اليوم، ومن على بُعد أكثر من أربعين سنة، وهو كاف لوضوح الرؤية، يمكن القول إن «حادثة بوسطة عين الرمانة» كانت نقطة الانطلاق نحو حرب أهلية عربية، كان لبنان مسرحها الأول (وفي حقيقة المسرح الثاني بعد الأردن..) ما تزال مستمرة حتى الآن، وإن تعددت جبهاتها، وها هي نيرانها اليوم تلفح العديد من الأقطار العربية على امتداد المساحة بين اليمن وليبيا، مع احتمالات مفتوحة لخطر التفجر في كل من الجزائر وتونس والتخوف من أن تمس تخوم مصر.
هل من الضروري التذكير بأن انفجار الحرب في لبنان وعليه وعلى المقاومة الفلسطينية فيه بعد سنة ونصف السنة من حرب تشرين 1973 التي أرادها بعض القادة العرب آخر الحروب مع العدو الإسرائيلي؟
كانت الأطراف اللبنانية والفلسطينية التي اندفعت (أو دُفعت) إلى ميدانها الدموي تختزن دولاً عدة، إسرائيل وكثيراً من العرب وبعض العالم بشرقه وغربه، ولكل دولة أغراضها وأهدافها منها وفيها… وإذا كان شعب لبنان، ودولته الضعيفة، والمقاومة الفلسطينية بمنظمة التحرير التي تحكمها معادلات معقدة ومعها شعب فلسطين، قد دفعوا الثمن بالدم والاقتصاد وأرواح الشباب والكهول والأطفال، وأسباب العمران، فإن قضية فلسطين قد لحقها أذى عظيم كاد يذهب ببعض قداستها..
والأخطر من ذلك كله كسر الحرم على التعامل مع إسرائيل التي كان أول من دشنه الرئيس المصري الأسبق أنور السادات… وأصاب رذاذه قيادة منظمة التحرير، التي توهمت، للحظة، أن صفقة السادات مع العدو الإسرائيلي ربما توفر لها موقعاً تفاوضياً أفضل.
لبنانياً: نحب أن نتحدث عن «حرب لبنان» أو «الحرب على لبنان وفيه» لنغفل الأطراف الأخرى، والفلسطيني أساساً، محتكرين موقع الضحية… حتى بعدما تكشفت تفاصيل العلاقة السرية بين بعض القوى السياسية في لبنان والعدو الإسرائيلي، وبذريعة مواجهة السلاح الفلسطيني.
وعربياً: نحب أن نتجاهل تصريحاً شهيراً للسادات، ولمجلة لبنانية كانت تصدر في لندن، في أواخر العام 1975 يقول فيه: «إنتو لسه في لبنان ما شفتوش حاجة… دي الحرب في البدايات».
وعلى هامش تلك الحرب التي تبدّت، للحظة، أهلية، سيحصل أول انشقاق ولو محدود في الجيش اللبناني (سعد حداد)، وسيرعى العدو الإسرائيلي هذا الانشقاق (1977) في الجنوب وقد حاولت السلطة التستر عليه بفرض الرقابة على الصحف… وهو الانشقاق الذي سيتعاظم بعد وقت مشكلاً ساتراً لبنانياً للعدو الإسرائيلي. وبعد سنة، أي في آذار 1978، سيندفع الجيش الإسرائيلي ليجتاح جنوب لبنان حتى مصب نهر الليطاني في القاسمية، مانعاً «قوات الردع العربية» بالقيادة السورية من الوصول إلى حيث كانت خطة انتشارها تقضي بوصولها.
… وهكذا أكمل السادات رحلة الصلح المنفرد بشروط المحتل، وكانت «الحرب» السورية ـ العراقية تحت الشعار الحزبي الواحد قد وجدت في الحرب اللبنانية مسرحاً ممتازاً..
ثم كانت الثورة الإيرانية، في العام 1979، بقيادة الإمام الخميني.. واندفع صدام حسين بعد شهور قليلة (في 2 آب 1980) إلى مهاجمة إيران بتمويل وإسناد عربي (السعودية وبعض الخليج) مما حرم العرب (وقضية فلسطين) من أقوى جيوشهم ومن نصير كبير جاء إليهم بالثورة… وكان الجرح اللبناني مفتوحاً بعد، والمقاومة الفلسطينية تتقافز بين المعسكرين العربيين المتصارعين، بحيث أن العدو الإسرائيلي لم يجد قوة جدية تواجهه حين اجتاح لبنان، حتى عاصمته ـ الأميرة بيروت في أوائل حزيران 1982، وطرد المقاومة منه، وفرض رئيس للجمهورية كان قد «فاوضه» طويلاً، داخل الأرض الفلسطينية المحتلة. وبعد اغتياله، تم تدبير مجزرة صبرا وشاتيلا لإرهاب اللبنانيين ومن تبقى من الفلسطينيين فيه، لا سيما وقد فرض على قوات منظمة التحرير أن تجلو ـ مع قياداتها بحراً ـ في اتجاه المنافي البعيدة (تونس واليمن وأنحاء أخرى)..
ستمتد الحرب العراقية الإيرانية لثماني سنوات طويلة… ليعقبها غزو صدام حسين الكويت، ثم صده واحتلال الجيوش الأميركية لبعض أرض العراق (ربيع 1991).. وستنشب حروب بين اليمنين، وبين الجزائر والمغرب حول الصحراء، وبين ليبيا ومصر، وليبيا وتشاد، وليبيا وتونس، وستنشب حرب أهلية مفتوحة في السودان تنتهي بانقسامه دولتين… وستعقد معاهدة صلح بين مصر والعدو الإسرائيلي، ثم ستعقد في ظلال حرب العراق الثانية ـ التي شارك فيها الكثير من الغرب تحت القيادة الأميركية ـ لقاءات عربية ـ إسرائيلية في روما، ستمتد إلى ما لا نهاية بلا نتائج، وخلالها سيزاح الستار عن اتفاق أوسلو بين العدو الإسرائيلي والسلطة الفلسطينية، وستعود قيادة المنظمة إلى الداخل، وتضيّع المقاومة الفلسطينية الطريق إلى فلسطين.. وستتفجر المقاومة اللبنانية ضد العدو الإسرائيلي طويلة ومكلفة، ليتم إجلاؤه بعد ربع قرن من انفجار الحرب الأهلية (في 25 أيار 2000)، ولسوف تجتاح القوات الأميركية العراق وتُسقط نظام صدام حسين (نيسان 2003) وسيتم اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في شباط 2005، ولسوف يشن العدو الإسرائيلي الحرب على لبنان في صيف 2006… ثم سوف يبدأ تهاوي الأنظمة العربية (في تونس بداية ثم في مصر، ثم في ليبيا) وستجري محاولة لتفجير سوريا من داخلها وعبر حدودها ما تزال مستمرة، حتى اليوم ولا يعرف أحد نهاية لها.
كانت الحرب على لبنان وفيه البداية… وها هو المسلسل يتتابع فصولاً.
وها هي إسرائيل تتبدى كأقوى دولة والأعظم استقراراً في المنطقة التي لا يعرف أهلها ما يكفي من أسباب الاطمئنان إلى غدهم.
وهذا يستدعي قراءة جديدة للحرب الأهلية ـ العربية ـ الدولية في لبنان وعليه.
نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 14 نيسان 2014