كشهداء ظلوا، بعد الاغتيال، واقفين، كانت محولات الكهرباء في محطة الجمهور تنتصب وقد حطّمتها الصواريخ الإسرائيلية ونخرتها الشظايا، وبقايا دخان ترتفع مع الهواء فتنسج جواً درامياً من حول جريمة قتل النور.
يأتون في الظلام ليغرقونا في الظلام، لعلهم في ظل العتمة وتحت ضغط الخراب يفرضون ما يعرفون أنهم لن يأخذوه منا أبداً، بشهادة محاولاتهم في الماضي، وشهادتنا الممهورة بدمنا، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.
وهم يضربون في لبنان الصامد والمقاوم والمقاتل لنفسه كما باسم جميع العرب، وبالأصالة عن ذاته كما بالنيابة عنهم جميعاً، ليأخذوا فيه من العرب جميعاً، أو ليأخذوا باسمه من العرب جميعاً، تارة باسم الإشفاق عليه وطوراً باسم التضامن معه.
ليست التجربة الأولى، ولن تكون الأخيرة، لكن لبنان لن يركع، وأنواره لن تُطفأ، وإيمانه بحقه لن يتزعزع، بل إن عشقه للحياة سيغدو أعمق وأصفى، وسيحيي مهرجانات الفرح، وسيؤكد تلاحمه دولة وشعباً يفخر بمقاومته التي منحته هذه المرتبة السامية لدى أهله العرب، كما في العالم أجمع.
ومما يعزز إيمان لبنان بعروبته ويؤكد طبيعتها كضمانة وشرط حياة أن يبادر إخوانه العرب الى نجدته ومساندته وثباتهم فيه: أن يجيء المصطاف الذي كان قرر الاصطياف فيه، ولو نقصت شروط الترف، وأن يواصل المستثمر والمقتدر نشاطه الاقتصادي والإعماري فيه فلا ينسحب مهرولاً بالخوف أو يسحب ماله لتوقعه نقصاً في الأرباح التي كان يطمع في تحصيلها منه.
ولقد كانت سوريا، وكعادتها دائماً، أول المبادرين وأسرعهم، فوضعت طاقتها الكهربائية تحت تصرف لبنان، هي التي طالما قاسمتنا رغيفها.
وإن مبادرة مثل التي أعلن عنها الأمير الوليد بن طلال، أمس، متبرعاً بقيمة المحولات الكهربائية المقتولة، لإعادة النور إلى لبنان بأقصى سرعة ممكنة، ليست عملاً خيرياً، إنها أعظم من ذلك وأجلّ: إنها تعبير حي عن أصالة العروبة وعن صدق الأخوة.
ونحب أن نفترض أن أشقاء آخرين سيبادرون، ليس بدافع الإحسان والتصدق، بل بموجبات الانتماء القومي الواحد، خصوصاً أننا ما زلنا نذكر باعتزاز مبادرة رئيس دولة الإمارات الشيخ زايد بن سلطان، إلى إعادة النور الى سوريا، خلال حرب 1973، بعدما دمّر العدو الإسرائيلي هناك أيضاً محطات التوليد والتحويل… ويومها حملت المولّدات بالطائرات تعجلاً لقهر العتمة الإسرائيلية وإسقاطها.
فإسرائيل تكره أن يشع النور في أي أرض عربية، نور المعرفة، ونور العلم، ونور القدرة على صناعة الغد، وأولاً الكهرباء..
ننتظر مبادرات رسمية وشعبية، كما الوليد بن طلال، من الأخوة المقتدرين مالياً، من معمر القذافي وليبيا، من الكويت حكومة وشعباً، من قطر حكومة وشعباً، ومن كل محب للبنان ومقدّر لشرف مقاومته.
ننتظر ليس بسبب من شح الموارد في بلادنا، وهي شحيحة، بل أداء لواجب قومي، فاللبنانيون أثرياء وفقراء، مقيمين ومغتربين لن يقصّروا في دفع الضريبة مجدداً لإعادة إعمار وطنهم وتدعيم صمودهم في وجه العدو الإسرائيلي.
لا نطلب إحساناً، إنما نعرض أن ينالوا من لبنان وفيه الفرصة لتوكيد عروبتهم بالمساهمة في دعم مقاومته الباسلة وصموده المجيد، وهو يشمل دولته وشعبه جميعاً.
لا نطلب مالهم صدقة. نطلبهم أن يجيئوا ليكونوا معنا يقاسموننا شرف المقاومة.
وسيبقى لبنان نوارة العرب، ولن يغرق في العتمة الإسرائيلية.
طلال سلمان