كما أنها كانت مضطرة لتجاهل الأطفال الذين لا يستطيعون أن يكونوا أطفالاً هناك، والذين يجبرهم ذلك »السلام« على أن يصطنعوا »المعجزة« حتى لا يُحكم عليهم بالموت من قبل أن يتعرّفوا على الحياة الطبيعية،
كذلك لم يوفر »السلام الإسرائيلي« للشعب في الأردن أن تجتمع عائلاته حول مائدة العشاء، بل أن تلك العائلات تكاد لا تجد عشاء، الآن،
أما عروض »السلام الإسرائيلي« فقد كلّفت لبنان، وهي ما تزال تكلّفه يومياً بعض دماء بنيه والكثير من رزقهم وتحرمهم من الكفاية ذاتها وليس من الازدهار الذي ما زال في مستوى الأحلام، كما أنها تكاد تبقي العائلات في المدافن.
ولولا عروض »السلام الإسرائيلي« على لبنان لكان بوسع مادلين أولبرايت أن تلتقي، على سبيل المثال، الملازم الأول جواد عازار أو زين العرسان هادي حسن نصر الله، وأن تسمع منهما ومن رفاقهما الميامين ما كان يوفر عليها سوء التقدير والخطأ في الاستنتاج ومن ثم »الفشل« في مهمتها الأولى في المنطقة.
لم يكن الملازم الأول جواد عازار يطارد بنيامين نتنياهو في حديقة »بيته«، ولا هو كان يحمل قنبلة ذرية، ولا كان يغير بطائرته الحربية الأميركية المطوّرة على المقدسات التوراتية في فلسطين، كما أنه لم يكن بالطبع من المسؤولين »النازيين« عن المحرقة أو معسكرات الاعتقال وأفران الغاز في بولونيا،
كان، بوصفه ضابطاً في الجيش اللبناني، يقوم بواجبه الأمني في »ضيعة« لبنانية في جبل عامل تُدعى »عربصاليم«. وكان سلاحه مسدسه الأميري، ومعه مجموعة من الجنود من أبناء الناس البسطاء، يتوزعون بين المدرسة وبعض البيوت المهجورة، لطمأنة الأهالي إلى أنهم ليسوا وحدهم في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية اليومية.
ولقد سقط جواد عازار ومسدسه في يده بصاروخ أميركي قصفته به حوامة عسكرية إسرائيلية أميركية الصنع، وسقط معه مجموعة من جنوده البسطاء أبناء الفلاحين والتجار الصغار وأصحاب الحرف ممّن يحلمون بتلك »المعجزة الهادئة لحياة طبيعية«.
كذلك فقد كان هادي حسن نصر الله، الذي قطع دراسته لأنه كان يؤمن بأن الاحتلال الإسرائيلي سيغتال غده، يحمل السلاح للدفاع عن أرضه، أرض آبائه وأجداده. لم يكن »مستوطناً« استقدمه الحلم الأمبراطوري بإسرائيل الكبرى من أقاصي روسيا أو أوكرانيا أو بولونيا أو الحبشة، ولم يقطع آلاف الأميال ليحمل الموت إلى أطفال الآخرين ونسائهم والعجائز. كان يحاول حماية حقه في أن يعيش فوق أرضه. وهو بالتأكيد كان يحلم بالسلام لوطنه، ومن أجله حمل السلاح، مفترضاً أن جهاده قد يقرّب يوم زفافه بعروسه التي كانت تنتظر عودته إليها لكي يبدأ حياة طبيعية بسيطة، كسائر الخلق.
لم يقتل هادي نصر الله طفلاً ولا امرأة ولا شيخاً، ولا حتى رجلاً عادياً. كان يحمل السلاح ليمنع الجنود الإسرائيليين المزودين بأحدث أسلحة الموت والتدمير، من قتل أهله ومن اغتيال تاريخه ومن إهدار حقه في وطن حر وفي غد أفضل.
كان هادي نصر الله يحاول، بجهده، »حماية حياة المدنيين وتخفيض حوادث العنف« التي ترى أولبرايت أنها مهمة لجنة المراقبة اللبنانية الإسرائيلية.
كان جواد عازار وهادي نصر الله ورفاقهما يجتهدون لحماية الأمل ويحملون السلاح دفاعاً عن كرامة الأرض وإنسانها.
كان جواد وهادي ورفاقهما يغتسلون يومياً بنور الشمس ويسامرون النجوم وينتشون بعطر الصعتر وزهر الليمون والبلان، ويسعدهم أن تشنف آذانهم نغمات شجية يترنم بها شحرور طليق أو بلبل عاشق أو كروان يغازل حبيبته التي تسوق عليه الدلال.
ولقد قتل »السلام الإسرائيلي« ذلك كله بوصفه إرهاباً وتخريباً وتهديداً جدياً للأمن الإسرائيلي.
لم يكن جواد عازار وهادي حسن نصر الله ورفاقهما بين المدعوين للتثقف بمحاضرة مادلين أولبرايت التي خاطبت بها »غرور« اللبنانيين في »فوروم بيروت«، الإثنين الماضي،
لكن جواد عازار وهادي نصر الله ورفاقهما، وكذلك مَن سبق إلى الشهادة ومَن سينضم إلى القافلة المباركة غداً، مشاعل تضيء الطريق إلى السلام الحقيقي الذي لا يمكن أن يفهمه أو يتعرّف إليه أو يقبله متعصّب متطرّف يعميه هوس القوة مثل بنيامين نتنياهو،
والثقة لا تُبنى بالتمييز العنصري ولا بالتفوق العسكري ولا بالمجازر الجماعية ولا بمواعظ باردة مثل التي سكبتها علينا مادلين أولبرايت خلال زيارة الساعات الثلاث للبلد الذي يكاد يحرقه »السلام الإسرائيلي«.

Exit mobile version