تساءل حاكم ولاية نيويورك عن السبب الذي يجعل الفقراء يدفعون الثمن الأعلى بكثير في الكوارث عموما، بما في ذلك كارثة وباء الكورونا فيروس.
الفقراء جُردوا بالأساس من الوسائل التي يحمون بها أنفسهم. جُردوا من المال الذين يصنعونه هم ليذهب لصاحب رأس المال. هم فقراء أساسا لأنهم يتقاضون أجراً يقترب مما يكفي لسداد الضروريات الغذائية والسكنية، وغيرهما؛ ولا يبقى لهم، إذا بقي، من المال ما يستحق الذكر لشراء الأدوية واللقاحات ومعدات الدفاع عن النفس، والدفع للمستشفيات والأجهزة الطبية لسد تكلفة ما يحمون أنفسهم به. الفقراء يدفعون الثمن أكثر من غيرهم لأنهم معرضون أكثر من غيرهم ولا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم. الفقراء هم فقراء لأنهم يجب أن يكونوا كذلك ولأنهم يجب أن يكونوا في صفوف المواجهة الأولية، ولأنهم يجب أن يموتوا أولاً، بالأحرى وحدهم. بالطبع أعدادهم كبيرة. هم غالبية المجتمع، وهو ما يمكن الاستغناء عنه خاصة في مجتمع يعتبر الفقر عبئاً أو الشيخوخة عبئاً. الفقراء خسروا مناعتهم البيولوجية بسبب الفقر ونقص الغذاء. انتهوا الى نفس النتائج التي أصابت المسنين.
الفقراء هم في الأساس من سلخت عنهم حقوقهم. هم المنتجون الذين يصادر انتاجهم صاحب الرأسمال. هم دافعو الضرائب كاملة مع قبض أجورهم ورواتبهم. صاحب العمل يدفع لاحقاً (سنوياً). الفقير يدفع بالاقتطاع من أجره اليومي والأسبوعي؛ أحياناً الشهري. هم المستهلكون، خاصة للبضاعة الخسيسة. اذ لا يستطيعون الوصول للبضاعة النفيسة. وفي هذه البضاعة يكثر الفساد والإفساد بما يضر بالصحة، بعد الضرر بما في الجيب. الفقراء لا يستطيعون الخروج الى أماكن نائية من أجل الحماية. عليهم العيش لصيقين ببعضهم في مناطقهم الفقيرة بدورها، لأن لا مكان آخر يذهبون إليه، ولأن ما لديهم من المال لا يسمح لهم بذلك. هم فقراء لأن المال شحيح لديهم، وهم في نفس الوقت مديونون بسبب الشح، وبسبب أن الرأسمال يعتبر أنه يجب أن :يسترد” ماله. الرأسمال يعتبر أنه مصدر الحياة. هو يعطي الحياة للفقراء. يستطيع أن يستردها متى يشاء. القدرة، بسبب حيازة المال، التي بيد الرأسمال تجعل المساواة النظرية التي يتمتع بها الأغنياء أكثر مساواة من الفقراء.
لعنة “الفقر” نزلت بالفقراء. اللعنة تعبير ديني. يفترض أن مصدرها إلهي. تحالف الرأسمال والدين واضح. يجد أهل الدين في هذا الحلف مورداً للمال. يحتاجونه في هداية الفقراء الى السماء لإسكاتهم عما يجري في الأرض. نادراً ما وقف أهل الدين الى جانب الطبقات الفقيرة في الثورات ضد رأس المال. ما أجبر أحد رجال الدين على تبني ايديولوجيا الدفاع عن رأس المال سوى الجشع والشبق الى المال. رجال الدين باعوا نفوسهم لشيطان المال. الفقراء ليس لديهم ما يبيعونه لعقد صفقة مع الشيطان. الصفقة مع الشيطان يعقدها رجال الدين والشهود أصحاب رأس المال.
هي حرب غير متكافئة بين الفيروس والبشرية. الفيروس قضية أممية. هو لا يميّز بين البشر، لا بين أديانهم وثرواتهم ومذاهبهم وقومياتهم ودولهم. الفيروس موحّد الصفوف والسلاح. البشر الذين يميزون بين أنفسهم. نظامهم هو الذي يجعل منهم الفقراء أقل قدرة على المواجهة. في كل الحروب يتخذ الأغنياء، القادة والنخب، قرارات الحرب. الجيوش التي تقاتل هي العامة. يموت العامة في الحروب. حماية الرب هي فقط لعلية القوم، للأغنياء الذين إذا خدموا في الجندية تكون مناصبهم هي الأعلى، وهي الأقل ضحايا نسبياً. الفقراء دائماً في خط المواجهة. عبء الموت يقع عليهم. مكتوب لهم أن يموتوا.
