“أنا بخير.. أعرف أن بالك انشغل، ولكن لا شك تذكر أنني نبهتك إلى أن منصبي الجديد سوف يضيق الخناق على أوقات فراغي، هذه الأوقات التي كانت تسمح لنا بلقاءات ممتدة ومكالمات في الصباح الباكر وفي الليل المتأخر. كنت وأنا أودعك أودع أيضا تلك الأوقات. لم يكن الفراق وحده مصدر قلقي، إنما كان الفراق وظروفي العائلية التي بدأت تتعقد وضخامة المسؤولية التي سوف تُلقى على عاتقي منذ أول يوم أتقلد فيه مهام المنصب الجديد. أستأذنك في دقيقة واحدة أترك الهاتف مفتوحا عليك وأذهب إلى غرفتي لأحضر وسادتي التي أرتاح لها وترتاح لي فالحديث بيننا كالعادة يطول”.
غابت أكثر من دقيقة. تذكرت أن آخر غياب لها بدأ باستئذان لدقيقة واستمر أربع سنوات. لم يدر حتى بخلدي أنها يمكن أن تغيب مرة أخرى لمدة هكذا طويلة فصوتها أنبأني برغبة في أن تتكلم وتتكلم. نعم أذكر جيدا لقاءنا الأخير قبل توليها المنصب. كنا في مطعم حديث الافتتاح في حي المهندسين نشترك هي وأنا في أريكة جلسنا عليها وأمامنا إفطارها المكون من “أومليت” بلون ذهبي أنيق ومكعبات صغيرة من بطاطس حارة وأمامي صحن به أذكى ما اشتهر به هذا المطعم، حامل أحد الأسماء العتيدة والمحترمة في باريس، العاصمة التي عرفت كيف تقرن الطعام بالثقافة في أي مكان يتصادف أن يوجدا فيه معا دون أي حرج لأى منهما. خرجنا إلى الشارع حيث وقفنا لثوان تبادلنا خلالها عبارات وشعائر توديع تتناسب مع المكان والسفر البعيد وفضول المارة. وعدتها باتصال هاتفي خلال يومين ونفذت الوعد.
“تلقيت رسالتك التي بعثت بها إلى أي من كان تسأل عني. من أوروبا وصلتني ومن الجونة وأسوان والأمريكتين. انشغل بالك بطبيعة الحال ولم نتعود على أن يغيب أحدنا عن الآخر أكثر من أسابيع معدودة نعود بعدها بكل الأخبار. عدت مرة من غياب لأبلغك ان ابنتي نجحت في امتحانات القبول بجامعة معتبرة. ومن غياب آخر حملت لك أنباء غير سارة عن مرض أبي الذي كما تعلم قدر مكانته في حياتي. غبت مرة ثالثة انشغلت وقتها في إدارة واحدة من أشد أزمات زواجي شراسة. تعرفها جميعا. تعرف كيف كانت تبدأ وكيف ومتى انتهت، أو بكلمة أدق، كيف أجلنا مصيرا كان منذ البداية محتوما ولكننا رغم نصيحتك راوغنا وزيفنا مشاعر وخضعنا لدموع طفلين وتوسلات جدين.
أسمع زفرات تكشف عن قلقك. ما ذنبك؟ أرى مسوح آلام تكسو وجهك مع كل سعلة تسمعها وهي تجرح حلقي بعد أن أنهكت صدري. اخفيت سيرتها عنك شهورا. تصورت أنه لن تفوت عليك جدية حالتي المرضية، وأدركت الآن أن تصوراتي كانت محقة. حدث ما توقعت. أضفت إلى القلقين من المحبين محبا. ألم يكن أفضل لك ولي أن أستمر أخفي عنك آلام عظامي وأوجاع صدري وتقلصات عضلات وجهي؟. ها أنت تسمعها في سعلاتي وتأوهاتيي وأنفاسي المتقطعة فما الفائدة لك، ما الجدوى؟. لماذا في التقاليد يصرون على إعلام الغائب البعيد؟ أنت الآن غير غائب ولكنك بعيد. لا تستطيع أن تفعل شيئا لا يفعله العلاج الذي أخضع له. فكرت للحظة أنه بالخيال يمكنني أن آتي بك إلى هنا حيث أقيم بعيدة عنك، مرة أخرى أقول وما الجدوى؟. لن توقف باقترابك أو حتى باحتضاني آلام صدري. بالتأكيد سينالك من قسوة الألم الشيء غير القليل. أنسيت كم أعرفك وقدرتك على أن تشارك بالفرحة الهادئة ثم الصاخبة أفراح من تحب وأن تحمل نصيبك من الألم وبخاصة من آلام من اخترت من بين ألوف البشر لتحب؟. أنسيت كم كان عمري عندما عرفتك”!
كانت على أبواب العشرين من عمرها. عينان واسعتان وأهداب لا تهدأ وجسم فارع وشعر يختفي جله تحت ما سمي زورا بحجاب. عرفتها مقبلة على حياة، صاغت مشاهد مرحلة شبابها بنفسها دون ما حاجة إلى معلم أو مرشدة. لم تتردد في طلب الرأى والمساعدة لا عن حاجة أو رغبة ولكن لإرضاء من هم فوق عمرها. لم تنشئ علاقات وثيقة مع قرينات وأقران من عمرها. حذرتها إن هي استمرت تبالغ في وصف كل ما تملك وكل ما تشعر به وكل ما تريد أن تفقد صدقيتها. تبالغ في التزام واجبات الدين وفروضه وتبالغ في إزاحة الحجاب كثيرا إلى الوراء. تبالغ في محاولات جذب اهتمام الشبان والرجال وفي الوقت نفسه تبالغ في اختيار أساليب رفضها لهم وطردهم من حياتها. تهلكهم ركضا وتتدفأ بنيران غيرتهم وحجتها أنهم إذا تعبوا راحوا وراء غيرها فترتاح وتريح. ذات مرة في أعقاب هروب شاب أنهكته حتى قطعت أنفاسه وآماله فيها ولم تتجاوز وقتها الرابعة والعشرين همست بالقول، أليس ما فعلته به نفس ما تفعله الغزالة مع صائديها؟، سألتها ولكنك تبالغين في أساليب إنهاك الرجال، أجابت والصيادون يبالغون في المطاردة والكشف عن رغبات ناعمة بعض الوقت ونية الافتراس بقية الوقت.
تسارعت حتى تقاربت السعلات. أعفيتها من الاستئذان وإنهاء المكالمة وفي الحقيقة لم يعد في إمكاني الاحتفاظ بوقار العمر المتقدم حتى لا أندفع في هبة انفعال لضيق أو قلق أو حزن. قاومت. اقتصدت في الإطراء المعتاد والوعود وتجديد العهود. توقف القلب عن تزويد لساني بحلو الكلام. أعرف أنها انتبهت إلى ما يدور في ذهني. قررت أن تتحمل مشقة النطق بتحية التوديع فقالت “اطمئن يا رجل فالطب يتقدم وخلال أيام أو شهور سيتوصلون لعلاج وبعدها تجدني أمامك كما عهدتني. انتظرني ولا تذهب بعيدا. أريد أن أعوض كلانا عما فاتك وفاتني وستساعدني. أليس كذلك؟”.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق