أعطى العرب لبنان ما طلبه وأكثر، في الموقف السياسي، عبر انتقالهم بجامعتهم إليه، ثم بما قرّروه في بيروت تضامناً معه والتزاماً بحمايته في نهجه المقاوم.
بل ان العرب قد أعطوا أنفسهم الكثير، عبر لبنان، إذ استعادوا شيئاً من زمام المبادرة والقدرة على الحركة في مواجهة التعنّت الإسرائيلي الذي يظل عنواناً للتطرّف مهما تعدّدت المناورات والتعهدات المؤكدة بالتواريخ غير المقدسة للانسحاب الذي لا يتم..
لم يكن لبنان »الإبن الضال«، ولم تكن المقاومة المجيدة فيه سبباً لابتعاد أهله العرب عنه، ولا كان التزامه بمبدأ وحدة المسار مع سوريا في ما يتصل بعملية »التسوية« تفرداً أو ابتعاداً عن سائر العرب »خضوعاً للهيمنة السورية« على حساب حريته وسيادته واستقلاله والكرامة والعنفوان الخ.
أكثر من ذلك واهم: لقد أثبت البيان الصادر عن المجلس الوزاري لجامعة الدول العربية، والذي شارك في صياغته ثم تبنّاه أكثر من عشرين وزير خارجية، أن إسرائيل هي التي قسمت وتقسم وتستفيد من قسمة العرب، أما لبنان المقاوم فقد وحَّد العرب، أو أنه بمقاومته المجيدة قد أعاد تجميع العرب وتوحيد موقفهم.
لم يعد لبنان وحده، ولم يعد هدفاً ثابتاً ودائماً للمحاولات الإسرائيلية لاستفراده، أو استرهانه وابتزاز العرب فيه وبه،
بالمقابل، ومن خلال الالتفاف حول لبنان المقاوم، فإن سياسة الاستفراد الإسرائيلي لكل دولة عربية على حدة، قد تلقت ضربة قوية تكاد تطيح بها،
لقد استعادت بيروت بعض وهجها »التاريخي« عبر عودة أهلها العرب إليها وهذه المرة ليس كسواح أو كمصطافين، ولا حتى كمستثمرين، بل لتأكيد هويتهم القومية فيها وعبرها، كما لتأكيد التزامهم بحمايتها عاصمة عربية، لكل منهم فيها نصيب وهي للكل وفي الكل، ليس فقط كمنتدى ثقافي أو كجامعة ومطبعة وجريدة وكتاب، بل أساساً كحصن منيع لصمودهم في وجه الاحتلال ومشاريع الهيمنة الإسرائيلية.
هذه المرة جاء العرب إلى »المعنى« في بيروت، وهم يعودون منها أقوى مما جاؤوا، فقد تزوَّدوا بشيء من زخمها الروحي، ومن بساطتها وهي تؤدي أخطر المهام القومية وأعظمها جلالاً: المقاومة.
* * *
من حق لبنان أن يستشعر، الى جانب الفرح بعودة أهله إليه، شيئاً من الاعتزاز بأنه قد استعادهم على قاعدة الموقف فتقوّوا به بقدر ما تقوَّى بهم وأكثر.
يكفي أن يقرأ أو يسمع أي مواطن عربي ما صدر من تعبيرات غاضبة عن القيادات والكتّاب الإسرائيليين ليتحقق من حجم »الانتصار« السياسي العربي الذي تحقق في لبنان ومن خلال التضامن الذي كاد يبلغ التبني لمقاومته المجيدة.
فشيمون بيريز الذي لم يشتهر بالذكاء الحاد يصف البيان الصادر عن المجلس الوزاري بأنه »غبي«!
وديفيد ليفي الذي هدَّد بإحراق لبنان، وبقتل أطفاله ونسائه والشيوخ، يواصل اندفاعه بالتحدي من موقعه الهجومي فيقول إنه لن يقبل بأن يكون الأمن الإسرائيلي تحت رحمة أحد وأن »إسرائيل ستعمل بحزم من أجل حماية أرواح مواطنيها، جنودها وجنود لحد«!! والأمن هنا تعبير مهذب للاحتلال أو الاجتياح أو الهيمنة الإسرائيلية أو مجموعها معاً!
وإيهود باراك الذي وصل إلى الحكم على خشبة الوعد بالانسحاب من لبنان يندفع بعيداً عن »طروحاته السلمية« فيقرّر أنهم في إسرائيل ليسوا »بحاجة إلى موافقة من جيراننا حول الانسحاب«… هذا بينما يربط كل انسحاب من أرض عربية محتلة، في لبنان وسوريا كما في فلسطين، باستفتاء شعبي، تدليلاً على ديموقراطيته كمحتل، وتدليلاً على شرعية الاحتلال ومن ثم على »حق« الإسرائيلي في ما إذا كانت أرضنا لنا!
* * *
لقد كان اللقاء العربي فرصة ممتازة للبنان أيضاً، لكي يتحقق من مصادر قوته، ومن أسباب منعته، ومن دواعي الالتفاف العربي من حوله: إنه الصمود، إنها المقاومة، إنها التضحيات العظيمة التي أكدت أصالة عروبته،
لقد جاء بهم الموقف السياسي الصلب، وحاولوا أن يرتفعوا بموقفهم إلى قمته، ولم يأتوا كمسعفين أو كمنقذين أو كدفاع مدني وبطائرات تحمل البطانيات وعلب الطعام المحفوظ والحصص الغذائية.
وجاؤوا بينما قيادات »عظمى« في الغرب، أبرزها أولبرايت في واشنطن وجوسبان في فرنسا، يتهمون مقاومته ب»الإرهاب«،
… وبينما بعض المراجع والقيادات المحلية تكاد تحمّل المقاومة وزر استمرار الاحتلال، بل وتكاد تزوِّر التاريخ والوقائع لتجعل المقاومة سبباً في الاحتلال،
وبينما بعض »النخب« ومتصدري صفوف الاعتراض السياسي لا يجدون وسيلة لتأكيد »الاستقلال« إلا بفصل المسار اللبناني عن المسار السوري بحيث يبقى لبنان رهينة التطرف الإسرائيلي ومناوراته المكشوفة والتي »تدوِّخ« هؤلاء بين »الانسحاب باتفاق« و»الانسحاب من دون اتفاق« بينما الاحتلال هو الواقع القائم والمستمر حتى النجاح في التحرّر منه، بقوة التلازم بين المسارين معززاً بالدعم العربي الشامل، كما يؤكد بيان المجلس الوزاري العربي.
لكن هذه الأصوات تبدو الآن وكأنها باتت من الماضي،
أما ما سوف يأتي فسيكون محكوماً بمنطق هذا البيان المعبّر عن تحوّل تاريخي،
ولعل السبب الحقيقي لتاريخيته أنه مكتوب بالدم القاني لشهداء لبنان، مجاهدين وأطفالاً ونساءً ومحطات كهرباء إضافة إلى الجسور وبيوت الفقراء ومواسم الفلاحين وما تحمَّله كل اللبنانيين ويتحمّلونه من بؤس في أسباب حياتهم، ومع ذلك فهم لا يستسلمون!