هي حرب غير متكافئة. عدالة ومساواة بين الفيروسات. هل يسمح سادة الأرض بالعدالة والمساواة بين بني البشر؟ أليس التمييز بينهم هي الذي جعل القلة في ذروة القيادة والكثرة في صفوف المواجهة؟ أليس التمييز بينهم هو من صنع النظام السياسي الاجتماعي؟ تدعو الرأسمالية اليى تضامن بين البشر، مؤقت، مجرد مؤقت؛ ومحصور بهذه المواجهة. تضامن من فرقهم الرأسمال ضد من وحدتهم الطبيعة. كي لا تكون حصة الفقراء من الموت أكثر وأعلى نسبة على الرأسمالية أن تدعو الى التضامن والتعاون في كل وقت. هذا أمر يستدعي إنهاء النظام السياسي ـ الاجتماعي الرأسمالي. هل تسمح الرأسمالية لنفسها بذلك وهي قامت منذ الأساس على التمايز والتمييز؟ على صنع القيمة لدى الفقراء واقتطاعها منهم بعد انتهاء العمل؟ يدفع الفقراء حصة أكبر من العبء لأن النظام يريد ذلك؛ يعيش على ذلك. لا يستطيعون الاستمرار بغير ذلك. تكدس الثروات بيد قلة معدودة هي مصدر الفقر. وهي بالتالي مصدر ثقل الأعباء على الفقراء. يبدو السؤال بريئاً حين يطرحه حاكم ولاية نيويورك. الجواب هو أن مشكلة الفقراء هي في وجود الثروات بيد القلة. المشكلة هي الثروات لا الفقراء. والثروات محيّدة في معظمها عن هذه الحرب، كما عن كل حرب، كي يدفع الفقراء ثمنها.
يحارب كل أركان النظام “مشكلة” الفقر، من البنك الدولي الى رؤساء الجمهوريات، الى كل المرشحين للمناصب العالية في الأنظمة حول الكرة الأرضية. فهل منهم من طرح مشكلة الثروة إلا قلة قليلة من المرشحين الذين ينهزمون في الانتخابات؟ الثروة منة من الله، وقد سمعت هذا الكلام من بعض الأغنياء. فهي تتطلّب حماية إلهية. الفقر مسألة أخرى. النظام لا يعالج مشكلة الثروات. أصحابها يهنأّون عليها. حيازتها تعتبر نجاحاً في الحياة. صارت الحياة في الأرض تدور حول المال، لا غير. من لا ينجح في جمع المال لا يُعتبر ناجحاً في أي شيء آخر، حتى لو كان أعلم أهل الأرض. أبصار كل أهل الأرض تتجه الى هؤلاء الناجحين. هؤلاء النجوم. وهم فعلاً يُعرضون على الشاشات كنجوم. لا يُعرض فقير إلا إذا كان موضع شفقة وإحسان. يكون الاحتفال حقيقة بالمحسنين. لا أحد يسألهم عن مصدر ثرواتهم. أليس هو عمل الفقراء؟ أليس هو نهب المجتمع؟
يصيب الوباء المسنين أكثر من غيرهم. يقال أنه مع العمر تخف المناعة. لكن أليس هناك أسباب أخرى؟ لم يعد المسنون يعملون. لم يعودوا مصدراً للقيمة. لم يعودوا صناع الثروات التي تنتهب منهم. فلماذا وجودهم؟ المعروف أن الهجوم على صناديق التقاعد عمره بضعة عقود من السنين. مشكلة كبرى في جميع البلدان أن المسنين أصبح عددهم كبيراً بعد التقدم الذي “أصابه” النظام الصحي على مدى قرون. صار المسنون مشكلة مالية. صار الفقر مشكلة النظام. عند بعض الشعوب البدائية يأخذون، بكل بساطة، المسنين ويتركونهم في أعالي القمم ليموتوا دون من يعيلهم. هل النظام الاجتماعي الحالي مع كل تقدمه غير ذلك؟
أكثر ما تأذى في الأزمة المالية لعام 2008 هو صناديق التقاعد. عملياً أفرغت مما فيها. وخسر المسنون مدخرات تقاعدهم التي هي في الأساس مقتطعة من أجورهم. وهي أشبه بالايداعات في المصارف. كأنهم في مجتمعات بدائية ترميهم جانباً وبعيداً كي يموتوا ميتة “طبيعية” دون من يهتم بهم.
مرة سألت أحد كبار المرشحين للرئاسة في بلد عربي كبير، قلت: تتحدثون عن مشكلة الفقر ولا تتحدثون عن مشكلة “الغنى”. رمقني بنظرة غاضبة. أحسست بضرورة وضع حد للنقاش وإلا أطرد من المكان.
نعيش هذه الأيام حجراً منزلياً “طوعياً”. طبيعي أن تكون مشاهدة الشاشات هي الغالبة في تمضية الوقت. تعرض الشاشات الأرقام عن الإصابات بتواصل. التحليلات كثيرة، لكن ليس منها تحليل واحد عن التركيبة الطبقية للإصابات. أخطأ حاكم نيويورك بحق طبقته عندما طرح السؤال. لا بدّ وأنه يريد في الحملة الانتخابية المقبلة أن يذكّر الفقراء بأنه سأل عنهم. وكفاها المولى.
أحياناً يتحوّل الفقر الى مجاعة. يقال أنه يكاد يفعل ذلك في لبنان الآن. لا بدّ وأن هذا التحوّل يحصل الآن حول العالم. سوف يعالجون العوارض لا الأسباب. يعالجون المجاعة لا الفقر.
الفقر لا يولد كذلك؛ يجعله النظام الاجتماعي كذلك. يصير كذلك بفعل التراتبية الاجتماعية الرأسمالية التي تتطلّب أن يكون البعض أعلى من الآخرين، وهذا البعض هم من يملكون المال ووسائل الإنتاج. الفقراء يعملون عند أصحاب رأس المال. عندما لا يعملون لا يقبضون. هناك دائما جحافل من العاطلين عن العمل لأخذ مكانهم كي تبقى الأجور متدنية.
الفقر هو الوجه الآخر للثروة. الفرق بينهما أن أصحاب الثروة عددهم قليل وثرواتهم تزداد. والفقراء عددهم كبير وما لديهم ينقص. لا يستطيع الفقراء، العمال، وغيرهم زيادة أجورهم إلا بالعمل الجماعي، أي النقابي. تراجع هذا الأمر بعدما نقل ” المستثمرون” الغربيون قسما كبيراً من صناعاتهم للشرق. هناك حيث لا نقابات وحيث تبقى الأجور متدنية بالقمع ولا يجرؤ العمال وبقية الفقراء على المطالبة بالمزيد. في شرقنا العزيز استبداد يستخدمه الغرب كي لا يستخدمه عندهم. ما تبقى من دولة الرفاه هو ما تبقى من الخوف لدى الطبقة العليا الغربية حين كان الاتحاد السوفياتي قائماً. بعد سقوطه، وحتى قبله، بدأت النيوليبرالية. وكان من أهم البنود على جدول أعمالها فكفكة أو إلغاء النظم الاجتماعية، إذ اعتبرت أن ليس لها منافس اشتراكي يحرض الطبقات الفقيرة. الفقر ظاهرة قديمة، أقدم من الرأسمالية. التراتبية الاجتماعية قديمة، أقدم من الرأسمالية. التمايز الاجتماعي بين من يملك (الأرض مثلا) ومن لا يملك ظاهر في مختلف مراحل التاريخ. الفرق بين الرأسمالية والأنظمة الاجتماعية السابقة لها هو أنها حملت التجريد، تجريد القيمة، الى أقصاه، فكان المال هو هذا التجريد. تجرّد القيمة المادية في المال وعمله معك أينما رحلت، وتجرّد الأوثان في إله واحد تحمله معك أينما كان.
ينتهي التجريد الى البورصة. هناك يتبادلون بقيم اسمية تشير في الأصل الى قيم مادية ثقيلة الوزن. القيم الاسمية أرقام. أرقام مقابل أرقام هي حقيقة تراكم الثروات فوق الثروات. الذي يتبادل الأسهم في البورصة لا علاقة له بعملية الإنتاج. لا يعرف مكان العمل حيث الشركة أو الشركات التي يشتري أسهمها، ولا يهتم بذلك. هو يربح من بيع الأسهم، أو شرائها، أو يخسر أحياناً. لكن البورصة، أي مجمل الأسهم، في ارتفاع دائم إلا في الأزمات، أزمات الديْن، أو بالأحرى تفاقم الديْن، بحيث أنه لا بد لأحد المستثمرين، أو المستدينين للمراهنة في سوق الأسهم، أن يتجاوز حده وينهار. وعندما ينهار، تنهار معه سلسلة دائنين ومديونين هو منهم. المهم أن عملية تبادل الأسهم هي في الحقيقة تبادل مال بمال. مع تفاقم تجريد المال، وانقطاع صلته بالاقتصاد الحقيقي، وبقاء الأجور (اسميا) على حالها، انخفضت القوة الشرائية للأجور، وصار لا يطال فقط العاطلين عن العمل بل العاملين حتى في البلدان الصناعية الكبرى، والتي ضمر إنتاجها الصناعي وتوسّعت خدماتها المالية. الخدمات المالية اسم على غير مسمى. هي ليست خدمات بل هي أوامر يصدرها أصحاب المال، كطبقة وأفراد حول العالم. لم يعد المال وسيطاً بل صار أميراً. ينتقل من بلد الى بلد بحرية تامة. يرفع ناساً ويدني آخرين. كل بلد يخرج منه المال (الاستثمارات) يهوي الى أزمة. كل بلد يريد أن يرتفع شأنه يلهث وراء الاستثمارات.
التضخّم الناتج عن ذلك: زيادة لا متناهية بكميات المال والأوراق المالية مقابل كميات ثابتة، أو شبه ثابتة من العمل. طبيعي حينها أن تنخفض القيمة الشرائية لما في يدك من مال حتى ولو بقيت القيمة الاسمية كما هي. سبب كبير في غلاء الاسعار وفي تفاقم الهوة في المداخيل والثروات المتراكمة، وتفاقم في مستوى الفقر.
الفقراء، منهم من يعملون بأجور متدنية (حتى قيمتها الاسمية ما ازدادت منذ ظهور النيوليبرالية في أواخر السبعينات) ومنهم من لا يعملون، ومنهم من يعملون في الاقتصاد الموازي الشرعي وغير الشرعي. ربما بلغت قيمة تجارة التهريب والمخدرات والرقيق الأبيض وتبيّض العملة حوالي نصف اقتصاد العالم. لا يستطيع الاقتصاد الشرعي الاستمرار دون غير الشرعي منه، دون اقتصاد موازٍ يعرف الجميع أنه هناك في مدن التنك في ضواحي المدن وفي ناطحات السحاب وأروقة مجالس الإدارة.
كل ذلك يحتاج الى الفقر والفقراء. يحتاج الى قطعان من البشر مقطوعي الصلة بمصادر الثروات. أرواحهم معلقة بالمال والاستثمارات. الفقراء يدفعون الثمن. الثمن الذي يدفعونه ليس فقط قوة عملهم بل أرواحهم. هم ضروريون ليتذكر الأغنياء عظمتهم ويذكّرون الفقراء بها. عظمة ترتكز الى المال. أحد أهم أسباب القوة الاجتماعية. القوة التي تحجب أسباب الضعف عند الأغنياء، ومنها الضعف العقلي وضيق الأفق وسطحية العقل وانعدام الأخلاق. يستطيع الأغنياء أن يكونوا سفلة في كل شيء، لكن ملكيتهم للمال تحميهم. يمكن للفقراء أن يكونوا ذوي شرف وعلم وارتفاع منزلة في كل شيء آخر إلا المال. لكن المال يضعهم موضع الذل.
الفقر ليس إضافة للنظام. ليس إضافة يستطيع النظام الاستمرار بدونها. الفقراء هم صناع القيمة وهم قاعدة التراتبية الاجتماعية. عليهم ترتكز السلطة وإن كانت تحتقرهم وتدينهم، وترى فيهم ما لا يستحق الاحترام والوجود. لكن وجودهم اجباري. بكل بساطة هم أكثرية المجتمع. الحكام لا يكونون حكاماً إلا ولديهم مجتمع، ولو كانوا يستبدون به ويعاملونه أسوأ معاملة.
برامج محو الفقر وإزالته غير مجدية إذا لم تكن هناك برامج لإسقاط النظام وتغييره. بغير ذلك يكون الإحسان عمل خير يُشكر أصحابه عليه. عمل الخير جزء من البرنامج اليومي لأصحاب الثروات. عليهم أن يظهروا جانباً جيدا من شخصياتهم. الإحسان خدمة لا بد منها للنظام. الناس الطيبون يحسنون لكن الرأسمالية تحسن لما فيه فائدة أكبر لها.
الفقر ضروري للرأسمالية لا البشرية. تستطيع البشرية الوجود بدونه. وعليها أن تفعل ذلك. في المحصلة، كلما كان الفقر شاملا وعميقاً وبنيوياً أصبح إهانة للبشرية لا تستطيع الرأسمالية أن تستمر بد. هو جزء بنيوي فيها. ليس كالفقر دليل على تناقض البشرية وصفاتها الأخلاقية والسياسية مع الرأسمالية واعتدائها الوجودي على الإنسان في إنسانيته.
يدفع الفقراء ثمن الوباء وغيره من الكوارث لأنهم دون غيرهم من الجنس البشري. هم الذين فيهم بقايا الكرامة والأخلاق والحاجة الى السياسة.
تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق